غدير العرابيد: امرأة تحمل غزة في كفّيها

التصنيفات : |
أغسطس 12, 2025 8:33 ص

*ثائر أبو عياش- الضفة المحتلة:

في زمن صارت فيه الأخبار مجرد أرقام، وصرخات الأمهات مجرد خلفية صوتية في نشرات المساء، هناك من لا تزال قصتها تقاوم النسيان.

غدير العرابيد، امرأة من غزة، تبلغ من العمر أربعة وثلاثين عاما، لا تحمل سلاحا، ولا تملك شيئاً سوى قلب يُشبه وطناً محاصرا… مكلوما، لكنّه ينبض.

في خيمة مهترئة، منصوبة على أطراف الحياة، تعيش غدير مع طفليها التوأمين، اللذين جاءا إلى هذا العالم بمرض في الكلى، وكأنّهما وُلدا ليخوضا معركتهما منذ اللحظة الأولى.

ليس هناك جدران تقيهم البرد، ولا سقف يصدّ شمس أغسطس أو مطر يناير، فقط قطعة قماش تنبض فوق رؤوسهم كراية استسلام لم يرفعوها يوما.

غدير لا تعرف الرفاهية، ولا تفكر في الغد بمعناه المُترف الذي نعرفه. هي تعيش في الزمن المُجزّأ، بين قصف وقصف، بين فقد وفقد، بين قلق لا يهدأ وخوف لا ينام.

لكنّها، رغم كل ذلك، لم تنتظر المساعدات، ولم ترفع يدها إلا لتصنع بها شيئا: الدقة الفلسطينية. تلك الخلطة التي ورثتها عن جدتها، وتحمل في عبقها ذاكرة الأرض والبيت والطعام المفقود.

على الحطب الذي يجمعه طفلاها بجسديهما النحيلين، تشعل غدير النار، وتبدأ رحلتها اليومية مع الرغيف، ومع الحياة.

طفلاها، رغم الألم المزمن، يتقاسمان معها هذا العبء، يحملان فوق طاقتهما ليحميا ما تبقى من كرامة عائلتهم، ولأنّ المرض في غزة لا يعفي أحداً من الوقوف في طوابير البقاء.

تختصر غدير فلسفتها بقولها: “إذا ما عندي بيت، راح أبني سقف من الصبر. إذا ما في دواء، أعطيهم حضني، وإذا ما في أمل، أخترعه”

في أحسن الأحوال، تعود غدير بعشرين شيكلا. لا تكفي شيئا، لكنّها تصر على أن تكون كل شيء.

تقتطع منها ما يكفي لشراء دواء لطفليها، وتحتفظ بما يسدّ رمقهم، وتمنّي نفسها بأنّ الغد قد يحمل لها أكثر من الفُتات.

تقول غدير بصوت يشبه نسيماً تعب من الهبوب: “لا أعرف إن كنت صابرة أم صامدة… لكني أعرف أنّ عليّ أن أعيش.”

وجملتها، على بساطتها، تصلح أن تُكتب على جدار الزمن الفلسطيني كله.

غدير لا تفكر كما نفعل نحن. لا تسأل عن الغايات الكبرى، ولا تدخل في جدال النهايات. هي تعيش الفلسفة العميقة للفلسطيني العادي: أن تبقى، هو بحد ذاته شكل من أشكال المقاومة.

أن تصحوَ كل صباح، وتُطعِم أبناءك من نار أشعلتها من الحطب، لا من الغاز أو الكهرباء.. فأنت تُعيد تعريف معنى الحياة من جديد.

تختصر غدير فلسفتها بقولها: “إذا ما عندي بيت، راح أبني سقف من الصبر. إذا ما في دواء، أعطيهم حضني، وإذا ما في أمل، أخترعه.”

هي لا تقرأ نيتشه أو كامو، لكنّها تعرف عبث هذا العالم أكثر من كل فلاسفة الوجودية. تعرف أنّ العدالة فكرة مثالية في عقول المترفين، بينما في واقعها، العدالة تعني أن لا يموت طفلها جوعاً أو مرضا، هذا الليل.

غدير تمثّل ملامح غزة: مثقلة بالتاريخ، منهكة من الحصار، لكنّها ما زالت واقفة

من السهل على العالم أن يختزل غزة في تقرير، أو يتعامل مع المعاناة كإحصائية. لكن ماذا عن الأم التي تعاني دون توقف؟، ماذا عن خيمة تُصارع الشتاء والصيف معا؟، ماذا عن طفلين لا يعرفان من الطفولة سوى صفوف الانتظار على أبواب العيادات الميدانية؟.

غدير تمثّل ملامح غزة: مثقلة بالتاريخ، منهكة من الحصار، لكنّها ما زالت واقفة.

غزة التي تُقصف وتُقاوم، تُدمّر ثم تُعيد بناء نفسها، تشيّع أبناءها ثم تمضي لتعلّم الأحياء كيف يحبّون رغم الجراح.

في مشهد واحد، نستطيع أن نرى كل المعادلة السياسية المعطوبة:

امرأة تبيع الدقة لتعالج أبناءها، بينما تجتمع الدول الكبرى لتناقش “حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها”.

طفلان لا يجدان ماءً نقيا، بينما تُمنع عن غزة محطات التحلية ومشاريع الإعمار.

خيمة تقي حرّ أغسطس، بينما تُنقل صفقات السلاح على الطائرات الخاصة.

قد لا تظهر غدير على الشاشات، ولن يُكتب عنها في كتب التاريخ، لكنّها المعنى الحقيقي للمقاومة.

هي من تقف في وجه الإبادة، دون شعار، دون بندقية، فقط بعزيمتها، وخبزها، وبكاء أطفالها ليلا.

هي من تخلق الحياة من تحت الركام، وتوزّع الأمل مغلفاً بالدقة، وتُقاوم العدم بالابتسامة.

الأمهات لسن فقط صوراً باكية في نشرات الأخبار، بل صانعات وجود، وحارسات هوية

غدير لا تطلب شيئا، لكنّنا نحتاج إليها.

نحتاج إلى أن نتذكر أنّ فلسطين ليست تاريخاً ندرّسه، بل وجوهاً نكاد ننساها.

وأنّ الأمهات لسن فقط صوراً باكية في نشرات الأخبار، بل صانعات وجود، وحارسات هوية.

في كل وجبة دقة تبيعها، تضع غدير جزءاً من قلبها، وتقول للعالم: “رغم الحرب، رغم الحصار، أنا هنا… وغزة، ما زالت تحيا.”

وفي الليالي الطويلة، حين يشتد الألم، ويثقل الصمت على الخيمة، يقترب طفلاها منها، يضعان رأسيهما في حضنها، ويهمسان بكلمات ليست من طفولتهما، لكنّها من قلب الحنين. كلمات تعلّموها من قصيدة الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، وكأنّهما يخاطبانها بها، يختصران فيها شوقهما للبيت، وحنينهما للأمان، وحبّهما لها:

“ضعيني، إذا ما رجعتُ

وقوداً بتنور نارك…

وحبل غسيل على سطح دارك

لأنّي فقدتُ الوقوف

بدون صلاة نهارك

هَرِمْت، فرُدّي نجوم الطفولة

حتى أُشارك

صغار العصافير

درب الرجوع…

لعُشِّ انتظارِك!”

*كاتب


وسوم :
, , , , , , , , , ,