المقاطعة كأسلوب مقاومة تضرب اقتصاد العدو.. كيف نقاطع إسرائيل؟

*بسّام جميل

“جاء الناس إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقالوا: غلا اللحم، فسعّره لنا فقال: أرخصوه أنتم، فقالوا: نحن نشتكي غلاء السعر واللحم عند الجزارين ونحن أصحاب الحاجة، فتقول: أرخصوه أنتم؟ فقال: اتركوه لهم”.

ما استوقفني في هذا المثال، الذي ينسب لعمر بن الخطاب وبعضهم ينسبه لابن عساكر، هو رد عمر رضي الله عنه ” أرخصوه أنتم”، وهو على بساطته، يمثل قاعدة جوهرية في تمثيل قوة المجتمع لضبط ما يشاء من أمور ناظمة متى شاء ذلك.

إنّ مقاطعة المنتج تعني مضيّ فترة استهلاكه من دون أن يستهلك، مما يؤدي لنفاذ مدة صلاحيته من دون الاستفادة منه ومن العائد المادي له، وهي فكرة تصلح بالمبدأ للقصاص أو لاقتصاص الحق ولو ببطء والعراقيل متوقعة، وهذا ما ابتدعه الفلسطينيون كواحد من أساليب المقاومة لكيان يعتمد جزء كبير من اقتصاده على السوق الفلسطيني، وكرد على نهب الكيان لأراضيه وثرواته لصالح الاستيطان بالمقام الأول.

حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات المختصرة بـ(BDS)  هي حركة فلسطينية المنشأ عالمية الامتداد تسعى لمقاومة الاحتلال والاستعمار الاستيطاني والأبارتهايد الاسرائيلي، من أجل تحقيق الحرية والعدالة والمساواة في فلسطين وصولا إلى حق تقرير المصير لكامل الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات. يمكن الإطلاع على كامل البيانات الوافية عن الحركة من خلال هذا الرابط المباشر لموقعهم.

ابتدع الفلسطينيون حركة المقاطعة كواحدة من أساليب المقاومة لكيان يعتمد جزء كبير من اقتصاده على السوق الفلسطيني، وكرد على نهب الكيان لأراضيه وثرواته لصالح الاستيطان بالمقام الأول.

خلال السنوات الأخيرة، أظهرت حركة المقاطعة نجاعتها وحققت نجاحات هائلة على عدة مستويات، مما دفع الاحتلال إلى شن هجمات كثيرة وصرف مبالغ خيالية لدعم اللوبي الخاص به لمواجهة تأثير الحركة على العالم. لكن هذا الصراع ليس محسوماً بعد، فالانتصار يعني تثبيت قواعد الاشتباك والبناء عليها، داخل فلسطين وبين أبناء الشعب الفلسطيني أولا، رغم الحاجة والضرورة لمتابعة كل الفعاليات وممارسة الضغوط في الساحات الدولية والإقليمية لعدة أسباب، أهمها: الحرب الأخيرة على غزة، الانتفاضة في أحياء القدس الشريف ومواجهة ما أفرزته الحروب والصراعات والانهيارات الاقتصادية في بعض دول الطوق، أمام اندفاع غير مسبوق وعلني للتطبيع مع الاحتلال من قبل المستعربين من بعض دول الخليج العربي، لتعويضه عن خسائره المادية وتلميع صورته في الساحة الدولية.

مع هذه المتغيرات المؤثرة بشدة على الساحة الفلسطينية ومع وجود حالة مؤلمة من الانقسام والصراع داخل البيت الواحد، ماذا تفعل الحركة محلياً وما هي أدواتها الجديدة وكيف يتفاعل جيل الشباب معها ومع الأحداث اليومية؟

 لا يوجد حدث متفرد بذاته دون ضرورة وجود سيرورة نافذة بالأحداث توصل إليه، وكالتاريخ الذي علينا أن نستفيد من دروسه، نجد أن هذه الأحداث نتيجة تراكم هائل من التفاصيل التي تؤدي في النهاية إلى ذروات يمكن استثمارها والبناء عليها أو خسارتها وتحمل نتائجها الكارثية كذلك.

المقاطعة تستخدم الحداثة

تفرض البيئة والظروف المحيطة نفسها على أية معركة، كما على نتائج الحروب أيضا. فالمتغير الحقيقي في هذه المعركة كان تراكم الانجازات لحركة المقاطعة خلال سنوات عملها والصعوبات التي رافقت ذلك، لتهيّئ الأرضية أمام وعي مجتمعي تمكَّن من استثمار الأدوات الجديدة التي وفرتها التقنية الرقمية، ما استدعى وجود جبهات جديدة لإدارة المعركة، حتى بالنسبة للاحتلال، واستخدام نفوذه على الشركات العالمية العملاقة مثل “facebook”، لمحاربة المحتوى الخاص بالشأن الفلسطيني والمحتوى المتضامن معه.

