الإعتراف بحقّ الفلسطينيين في الإستسلام
سبتمبر 15, 2021 10:18 صترجمة – صمود
سيتم الإعتراف بالفلسطينيين كشعبٍ من قِبَل الغرب و”إسرائيل” فقط حين يتخلّون عن كامل حقوقهم الوطنيّة المشروعة.
ومن أهم القواعد الرئيسة التي فرضتها إسرائيل بشكل استثنائي على اللعبة الدبلوماسيّة منذ قيامها عام 1948 رفضها الإعتراف بحق الفلسطينيين الطبيعي في تمثيل أنفسهم.
فيما أصرّت “إسرائيل” على لسان وزيرة خارجيتها غولدا مائير إبّان حقبة السبعينيات والثمانينيات على أن “ليس للشعب الفلسطينيّ وجود”، فقد بادر المجتمع الدولي، وخاصة الأمم المتحدة والبلدان المستعمِرة سابقاً إلى الإعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف) كممثلٍ شرعيّ وحيد أواسط السبعينيات.
وفي جوهر الأمر، فإن مطلب “إسرائيل” ومن خلفها الولايات المتحدة الأمريكية يتمثّل في أنّه حتى يحوز ممثلو الفلسطينيين على الشرعيّة من قبل الغرب الإستعماري و”إسرائيل” الإستعمارية – الإستيطانية، فإنّ عليهم التخلي التام عن كامل حقوقهم الوطنية المشروعة للمستعمرين اليهود.
الممثّل الشرعي
اعتراف “إسرائيل” المتأخر بحق الشعب الفلسطيني سرعان ما أعقبه شرطان أساسيّان وضعتهما للاعتراف بشرعيّة ممثليه، وهما: قبول منظمة التحرير بشرعيّة “إسرائيل” كإستعمار استيطاني يهودي تمت إقامته على الأرض الفلسطينيّة المسروقة، السرقة التي على الفلسطينيين الإقرار بشرعيتها والتخلي عن أيّ شكل من أشكال المقاومة، لا سيما المسلّحة، ضد الإستعمار الإستيطاني الإسرائيلي. وإلا، فسيتم اعتبار ممثلي الفلسطينيين “إرهابيين” غير جديرين بخوض مفاوضات مع مستعمريهم.
وقد استغرق الأمر من ممثلي الشعب الفلسطيني فترة زمنية امتدت من العام 1948 حتى العام 1993 للقبول بالشروط الإسرائيلية للاستسلام حين أقدمت منظمة التحرير على توقيع “اتفاق أوسلو” فتمّ الاعتراف بها في نهاية المطاف من قبل إسرائيل كـ”ممثل شرعي” للشعب الفلسطيني.
فبمجرد أنْ تخلّت المنظمة في أوسلو عن الحقوق الوطنيّة المشروعة المُعترف بها دوليّاً للشعب الفلسطيني، تمحورت المفاوضات أساسا، والتي وافقت إسرائيل على خوضها، حول طبيعة وآليات حكم الاحتلال الإسرائيلي لأقل من ثلث الفلسطينيين (في الضفة الغربيّة وغزة).
رفضت “إسرائيل” خوض أية مفاوضات حول دورها واضطهادها للفئة المتبقيّة من الفلسطينيين، سواء اللاجئين في المنافي أو الأقلية المُضطهدة الخاضعة لحكم الأبارتهايد (الفصل العنصري) في الداخل.
وبعد ثلاثة عقود تقريباً من المفاوضات، قررت “إسرائيل” أنّ طبيعة دورها الإستعماري الإستيطاني على كامل فلسطين بعد أوسلو يجب أن تبقى كما كانت قبلها، هذا إنْ لم تزد وتيرتها. وبعدها تحرّكت “إسرائيل” في أوروبا وأمريكا الشمالية لتصنيف حركة المقاومة الفلسطينية “حماس” كمنظمة إرهابيّة على غرار ما سبق وفعلت مع منظمة التحرير حتى العام 1991، ما لم تسر “حماس” في ركب المنظمة، وتعلن استسلامها من خلال القبول بشرعية الإستعمار الإستيطاني الإسرائيلي لفلسطين وتنبذ المقاومة بكافة أشكالها.
