آلاء والتسعة أكباد.. تراجيديا العدم في سقوط العالم على أعتاب الألم
مايو 27, 2025 2:34 م
*ثائر أبو عياش- الضفة المحتلة:
ثمة لحظات في التاريخ لا يمكن قياسها بالزمن، ولا تُدرك بالعقل وحده. لحظات تصبح عبثاً صامتا، تخلخل الواقع، وتدعونا إلى الوقوف على حافة الجنون، حيث تنهار كل المسلمات، ويتحوّل الألم إلى حالة وجودية مرتعشة.
آلاء النجار، تلك الطبيبة الفلسطينية، لم تكن مجرد إنسانة تداوي الجروح، بل كانت حاملة لمهمة الوجود نفسه في أبهى صوره: زرع الحياة في أحضان أطفال غزة. أخرجت روحها لتلتحم بأرواح أولئك الذين لا يملكون إلا براءة الطفولة وأحلاماً صغيرة، في زمن تحوّلت فيه هذه الأحلام إلى ألغام موقوتة.
وفي ذلك “الجمعة” المشؤوم، عندما غابت الشمس عن بيتها، لم تختفِ الحياة فقط، بل انسحب العقل مع ذلك الصمت الرهيب. هناك، حيث كانت تمسك يد طفل نجا من صاروخ، كانت جثامين أبنائها التسعة تغادر العالم إلى غرفة لا عودة منها. كان موتهم أكثر من رقم. كان قسوة بلا تفسير، عبثاً مميتاً ينطق بصمت.
هل يمكن للجنون أن يكون رد الفعل الوحيد أمام هذا الواقع؟ هل يمكن للعقل أن يتصالح مع جريمة قتل تسعة أطفال دفعة واحدة، والأم، طبيبة دافعت عن حياة كل طفل، إلا أطفالها؟.. الجنون هنا ليس انحرافاً بل دفاعاً أخلاقيا، هروباً مؤقتاً من سؤال لا يُحتمل: لماذا؟.
حين نُسأل عن معنى الحياة مقابل كل هذه القسوة، نكتشف أنّ العالم يتخذ موقفاً لا عقلانياً أكثر منه سياسيا. كيف لعقل أن يبرّر أنّ هناك “تكنولوجيا دقيقة” تعرف من في كل غرفة، ومن في حضن من، ومن يضحك ومن يختنق، ومع ذلك تسمح للحياة أن تُقتلع، وتُهدَر بدم بارد؟.
ماذا يعني أن نكون بشراً في زمن يُقتل فيه الأطفال من أجل فكرة؟
آلاء ليست ضحية فقط، بل هي مرآة تخبرنا عن واقعنا: نحن، نحن الذين نعيش في زمن تجاوز فيه الموت حدود المعقول، وأصبح أسير صفقات سياسية وصمت عالمي. نحن الذين نغرق في أكواب القهوة بعد أن نسمع عن جريمة، ثم نغلق الأخبار ونعود إلى نمط حياتنا، كأنّ شيئاً لم يحدث.
لكن، هل يمكن لهذا الجنون أن يظل ساكناً في صدورنا؟ هل يمكننا أن نغفل عن هذا الجرح المفتوح، هذا الألم الذي يحمل في طياته سؤالاً فلسفياً عميقا: ماذا يعني أن نكون بشراً في زمن يُقتل فيه الأطفال من أجل فكرة؟.
ربما تكمن الفاجعة في أنّ الحرب لا تقتل الجسد فقط، بل تحاول أن تمحو الذاكرة، أن تقضي على معنى الحياة، على الأمل، على روح الإنسان التي لا تعرف الخضوع. هي محاولة لتعطيل الزمن نفسه، لإقناعنا أنّ هذه الجرائم طبيعية، وأنّ الوجع هو قدر محتوم.
لكن، هنا يكمن تناقض عصرنا المجنون: في اللحظة التي ُسلبت فيها حيوات أطفال آلاء، وُلدت منها أسئلة بلا أجوبة، جعلت من المرأة التي فقدت كل شيء رمزاً للصمود والتمرد.
الوجود نفسه أصبح على المحك. ليس لأنّ الموت تجاوز كل الحدود، بل لأنّ الصمت، لأنّ التبرير، لأنّ الخذلان العالمي، هو الذي يكسرنا
زوجها الطبيب الذي كان مثلها يزرع الحياة، لكنّ القدر أراد أن يُغلق القوس: لا أب، لا أم، لا ضحكة، لا بيت. هل من الممكن أن تهزم الحرب روح أم؟ أم أنّ الروح أكبر من الطلقات والصواريخ؟.