غيّر بعض الناشطين والمؤثرين الفلسطينيين وجهتهم وتبنوا خطاباً موحداً لتعزيز فكرة المقاطعة والتحريض عليها. تحديدا، بعد العدوان الأخير على غزة، فمن كان يستفيد من عدد المتابعين على تطبيق “Instagram” لتسويق المنتجات والأمكنة من خلال قصص مدفوعة الأجر يعرضونها في حساباتهم، استبدلوا تلك الإعلانات المدفوعة بإعلانات ومقولات مجانية تدعو للمقاطعة، ومنهم المصورة الفلسطينية عرين الريناوي التي لديها ما يقارب الربع مليون متابع، والناشطة الاجتماعية ديالا عبدالله التي لديها نصف مليون متابع، ونجمة ستار أكاديمي ليان بزلميط وغيرهم ممن يتابعهم عشرات الآلاف من الفلسطينيين والعرب.

خلال قضية الشيخ جراح والعدوان على غزة تحول تطبيق “إنستجرام” إلى جبهة شرسة لتثبيت حملة المقاطعة كقانون فلسطيني مُهين ومحتقر لكل من يخالفه. واستطاع الفلسطينيون، كرد منهم على حجب حساباتهم وتقييدها بسبب تلك الحملات، أن يخفِّضوا تقييم تطبيق الفيسبوك الى نجمة واحدة وهذا يعني خسارات فادحة بسعر تداول أسهمه في أسواق البورصة العالمية، وقد يؤدي هذا إلى شطب التطبيق من متجر “أبل” الذي يعود على الموقع بالكثير من الأرباح.

واستطاع الفلسطينيون، كرد منهم على حجب حساباتهم وتقييدها بسبب تلك الحملات، أن يخفِّضوا تقييم تطبيق الفيسبوك الى نجمة

 تبدو هذه المعركة أكثر إنصافاً إذا ما تحرر صناع المحتوى والمتلقون من سطوة الشركات التي باتت تعيد إنتاج شروط الاستخدام وتمارس الحجب والمنع واختراق الخصوصية. معارك تدار من خلف الشاشات، لكن صناع المحتوى الفلسطيني، لا يمكن لهم أن يكتفوا بالبقاء خلف الشاشات، فالأحداث تستهدف منازلهم وجيرانهم وأحياءهم، مما يستدعي وجود الناشطين على الأرض للمواجهة، وقد منحتهم هذه المواجهة مصداقية عالية جداً لدى متابعينهم، وصنعت قادة مجتمعيين من خلال ممارسة الفعل المقاوم مهما بدا متواضعاً، ليأخذ بمراكمة الانجاز.

تلقت حركة المقاطعة دعماً هائلاً في الفترة الأخيرة، عندما تمكن جيل الشباب من قياس الأثر الناجم عن هذا التوجه بين فئات المجتمع الفلسطيني المختلفة، فالدعوة لمقاطعة المنتجات الصهيونية وتلبية هذه الدعوة، دفعتا بالمنتج الفلسطيني إلى حيِّز الاهتمام مرة أخرى.

كما أنّ البدائل من الأسواق الأخرى كالسوق التركية مثلا، رغم وجود عقبات ومضايقات كثيرة وكلفة ضريبية، تبقى خياراً أفضل لتدعيم المقاطعة وأثرها الاقتصادي.

هل يتفاعل العالم أو بعض مجتمعاته مع المقاطعة كفعل لبق، وللتورية والهروب من المواقف الحرجة؟!

ربما تفعل بعض الدول ذلك في شؤون أخرى، لكن كمجتمعات لا يمكنها ذلك دون إيمان حقيقي بقيمة هذا الفعل. وكأفراد، نستطيع الحديث عن الكثير من الأمثلة عن تقلب الولاء والخيانة، فلا يمكن أن نعد أفعال فرد مقياساً للدلالة على مجتمعه.

يدفعني الحديث عن الولاءات، لتذكير القارئ بحراك قد تم بالفعل لدعم حركة المقاطعة من خلال مقاطعة بعض الفعاليات التي أقيمت في دول مثل الامارات، وذلك بعد إعلانها التطبيع مع العدو من فورها، وهذا فعل مهم لتوضيح مقدار تورط بعض المثقفين على سبيل المثال، بما يسمى “المال السياسي” أو “المال التأثيري”، فشراء الذمم لخدمة قضايا معينة أو السكوت عنها واضح وجلي، والأكثر جلاءً ما يقدمه الإعلام المصري من نماذج مرعبة لكيفية كيّ الوعي المجتمعي وتحويله من أقسى اليسار إلى أقسى اليمين، بل والتطرف أحياناً.

*كاتب فلسطيني