والسؤال هنا، هل هذه استراتيجية إستعمارية جديدة أم قديمة؟ ومن أين أتى رفض “إسرائيل” المستمر للاعتراف بحق الشعب الفلسطيني وشرعية ممثليه ما لم يستسلموا ويُقرّوا بانتزاع أملاكهم على يد الإستعمار الإستيطاني اليهودي.. على أنّه عمل شرعي؟
سابقة إستعمارية
كما هو الحال مع جميع الإجراءات الأخرى المتبعة لإخضاع الشعب الفلسطيني، لم يبتكر “الإسرائيليون” أبداً استراتيجيات جديدة، وإنما عمدوا لتبني سياسات استعمارية أوروبية راسخة. في الواقع، كانت الشروط التي وضعتها “إسرائيل” للاعتراف بشرعيّة الممثلين للفلسطينيين هي الشروط المعيارية التي وضعها الحكّام المستعمرون البريطانيون عشية احتلالهم لفلسطين بين كانون الأول/ديسمبر1917 وأيلول/سبتمبر 1918.
قام الفلسطينيون بتأسيس منظمات لا حصر لها لمقاومة الاحتلال البريطاني والإستعمار الإستيطاني اليهودي. كان أبرزها فروع الجمعية الإسلامية – المسيحية في جميع أنحاء البلاد، إنطلاقاً من يافا.
في تشرين الثاني/نوفمبر من العام 1918، قدّم مركز القيادة في يافا إلى العميد السير جيلبرت كلايتون، كبير المسؤولين السياسيين وواضعي السياسات في الإدارة العسكرية البريطانية، مذكّرة أكد فيها على الطابع العربي لفلسطين (“وطننا العربي، فلسطين”) وعلى رفضه وعد بلفور 1917، القاضي بإعلان إقامة وطن قومي لليهود.
كان للمذكرة أهمية خاصة، حيث نظّم المستعمرون اليهود، تحت رعاية المنظمة الصهيونية (المنظمة الصهيونيّة العالميّة حاليا)، مسيرة في 2 تشرين الثاني/نوفمبر، في الذكرى الأولى لوعد بلفور، للاحتفال بنجاح مشروعهم الإستعماري.
عقدت الجمعية الإسلامية – المسيحية أول مؤتمر وطني فلسطيني في القدس في أوائل عام 1919، والذي دعا إلى تحرير فلسطين وكل سوريا. كان الهدف الرئيس للمؤتمر معارضة الإستعمار الإستيطاني اليهودي، مستشهداً بمبادئ “ويلسون” لتقرير المصير. أرسل المؤتمر وفداً إلى مؤتمر “باريس للسلام” لتقديم مطالبه.
في تموز/ يوليو 1920، وهو الشهر الذي غزت فيه فرنسا سوريا وأنهت استقلالها، استبدل البريطانيون حكومتهم العسكرية في فلسطين بحكومة مدنيّة، وعيّنوا السياسي البريطاني الصهيوني “هربرت صموئيل” كأوّل مفوّض سامي للمشروع الإستعماري الجديد.
انعقد مؤتمر وطني ثالث في يافا في كانون الأول/ديسمبر 1920 ودعا إلى “استقلال” فلسطين. وانتخب المؤتمر “اللجنة التنفيذية العربية”، لتمثيله أمام الحكومة البريطانية وعلى المستوى الدولي. فكان من المفوّض السامي صموئيل أن ردّ على مطالبة المؤتمر بالاستقلال مؤكداً أن المشاركين لا يمثلّون الشعب الفلسطيني.
كما رفضت عُصبة الأمم منحهم الشرعية، لالتزامها هي الأخرى بمشروع الحركة الصهيونية لاستعمار اليهود لفلسطين. لم تأتِ وثيقة الإنتداب لعام 1922 الصادرة عن عصبة الأمم على ذكر الشعب الفلسطيني ولو حتى مرة واحدة، رغم أنّ هذا الشعب كان يشكّل غالبية السكان في ذلك الوقت، وخصصت ثلث مواد الإنتداب للقضايا التي تتناول الإستعمار اليهودي والمستعمرين اليهود، الذين كانوا يشكّلون أقل من 10٪ من السكان.
حين قامت الجمعية الإسلامية – المسيحية بتعيين وفد للسفر إلى أوروبا عام 1921، كتب وزير الإستعمار البريطاني إلى صموئيل مُصرّحاً بأنه على الوفد أن يدرك أنه “من غير الوارد المُضي في الإصلاح الإداري إلا على أساس قبول سياسة إقامة وطن قومي لليهود، وهو بند أساسي في السياسة البريطانية”. وأضاف أنّه “لن يُسمح لأية هيئات تمثيلية قد يتم إنشاؤها بالتدخل في الإجراءات (أي الهجرة، إلخ) المُصممة لتنفيذ [مبدأ] الوطن القومي أو الطعن في هذا المبدأ”.
عندما عرض البريطانيون إنشاء مجلس تشريعي لفلسطين في عام 1922، أصرّوا على أنّه يتعيّن على المرشحين والأحزاب الإعتراف بشرعيّة الإنتداب الإستعماري البريطاني ومشروعه الإستيطاني الإستعماري الصهيوني. قوبل العرض بالرفض من قبل الفلسطينيين. وأطلق المؤتمر الفلسطيني الخامس، الذي انعقد عام 1922، حملة لمقاطعة الإنتخابات.
