السيناريو الإقليمي بعد حرب أكتوبر 2023: ركود سياسي أم توسع عسكري

التصنيفات : |
سبتمبر 29, 2025 6:00 ص

*سالي أبو عياش- الضفة المحتلة

شهدت منطقة الشرق الأوسط بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023 تحولات دراماتيكية في المشهد الجيوسياسي، حيث تزامن الركود السياسي على الصعيدين الإقليمي والدولي مع توسع عسكري ميداني في فلسطين والجبهات المحيطة بها. فالمعادلة تبدو متناقضة للوهلة الأولى؛ إذ أنّ الصمت الرسمي والتباطؤ في اتخاذ قرارات حاسمة من جانب الحكومات يقابله على الأرض حراك عسكري متسارع. هذه المفارقة تكشف عن فجوة متزايدة بين الشارع والأنظمة السياسية حيث تحاول الحكومات موازنة حساباتها الدقيقة بين الضغوط الدولية ومطالب شعوبها المتعاطفة مع القضية الفلسطينية.

لكن ما جرى في غزة لم يبقَ داخل حدودها؛ بل تحوّل إلى صاعق إقليمي فجّر خطوط التماس في أكثر من جبهة: مثل لبنان، اليمن، العراق، سوريا، إيران.. هذه التفاعلات جعلت من المشهد أكثر تعقيدا، إذ باتت المنطقة كلها وكأنّها تعيش بتوتر نتيجة الحرب في غزة.

في المقابل، تواصل مساعي التطبيع بين بعض العواصم العربية و”تل أبيب” مسارها بصمت حذر، وكأنّ حسابات المصالح الاستراتيجية والاقتصادية تفوق التضامن القومي والإنساني.

إنّ هذه التحولات مجتمعة تؤكد أنّ السابع من أكتوبر لم يكن مجرد حدث عسكري عابر، بل نقطة انعطاف جذرية تُعيد صياغة توازنات المنطقة، وتفتح الباب أمام أسئلة كبرى حول ما إذا كان القادم سيشهد انفراجاً دبلوماسياً أم تصعيداً شاملاً قد يغيّر وجه الشرق الأوسط، أو يحوّله إلى شرق أوسط جديد خُطّط له إسرائيلياً منذ زمن، فالواضح حتى اللحظة أنّ ما بعد السابع من أكتوبر ليس كما قبله.

فالسياق الراهن في المنطقة يوضح ذلك:

غزة: لا زالت “إسرائيل” تواصل عملياتها العسكرية الواسعة في القطاع بشماله وجنوبه، في إطار حرب إبادة مفتوحة تستهدف الحياة، عبر قصف ممنهج للبنية التحتية للمدينة، وتهجير قسري متكرر للأهالي. هذا النمط من الاستهداف لا يقتصر على البعد العسكري فحسب، بل يهدف إلى إعادة تشكيل الواقع الديمغرافي والجغرافي للقطاع، عبر تفريغ الأرض من سكانها أو تقليص قدرتهم على البقاء والصمود. فالسياسة الإسرائيلية اليوم تتجاوز مجرد الرد على المقاومة، إلى محاولة فرض معادلة جديدة تُضعف أي قدرة على إعادة بناء الحياة في غزة، وتجعل من السيطرة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية أمراً مفروضاً بحكم الأمر الواقع.

الضفة الغربية: تتصاعد سياسة الاحتلال من خلال هدم المنازل، توسيع الاستيطان، إنشاء البوابات العسكرية التي تفصل المدن والقرى عن بعضها البعض، في إطار منهجي يسعى لفرض واقع جديد قبل أي تسوية سياسية محتملة. هذا النهج لا يمكن فصله عن خطة سموتريتش التي تطرحها الحكومة الإسرائيلية الحالية، والتي تقوم على تكريس السيادة الإسرائيلية على الضفة عبر دمج المستوطنات في منظومة إدارية مستقلة عن السلطة الفلسطيني، فمثلاً منطقة E1 شرق القدس كنموذج خطير لهذه السياسة، إذ يسعى الاحتلال من خلالها إلى ربط مستوطنة “معاليه أدوميم” الواقعة بالقرب من العيزرية بالقدس المحتلة، ما يعني فصل شمال الضفة عن جنوبها، بهذه الأدوات، تتحوّل الضفة إلى نموذج تطبيقي لرؤية أبعد من غزة: إعادة هندسة الجغرافيا والديموغرافيا معا، عزل التجمعات الفلسطينية في كانتونات محاصرة، ومصادرة الأراضي الحيوية، بما يجعل أي كيان فلسطيني مستقبلي غير قابل للحياة.

غزة الواقعة تحت القصف والإبادة الممنهجة، بهدف كسر القدرة على الصمود وإفراغ الأرض من سكانها، والضفة الغربية يجرى تفكيكها إلى جزر معزولة في عملية تهويد متدرجة

إنّ هذه السياسة توضح ملامح الاستراتيجية الإسرائيلية القائمة على الإخضاع المزدوج: فغزة الواقعة تحت القصف والإبادة الممنهجة، بهدف كسر القدرة على الصمود وإفراغ الأرض من سكانها، والضفة الغربية يجرى تفكيكها إلى جزر معزولة في عملية تهويد متدرجة تسعى لإلغاء أي إمكانية لقيام كيان فلسطيني مستقل، وتكريس مشروع “إسرائيل الكبرى”.

