العالم الإمبريالي أُحاديّ النظرة للإرهابيين أو ضدّ الإرهابيين
أكتوبر 1, 2021 10:57 ص*ترجمات – صمود:
“إضفاء هوية “الإرهابي” هي الاستراتيجية الخطابية التي يستخدمها الإمبرياليون للتمييز بين العنف “المشروع” الذي تُمارسه دولتهم و”إرهاب” المقاومة ضدّ الإمبريالية”.
(جوزف مسعد)
في العقدين الماضيين، قسّمت الولايات المتحدة العالم بين إرهابيين ومناهضين للإرهاب. في حين أنّ الإرهاب ليس مُصطلحاً جديداً بل يعود إلى الثورة الفرنسية، فإنّ “الحرب الأمريكية على الإرهاب” التي بدأت عام 2001 أعادت تحويله إلى هوس غربي.
فإذا تمَّ شنّ الحروب الإستعمارية بإسم محاربة “البربرية” و”الوثنية” لغير الأوروبيين منذ القرن السادس عشر، فإن الحرب الجديدة على الإرهاب قد أعطت “البربريّة” إسماً جديدا.
بررّت التقارير الرسميّة والتغطية الصحفيّة الغربية السائدة للحرب.. بالتلفيق، أنّ العراق كان يمتلك أسلحة دمار شامل، وأنّه كان له دور في هجمات 11 أيلول/سبتمبر، بالإضافة إلى الإدّعاء المُضحك بأنّ الحروب الأمريكية تهدف إلى جلب الديمقراطيّة للناس الذين لا ينتمون للعرق البيض ويعيشون في ظل حكم استبداديّ
في الأسبوع الماضي، قيل إنّ الوثائق الأمريكية التي تمّ الإفراج عنها حديثاً تشير إلى تورط إيراني مزعوم في أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، استعداداً لمزيد من العدوان الأمريكي على ذلك البلد. يُدرك الاستراتيجيون الأمريكيون، أنّه لا العراق ولا إيران، كان لهما دور في هجمات 11 أيلول/سبتمبر، باستثناء أنّ هجمات 11 أيلول/سبتمبر قدّمت للولايات المتحدة ذرائع لشنّ حرب مُصمّمة، وللاستهلاك العام الغربي.
يُدرك صانعو السياسة الأمريكيون أيضاً أنّ أهداف الحروب الأمريكية هي نهب إقتصادي وتفوّق عسكري، وهو ما يُسمّونه “الديمقراطية”، وهذا لا يختلف عن دوافع أولئك الذين شنّوا حروباً إستعمارية في أوروبا على مدى القرون الخمسة الماضية، وأُفهموا تماماً أنّها لصالح النهب الإقتصادي والربح، والتي أطلقوا عليها إسم “الحضارة”.
في السياسة الإمبريالية للشرق الأوسط، وخاصة في السياسة الإستعمارية الإستيطانية لفلسطين والجزائر، كان للإرهاب حالات أكثر وضوحا، والتي من شأنها أن تلعب دوراً مهماً في إعلام الحرب الأمريكية على الإرهاب.
في حين أنّ فيلم “معركة الجزائر”، الذي يُصوِّر البربرية الفرنسية التي تقمع الثوار الجزائريين المناهضين للإستعمار، كان مُفضّلاً لمناهضي الإستعمار في جميع أنحاء العالم منذ أن تمَ إنتاجه في الستينيات.
استخدمت وزارة الدفاع الأمريكية الفيلم بعد عام 2001 باعتباره فيلماً تعليميا. فيديو تدريب للاستراتيجيين العسكريين حول كيفية قمع العنف ضد الإستعمار، المعرَّف بـ”الإرهاب”.
في إسرائيل، بعد أيام قليلة من أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، أخبر رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون، المُنهمك بقمع الإنتفاضة الفلسطينية الثانية، الأمريكيين أنّ: “لكل فرد بن لادن خاص به، وعرفات هو بن لادن لدينا”.
أصبحت التجربة الإسرائيلية مع القمع المُستمر للمقاومة الفلسطينية بمثابة نموذج رئيس للحرب الأمريكية على الإرهاب. إنّ تاريخ مصطلح “إرهابي” في فلسطين منذ الثلاثينيات هو الأكثر توضيحاً في هذا الصدد.
اتخذت المقاومة الفلسطينية المُبكرة في ظل الحكم الإستعماري البريطاني في الغالب، شكلَ مناشدات قانونية بالنسبة للبريطانيين، حيث نظمّت المقاومة السكان، وحشدتهم ضد بيع الأراضي للصهاينة، وقامت بمناشدة الجهات الفاعلة الدولية للمساعدة في الحصول على الإستقلال الوطني. ولمّا ثبُت عدم فاعلية ذلك، اندلعت المقاومة الفلاحية الفلسطينية بحلول عام 1935، وأصبحت ثورة شاملة استمرت من عام 1936 إلى عام 1939. تضمنت الثورة إضرابات ومظاهرات وحرب عصابات ضد المستوطنين البريطانيين واليهود.