انعقد المؤتمر السادس، في حزيران/يونيو 1923، بعد أن منحت عصبة الأمم بريطانيا حق الإنتداب على فلسطين، وشدّد المؤتمر على عدم التعاون مع حكومة الإنتداب. في نهاية الأمر، رفض البريطانيون الاعتراف بأية جمعية تمثيليّة فلسطينية لا تقبل شرعية الإنتداب البريطاني على فلسطين، وتعهّده بتحقيق الإستعمار اليهودي للبلاد.
وبما أنّ أحداً لم يقبل بهذه الشروط، فقد رفض البريطانيون الإعتراف بحقوق الفلسطينيين الوطنية ومنظماتهم طوال فترة حكمهم التي استمرت ثلاثة عقود.
التّحوّل الجذري
حين أقدمَ الصهاينة على احتلال فلسطين وإقامة “دولة إسرائيل” عام 1948، كانت لديهم بالفعل استراتيجية فعالة اتّبعها البريطانيون وعصبة الأمم لحرمان الفلسطينيين من الإعتراف الوطني.
بمجرد أن يستسلم الشعب الفلسطيني ويُقرّ بحق إسرائيل في استعماره وسرقة بلاده،
فإنّ الغرب بنفاقه سيمنّ عليه بنسخة من شيء شبيه بحقوق الإنسان
ولهذا فإن التحوّل الجذري كان عندما اعترفت الأمم المتحدة، وريثة عصبة الأمم، بمنظمة التحرير الفلسطينيّة عام 1974، بعد مضيّ أكثر من نصف قرن على رعاية العصبة للإستعمار اليهودي لفلسطين ورفض الاعتراف بالشعب الفلسطيني.
بعد “اتفاقية أوسلو”، فقدت منظمة التحرير الفلسطينية، التي قامت بإنشاء السلطة الفلسطينية، الكثير من شرعيتها، وشرعت بالتعاون مع الإحتلال وتنازلت عن الحقوق الوطنية للفلسطينيين. مع صعود حماس في كانون الأول/ديسمبر 1987 وتزايد شرعيتها بين الفلسطينيين، بدأ الإسرائيليون في اتّباع الصيغة الإستعمارية البريطانية القديمة نفسها التي تبنّوها في التعامل مع منظمة التحرير الفلسطينية، وبذلوا جهوداً مكثّفة دوليّاً في هذا السياق خلال التسعينيات، بعد استسلام “أوسلو”.
ونتيجةً للجهود الإسرائيلية، في العقود الثلاثة الماضية، صنّفت الولايات المتحدة (تشرين أول/أكتوبر 1997) والإتحاد الأوروبي (كانون أول/ديسمبر 2001) “حماس” منظمة “إرهابية”، ورفضوا أيّ تعامل دبلوماسي معها ما لم “تعترف” بإسرائيل و”تنبذ” المقاومة المسلحة ضد الإستعمار الإستيطاني الإسرائيلي.
بعد فوز “حماس” الساحق في الإنتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006، فرضت ما تُسمّى باللجنة الرباعية المكونة من دبلوماسيي الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة، شروطاً مماثلة على أية حكومة فلسطينية يُصار إلى تشكيلها.
وهي ليست شروطاً جديدة، بل هي ذات الشروط التي لطالما وضعها الغرب من أجل منح موافقته على التعامل مع أية قيادة فلسطينية تحت الاستعمار.
وفي عام 2018، فشل قرار برعاية الولايات المتحدة لإدانة “حماس” في الجمعية العامة للأمم المتحدة، على الرغم من أن الجهود الأمريكية الدؤوبة تمكنت من حشد 87 دولة لدعمه. فيما قدّمت حماس طعناً قانونياً عام 2010 ضدّ تصنيف الإتحاد الأوروبي لها، وهي قضية فازت بها في عام 2014 عندما حكمت المحكمة العامة للإتحاد الأوروبي لصالحها. وقد استأنف الإتحاد الأوروبي على القرار عام 2015.
في العام 2017 والعام 2019، صدر المزيد من الأحكام القضائيّة التي أبقت “حماس” على قائمة الإرهاب. لكن في أيلول/سبتمبر 2019، نقضت محكمة أوروبية أدنى في لوكسمبورغ تلك القرارات وشطبت “حماس” من القائمة، ما دفع محكمة العدل الأوروبية إلى شطبها أيضا.