وعلى مستوى الجبهات البعيدة، يواصل الاحتلال ضرباته في اليمن ولبنان في محاولة لتقليص سلسلة الدعم العسكري واللوجستي التي تشكّل امتداداً لمحور المقاومة وفي الوقت نفسه، تسعى “إسرائيل” إلى استغلال الانقسام الداخلي، ومتابعة مسار المفاوضات اللبنانية وما يرافقها من تعقيدات سياسية، لإعادة هندسة البيئة المحيطة بالصراع لتكون أكثر ملاءمة لفرض مشروع الضمّ والتهويد دون كلفة إقليمية عالية.

وهذا الوضع يضعنا أمام سيناريوهات متخلّفة مثل:

  • الركود السياسي: تمثّل المرحلة الراهنة في اجتماعات دولية بلا نتائج ملموسة، ومحاولات دبلوماسية رمادية لا تتجاوز البيانات والشعارات، حيث تركز الولايات المتحدة على إدارة الصراع أكثر من السعي لحله فعليا. في المقابل، تتفاوت الأدوار العربية بين الصمت الكامل، ومحاولات احتواء التوتر دون تقديم حلول جذرية. هذا الركود السياسي يترك مساحة واسعة لـ”إسرائيل لتوسيع عملياتها الميدانية وفرض وقائع على الأرض، مع الحدّ من قدرة المجتمع الدولي أو الحكومات الإقليمية على التدخل الفعّال.
  • سيناريوهات المستقبل وهي:
  • التهدئة المؤقتة: تمثل محاولات احتواء محدودة للصراع عبر قنوات دبلوماسية، غالباً بدون أي تغيير جذري في الواقع الميداني. إذ تعمل كصمام أمان جزئي يخفف من حدة التوتر المؤقت، لكنها لا تمس جوهر الاستراتيجية الإسرائيلية القائمة على فرض وقائع ميدانية، ولا تعالج الأسباب الأساسية للصراع ما يجعل أي استقرار مؤقت هشاً وعرضة للانفجار في أي لحظة.
  • التوسع التدريجي: تسعى إسرائيل من خلاله إلى فرض واقع ميداني مستمر في الضفة الغربية وغزة، وفي الوقت نفسه، تستمر الضربات الإسرائيلية الإقليمية وهذا التوسع التدريجي يهدف إلى ترسيخ السيطرة الإسرائيلية على الأرض على المدى الطويل، وتهيئة الظروف لفرض مشاريع الضم والتهويد بشكل عملي قبل أي تسوية سياسية محتملة.
  • الانفجار الإقليمي: يمثل السيناريو الأكثر خطورة، حيث قد يؤدي خطأ في الحسابات أو تصعيد مفاجئ إلى مواجهة شاملة تشمل عدة جبهات في المنطقة. وستتصاعد التداعيات الإنسانية بشكل كارثي، ويتعقد المشهد السياسي داخلياً وإقليمياً ودولياً. ليعاد رسم خرائط النفوذ بسرعة، وتفتح أبواباً لتدخلات خارجية أكبر، ما يجعل من الصعب احتواء الصراع أو التوصل إلى أي تسوية متوازنة على المدى القصير.

المنطقة أمام احتمالين متوازيين: السلام الجزئي والتهدئة المؤقتة، الذي تدعمه المصالح الاقتصادية والسياسية، أو التصعيد الأوسع والحرب الشاملة

في النهاية، تترتب على الأحداث الراهنة تداعيات متعددة على مستويات مختلفة على الفلسطينيين: يستمر التهجير والتقسيم الجغرافي وفقدان الأمل في أي تسوية سياسية قريبة، بينما يعاني الإقليم من تراجع هيبة محور المقاومة، واستنزاف جبهاته المتعددة، وارتفاع التوترات الحدودية. وعلى صعيد المجتمع الدولي، تتفاقم أزمة الشرعية للكيان الصهيوني، وتظهر هزات في صورة النظام الدولي، مع تصاعد الدعوات لوقف الأعمال العدائية.

في المقابل، تحاول بعض القوى الإقليمية على احتواء التصعيد، وتقليل احتمالات الانزلاق إلى حرب إقليمية شاملة، لكنّها لا تلغي المخاطر بالكامل. فتصاعد العمليات العسكرية عبر حدود متعددة، بما فيها الضربات الجوية والهجمات على أهداف عربية، يعيد تشكيل المشهد ويزيد من خطر الانفجار الإقليمي بسرعة. داخليا، إذ تواجه “إسرائيل” ضغوطاً سياسية واجتماعية قد تدفعها أحياناً إلى سياسات هجومية أو، بالعكس، إلى البحث عن تسويات تحت ضغط الشارع والمجتمع الدولي، في ما تُدخل الاتفاقيات الدفاعية والشراكات الأمنية الجديدة ديناميكيات نووية وإقليمية معقدة تزيد من المخاطر.

وبناءً على ذلك، تبقى المنطقة أمام احتمالين متوازيين: السلام الجزئي والتهدئة المؤقتة، الذي تدعمه المصالح الاقتصادية والسياسية، أو التصعيد الأوسع والحرب الشاملة، الذي يفرضه وجود لاعبين مسلحين متعددين، والتحالفات الأمنية الجديدة، ما يجعل المستقبل مفتوحاً على حسابات دقيقة وأحياناً محفوفة بالمخاطر.

*كاتبة


وسوم :
, , , , , , , , , ,