الجنون الذي ينشأ هنا هو فهم عميق بأنّ الوجود نفسه أصبح على المحك. ليس لأنّ الموت تجاوز كل الحدود، بل لأنّ الصمت، لأنّ التبرير، لأنّ الخذلان العالمي، هو الذي يكسرنا. الجنون هنا هو الإدراك بأنّنا أمام مأساة أكبر من الأحداث، مأساة في القلب الإنساني نفسه، في الضمير، في الحقيقة التي نرفض رؤيتها.
نحن نعيش في زمن تزداد فيه القسوة، وتضيق فيه مساحات الرحمة، وتتحول الحياة إلى أرقام لا أكثر. أطفال آلاء كان ذنبهم أنّهم وُلدوا في مكان يُعامل فيه الطفل كعدو، كخطأ يجب تصحيحه بالصمت أو بالرصاص. وهذا الصمت، يا لسخافته، هو الذي يجعل من هذه الجريمة عبثاً مألوفا، مأساة متكررة.
في اللحظة التي احترق فيها بيت آلاء، احترقت أيضاً قشرتنا الزائفة من اللامبالاة، وتولّد من بين الرماد شيء جديد، شيء أشبه بجنون الوعي
هل تتخيل كم الجنون في أن يُقتل عشرة أطفال دفعة واحدة، ثم أن يُقال لنا عن “التخلص من أطفال غزة”؟ وأن نرى العالم، بكل مآسيه، يظل واقفاً بلا حراك؟. هل هناك منطق في أن نكون نحن فقط من يبكي، ومن يغضب، ومن يصرخ بلا جدوى؟.
آلاء ليست مجرد أم مكلومة، بل هي جرح بشري مفتوح في جسد الإنسانية جمعاء. هي المقهى الذي نلتقي فيه مع وجعنا الجماعي، المرآة التي تكشف هشاشة قيمنا، ونقصنا الأخلاقي. إنّ ما حدث ليس فاجعة فلسطينية فحسب، بل فاجعة الإنسانية ذاتها.
الجنون هنا ليس انهيارا، بل صرخة تحرر من القوالب المجمّدة التي نعيشها. هو دعوة للفهم أنّ ما نراه من قسوة ليس عنفاً مادياً فقط، بل عنفاً وجودياً يطال جذورنا ككائنات تحاول أن تعيش برحمة وحب. هو الجنون الذي يجعلنا نرفض القبول بأنّ هناك مكاناً في هذا العالم يُقتل فيه الأطفال بمنتهى الوحشية، وعيوننا مفتوحة لكي نعتاد المذبحة.
حين ننظر إلى قصة آلاء، نكتشف أنّنا أمام اختبار وجودي: هل نحن بشر بحق؟، هل يمكن أن نكون أحياء ونحن نرى هذا الجنون يتكرر ونحن نتمكن من أن نتحرك؟، هل يمكن أن تستمر الحياة حين تُقتل براءة طفل وتُترك أم لوحشة الحنين؟.
في اللحظة التي احترق فيها بيت آلاء، احترقت أيضاً قشرتنا الزائفة من اللامبالاة، وتولّد من بين الرماد شيء جديد، شيء أشبه بجنون الوعي: إدراك بأنّ التغيير ليس خيارا، بل ضرورة وجودية، أنّ العدالة التي لا تتحقّق، تصبح عبئاً ثقيلاً على أكتاف من بقي منهم حيا.
ولأنّ الكلمات وحدها لا تكفي، فإنّ أفعالنا، صمتنا، غضبنا، كل هذا هو ما سيحدد إن كنّا ما زلنا نحمل في داخلنا ذرة إنسانية قادرة على المقاومة، على الحلم، على الحياة.
آلاء النجار ليست مجرد قصة مأساوية في الأخبار. هي جرح في قلب البشرية، ضمير يصرخ: توقفوا! توقفوا عن قتل الأحلام، عن محو الطفولة، عن قهر الوجود. ففي كل دمعة تنهمر، وفي كل صرخة تُطلق، هناك دعوة لإعادة تأسيس العالم على قواعد الرحمة، على قيم تتجاوز الجنون إلى أفق جديد.
اليوم، تقف آلاء ممزقة بين الحياة والموت، بين الجنون والوعي، تُسائلنا: هل هناك مكان للعدل في هذا العالم المعتوه؟. وهل نملك نحن شجاعة الجواب في زمن القهر، قبل أن نصبح أرقاماً جديدة؟.
*كاتب فلسطيني
وسوم :
آلاء النجار, أطفال غزة, الاحتلال الإسرائيلي, الحرب على غزة, ثائر أبو عياش, جثامين, صمود, طوفان الأقصى, فلسطين المحتلة, مجازر الاحتلال