رغم ذلك، ولأن قرار محكمة الإتحاد الأوروبي “رأي” قانوني، فهو غير مُلزم للإتحاد الأوروبي، الذي يواصل اعتبار “حماس” “إرهابية”. باءت جهود “حماس” القانونيّة بالفشل. ومع ذلك، أرسل الإتحاد الأوروبي في أيار/مايو الماضي إشارات عن استعداده لفتح قنوات دبلوماسية مع حماس، شريطة أن تفي الأخيرة بشروط الإتحاد فيما يخصّ الاعتراف بـ”إسرائيل” واستسلام منظمة التحرير الفلسطينية في “أوسلو” عام 1993.
حقوق السكان الأصليين
باتت جهود نزع الشرعيّة عن “حماس” أكثر إلحاحاً بعد الأداء العسكري لتنظيم المقاومة في أيار/مايو الماضي، عندما انتقم من الهجوم الاستعماري الإسرائيلي المستمر. ردّاً على ذلك، شنّت المنظمات اليهودية السويسرية حملة لجعل الحكومة السويسرية تصنّف “حماس” على أنّها “إرهابية”.
رُفض الأمر من قبل وزارة الخارجية السويسرية التي أكدت على أنها “تُدين حقيقة إنكار “حماس” لحق “إسرائيل” في الوجود، وتعتبر الكفاح المسلح وسيلة مشروعة للمقاومة”. كما ذهب البرلمان الألماني، في شهر حزيران/يونيو الفائت، إلى حدّ حظر راية “حماس”. أما المملكة المتحدة، الراعي القديم للإستعمار الإستيطاني في فلسطين، فقد صنّفت جناح حماس العسكري – دون الجناح السياسي – على أنّه “إرهابي” في آذار/مارس 2001.
في غضون ذلك، واجهت الرباعيّة احتمال فوز “حماس” مرة أخرى في الإنتخابات المُلغاة التي كان من المفترض إجراؤها هذا العام، وأعادت تأكيد شروطها الخاصة بالاعتراف بالحكومة الفلسطينية، أي أنّ “الحكومة الفلسطينية المستقبليّة يجب أن تلتزم عدم انتهاج العنف والاعتراف بإسرائيل وقبول الاتفاقات والالتزامات السابقة”.
القيادة الفلسطينية
إن ما أظهره، بوضوح، تاريخ الرفض البريطاني والأمريكي والأوروبي والإسرائيلي للاعتراف بالحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني في وطنه، وحقه في الدفاع عن نفسه ضد الإستعمار الإستيطاني الصهيوني، هو أن الفلسطينيين لن يُعترف بهم كشعب إلا بعد أن يتنازلوا عن كامل حقوقهم الوطنيّة الأساسية.
فبمجرد أن يستسلم الشعب الفلسطيني ويُقرّ بحقّ إسرائيل في استعماره وسرقة بلاده، وبمجرد أن يتخلّى عن مقاومة الإستعمار الإستيطاني، فإن الغرب بنفاقه سيمنحه “شبه” نسخة من حقوق الإنسان، في الوقت الذي ستستمر فيه إسرائيل ذاتها في إنكاره.
رفضت القيادة الفلسطينية الاستسلام لبريطانيا وإسرائيل منذ عام 1918 حتى عام 1993. ومنذ استسلامهما، أصبحت منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية ترمزان إلى مجرد نظام عميل للاحتلال.
فمع الخسارة النهائية للشرعيّة الهشّة للسلطة الفلسطينية خلال الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين في أيار/مايو، بدأت “إسرائيل” والغرب وحلفاؤهم العرب في القلق بشأن الصعود الكاسح لشعبية “حماس” بين الفلسطينيين وفي جميع أنحاء العالم العربي، ما أدّى إلى زيادة الضغط لنزع الشرعيّة عن الحركة دولياً في محاولة لفرض الاستسلام على غرار ما حدث مع منظمة التحرير الفلسطينية.
يعرف قادة “حماس”، لاسيما العسكريون منهم، جيداً أن قبول الشروط الإستعمارية لإسرائيل والغرب يضرّ بالحقوق الوطنية الفلسطينية والنضال الوطني الفلسطيني المستمر منذ 100 عام.
إنّ ما ترفض “إسرائيل” وحلفاؤها من العرب والغرب الاعتراف به، مع ذلك، هو أنّه بغضّ النظر عن عدد القادة الفلسطينيين الذين وافقوا على الاستسلام منذ أوائل عشرينيات القرن الماضي، فإنّ جهودهم لطالما فشلت في إنهاء النضال الفلسطيني ضد الإستعمار. ولا يبدو أنّ ثمّة مؤشر على أنهم سينجحون في المستقبل كذلك الأمر.
* نشر في ميديل إيست آي بتاريخ 30 تموز/يوليو 2021
وسوم :
اللاجئون الفلسطينيون, حق العودة, صمود, فلسطين