القراءة في زمن الإبادة

التصنيفات : |
يوليو 17, 2025 6:00 ص

*حمزة البشتاوي

في استهداف للبعد الثقافي والإنساني في قطاع غزة، تفعل الحرب الإسرائيلية ما فعله التتار بمكتبة بغداد وحواضرها الثقافية في القرن الثالث عشر، إذ تحرق الكتب في غزة، وتُباد المكتبات العامة والخاصة ودور النشر ومظاهر التراث الثقافي والفكري، كما يُباد الإنسان في غزة قتلاً بأسلحة الدمار والتجويع.

وتُعتبر خسارة الأرواح في غزة من أعظم الخسارات، ولكن من أوجع الخسارات أيضاً قتل وحرق الكتب التي تحمل أرواحنا الإفتراضية المهشّمة كثيراً بسبب القصف والحرق والدمار.

وفي ظروف الحرب الإستثنائية وأهوالها التي فاقت أي تصور، يصر الفلسطينيون في قطاع غزة على القراءة والمطالعة كجزء من حالة الصمود والإصرار على الحياة، وباعتبارها وسيلة للخروج من حالة الكآبة والموت والفراغ، وطريقة للهروب من قسوة الواقع إلى عوالم الكتب التي يدخلون إليها بشغف كبير، ما لم يمنعهم حزام ناري أو قصف مدفعي قريب، وما هو أكثر من مدهش وغريب هو وجود بسطات لبيع الكتب حتى يومنا هذا تُقام فوق ركام المباني وحطام الطرقات والواقع المؤلم، ويُقبل الناس عليها كرمز للصمود والثقافة ومحاولة لفهم أعمق لمعنى الموت والحياة التي تعيدها لهم الكتب الموضوعة على بسطات صغيرة كشمعة صغيرة تضيء عتمة الأمل والروح.

بات أي كتاب ينجو من العدوان وقوداً للطبخ، أو للقراءة من أجل أن يبقى العقل والجسد حياً في زمن الإبادة التي أعدمت رفاهية البقاء على قيد الحياة

ولمّا كان الكثير من الكتب في غزة قد تمّ إستخدامها لإشعال النار في الأفران الطينية لطهي العدس وخَبْز القليل من الطحين، فإنّ البحث عن القليل منها للقراءة والمطالعة في ظل المجاعة أمر يثير الفضول، ولكنّهم يفعلون ذلك في ظل انعدام وسائل الترفيه وفرص التفريغ عن النفس والتواصل مع الآخرين بفعل انقطاع أدوات التواصل مع العالم، وهم يقراون الكتاب أكثر من مرة، لانعدام البديل، وبات أي كتاب ينجو من العدوان وقوداً للطبخ، أو للقراءة من أجل أن يبقى العقل والجسد حياً في زمن الإبادة التي أعدمت رفاهية البقاء على قيد الحياة ورفاهية اختيار عنوان الكتاب الذي يحضر على البسطات التي تُقام تحت سماء ممتلئة بالدخان وأصوات الإنفجارات، ولكن هناك من يقصدونها ويأخذون الكتاب بقوة، باعتباره مساحة آمنة للنجاة وطريقة مُثلى للهروب من الواقع والدخول في القصص والروايات وكتب الخيال العلمي وغيرها، مما يتيح للقارئ الخروج من دائرة الموت والخوف والخذلان والعيش في عوالم مختلفة.

ويأخذ النازحون في نزوحهم المتكرر ما يستطيعون من كتب بهدف تغذية العقل والروح وتحصين الذات من الأهوال الكارثية للحرب التي لم تمنعهم من القراءة بالتزامن مع أصوات الطائرات والزنانات التي تصب حمم الموت على رؤوسهم، ولكنّها لم تمنعهم من شراء وتبادل الكتب ومطالعتها.

وأكثر من يواسي أهل غزة اليوم (الأم) لمكسيم غوركي و(الشيخ والبحر) لإرنست همينغواي و(صاحب الظل الطويل) لجين ديبستر و(الجريمة والعقاب) لفيودور دوستويفسكي و(جريمة في قطار) لأغاثا كريستي و(الأجنحة المتكسرة) لجبران خليل جبران وغيرها من القصص والروايات التي يحصل عليها القرّاء في غزة من البسطات لكي يمارسوا فعلاً آدمياً يتحدى آلة الحرب، لتصبح القراءة حالة مضادة للتوحش في جغرافيا ضيقة بالقرب من شاطئ البحر، حُشر فيها الناس، وتنهال عليهم فيها كل أشكال العذاب والألم، ولكنّهم وسط كل هذا يحمون أنفسهم بخير جليس في الحرب التي تطحن كل شيء دون أن تستطيع منع القرّاء الذين فقدوا الكثير من الكتّاب والكتب والمكتبات من الحصول على الكتاب رغم ندرته الآن في غزة كالماء والدواء والغذاء.

*كاتب وإعلامي


وسوم :
, , , , , , , , ,