ديمقراطية السلاح

التصنيفات : |
سبتمبر 1, 2025 8:00 ص

*ثائر أبو عياش- الضفة المحتلة:

ظلّ السلاح في التجربة الفلسطينية أداة نضالية، ووسيلة للدفاع عن حقّ تاريخي في وجه احتلال طويل وممتد. ومنذ انطلاق الكفاح المسلح، ارتبطت شرعية السلاح بقدرته على تمثيل تطلعات الشعب الفلسطيني في التحرير والكرامة، لا بمجرد ارتباطه بمؤسسات السلطة أو التفاهمات السياسية.

غير أنّ الواقع الراهن يكشف عن مفارقة خطيرة: سلاحان في وطن واحد. أحدهما يتقدّم الصفوف في المواجهة مع الاحتلال، والآخر محصور في ضبط الأمن الداخلي ضمن ترتيبات اتفاق أوسلو. وفي ظل استمرار العدوان على غزة، يعود الحديث مجدداً عن مستقبل سلاح المقاومة، مع طرحه كأحد شروط وقف الحرب، الأمر الذي يطرح تساؤلات جوهرية: هل يمكن أن يكون السلاح ديمقراطيا؟ ومن يملك القرار بشأنه؟ وهل نزع سلاح المقاومة يُفضي إلى سلام، أم إلى استسلام مقنّع؟.

حمل الفلسطينيون السلاح ليس حباً بالعنف، بل نتيجة لواقع فرضه الاحتلال الإسرائيلي منذ نكبة عام 1948، مروراً بالعدوانات المتكررة، والحصار، والتهجير. في هذا السياق، لم يكن السلاح مجرد وسيلة للقتال، بل فعل مقاومة يرتبط بالهوية والبقاء.

الانقسام في المشهد المسلح كان نتيجة مباشرة لتناقض الرؤى السياسية: بين مشروع مقاومة يسعى للتحرير، وآخر يؤمن بأنّ التسوية هي الطريق الوحيد

تغيّر المشهد مع توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، حين بدأ تشكيل أجهزة أمنية فلسطينية خاضعة لقيود الاتفاق، ما أدى إلى تحوّل في طبيعة السلاح ووظيفته. نشأ انقسام عملي: سلاح يخضع لتفاهمات أمنية مع الاحتلال، وآخر يعمل خارج إطار السلطة، ويواصل الاشتباك الميداني دفاعاً عن الشعب.

هذا الانقسام في المشهد المسلح لم يكن نتاج خلاف داخلي فحسب، بل نتيجة مباشرة لتناقض الرؤى السياسية: بين مشروع مقاومة يسعى للتحرير، وآخر يؤمن بأنّ التسوية هي الطريق الوحيد.

في الضفة الغربية، تفرض السلطة الفلسطينية سيطرتها الأمنية، ويُستخدم السلاح في إطار ضبط الأمن الداخلي، غالباً بالتنسيق مع الجانب الإسرائيلي. هذا السلاح الرسمي، ورغم شرعيته القانونية، يُتّهم أحياناً بعدم قدرته على حماية الفلسطينيين من اعتداءات المستوطنين وجيش الاحتلال.

أما في قطاع غزة، فتسيطر فصائل المقاومة على المشهد العسكري، وتحتفظ بترسانة صاروخية ومنظومة أمنية يُنظر إليها باعتبارها خط الدفاع الأول عن القطاع في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة. سلاح المقاومة هناك يُعدّ أحد أبرز عناصر الردع، لكنّه في الوقت نفسه محل استهداف سياسي وأمني من أطراف عدة.

“توحيد السلاح” يُخفي خلفه محاولة لتجريد المقاومة من أهم أدواتها، وفرض رؤية سياسية قائمة على التسوية بشروط غير متكافئة

الواقع يُظهر أنّ السلاح في غزة والضفة يخضع لظروف ومرجعيات مختلفة، ويعكس حالة الانقسام السياسي والمؤسساتي التي يعاني منها المشروع الوطني الفلسطيني منذ سنوات.

مع اتساع رقعة الحرب على غزة، تكررت الدعوات الدولية والعربية إلى ضرورة “توحيد السلاح الفلسطيني” تحت سلطة واحدة، وغالباً ما يُقصد بذلك تسليم سلاح المقاومة، أو على الأقل إخضاعه لمرجعية السلطة الفلسطينية.

هذا الطرح، وإن بدا في ظاهره مدخلاً لـ”الوحدة”، إلا أنّه يُخفي خلفه محاولة لتجريد المقاومة من أهم أدواتها، وفرض رؤية سياسية قائمة على التسوية بشروط غير متكافئة. التساؤل المطروح هنا: هل يُمكن نزع سلاح المقاومة دون معالجة جذرية لواقع الاحتلال والحصار والانتهاكات اليومية؟ وهل السلاح هو العقبة أمام التسوية، أم غياب العدالة في المعادلة السياسية؟.

الرأي العام الفلسطيني، بما في ذلك في غزة نفسها، ما زال يرى في سلاح المقاومة أحد أهم مكتسبات النضال الوطني، رغم الكلفة الباهظة التي يتحملها المدنيون. وهذا السلاح، بما فيه من تضحيات، لا يُمكن تصنيفه ضمن أدوات الفوضى، بل هو جزء من معادلة الردع والصمود في وجه التفوق العسكري الإسرائيلي.

السؤال الجوهري الذي يُطرح: هل يمكن تنظيم السلاح الفلسطيني ضمن رؤية وطنية جامعة؟ وهل يمكن بناء حالة من “ديمقراطية السلاح” لا تقوم على الإقصاء أو نزع أدوات المقاومة، بل على توحيدها في إطار مشروع تحرري واضح؟.

الحديث عن “ديمقراطية السلاح” لا يعني بالضرورة إخضاعه لصناديق الاقتراع، بل تنظيمه ضمن قرار وطني مستقل، ومساءلة جماعية تحكمه رؤية موحدة للمستقبل الفلسطيني.

ليس السلاح هو ما يُقسّم الفلسطينيين، بل غياب المشروع الوطني الجامع. وما يُطلب اليوم من المقاومة ليس فقط تسليم السلاح، بل التخلي عن خيار الصمود في وجه الاحتلال

المشكلة ليست في وجود السلاح، بل في غياب المرجعية السياسية الموحدة التي تحدد وظيفته. حين يكون السلاح أداة لحماية الشعب ومواجهة الاحتلال، فإنّه يُشكّل ضمانة وطنية. أما حين يُستخدم لقمع المخالفين، أو يُسخّر لحسابات ضيقة، فإنّه يتحول إلى عبء.

ليس السلاح هو ما يُقسّم الفلسطينيين، بل غياب المشروع الوطني الجامع. وما يُطلب اليوم من المقاومة ليس فقط تسليم السلاح، بل التخلي عن خيار الصمود في وجه الاحتلال، وهو ما لا يمكن لأي حركة تحرر أن تقبله دون ثمن سياسي واضح وعادل.

“ديمقراطية السلاح” تبدأ من التوافق، لا من الإملاءات. من القرار الوطني المستقل، لا من الضغوط الخارجية. والمقاومة، بما تمتلكه من قوة وشرعية شعبية، ليست عائقاً أمام السلام، بل ضمانة لأي حل عادل يحترم الحقوق الفلسطينية.

حين يُطلب من الضحية أن تتخلى عن سلاحها، دون ضمانات للعدالة والحرية، تتحول الديمقراطية إلى أداة لتثبيت الظلم، لا لإنهائه.

*كاتب


وسوم :
, , , , , , ,