وصف البريطانيون حرب العصابات للتحرير بـ”الإرهاب”، وقمعها بعمل عسكري واسع النطاق، بما في ذلك إعادة غزو البلاد، وقتل ما يَقرُب من 9000 فلسطيني وجرح حوالي 30.000، ونفيّ العشرات وإعدام أكثر من 100 ثوري فلسطيني، حيث نظم البريطانيون فرق قتل بريطانية – صهيونية مشتركة تُعرف بإسم “فرق الليل الخاصة”، هاجمت القرى الفلسطينية ليلاً وأطلقت الرصاص، وقتلت عدداً لا يُحصى من الفلسطينيين.
الإرهاب الصهيوني
بدأ المستعمرون اليهود في ذلك الوقت باستخدام أساليب جديدة لقمع المقاومة الفلسطينية، بما في ذلك تفجير المقاهي بالقنابل اليدوية، في القدس على سبيل المثال في 17 آذار/مارس 1937، ووضع ألغام موقوتة بالكهرباء في الأسواق المزدحمة، والتي استخدمها الصهاينة لأول مرة ضد الفلسطينيين.
وفي حيفا في 6 تموز/يوليو 1938 عندما اضطُّر البريطانيون بعد قمع الثورة الفلسطينية إلى الحدّ من دعمهم للمشروع الصهيوني، انقلبت الهجمات الصهيونية ضدهم. فتضمّن الرد الصهيوني تفجير سفينة في حيفا في تشرين الثاني/نوفمبر1940 وقتل 242 لاجئاً يهودياً وعدداً من أفراد الشرطة البريطانية.
فقاموا باغتيال مسؤولي الحكومة البريطانية وأخذ المواطنين البريطانيين رهائن وتفجير مكاتب حكومية وقتل موظفين ومدنيين وتفجير السفارة البريطانية في روما (1946) وجلد وقتل جنود بريطانيين أسرى وإرسال رسائل وطرود مُفخخة إلى سياسيين بريطانيين في لندن، من بين أفعال أخرى.
مناحيم بيغن، رئيس وزراء إسرائيل المستقبلي، كان العقل المُدبر لعدد من هذه الهجمات. لم يكن بيغن مقتنعاً بأنّ أفعال مجموعته وأعمال المستعمرين الصهاينة الآخرين تُشكّل “إرهابا”.
بعد مذبحة جماعته لمئات الفلسطينيين في قرية دير ياسين في نيسان 1948، أصبح اسمه مرادفاً للإرهاب.
وصف ألبرت أينشتاين وحنا أرندت، من بين آخرين، مجموعة بيغن بأنّها ليست “منظمّة إرهابيّة يمينية شُوفينيّة” فحسب، بل إنّها “قريبة جداً من الأحزاب النازيّة والفاشيّة”.
في سيرته الذاتيّة المنشورة عام 1951، فصل بيغن مجموعته عن الإرهاب. لقد كان ماهراً بما يكفي لتقدير أنّ “الإرهاب” ليس مُصطلحاً موضوعياً متفقاً عليه من قِبل جميع الأطراف، لكنّه بالأحرى، هو استراتيجيّة بلاغيّة يستخدمها أعداء غير متكافئين لأغراض سياسية: “جاءت كلمة “الإرهاب” لتعريف أعمال الثوار أو مكافحة الثوار، أو المناضلين من أجل الحرية والظالمين. كلّ هذا يتوقف على من يستخدم المصطلح”.
أتحدث هنا عن الإرهاب الصهيوني ضد البريطانيين، وليس الفلسطينيين.
شُوهد العُنف الصهيوني ضد الفلسطينيين أكثر في سجل الحضارة اليهودية الأوروبية التي تُحارب الهمجيّة الفلسطينية الأصلية. كان ديفيد بن غوريون واضحاً في هذه القضية عندما أصرّ على القول: “لسنا عربا، والآخرون يقيسوننا بمعيار مختلف… أدوات حربنا مختلفة عن أدوات العرب”.
تقييمات رصينة
لكن بن غوريون فهم جيداً طبيعة المقاومة الفلسطينية للإستعمار الاستيطاني اليهودي: “إذا كنتُ زعيماً عربيا، فلن أتوافق أبداً مع إسرائيل. هذا طبيعي. لقد أخذنا بلادهم. أكيد، لقد وعدنا الله بذلك، لكن ما الذي يهمهم؟ إلهنا ليس إلههم. لقد جئنا من إسرائيل، هذا صحيح، لكن ذلك كان قبل ألفيّ عام، وماذا بالنسبة لهم؟ كانت هناك معاداة للسامية، النازيّون، هتلر، أوشفيتز، لكن هل كان هذا خطأهم؟ إنّهم يرون شيئاً واحداً فقط: لقد جئنا وسرقنا بلدهم. لماذا يجب أن يقبلوا بذلك؟ “
شارك في فهم بن غوريون للمقاومة الفلسطينية فلاديمير جابوتنسكي، مؤسس التحريفيّة الصهيونية التي ينتمي إليها بيغن. كما أصرّ على أنّ: “”أي مواطن أصلي” كلهم متشابهون سواء أكانوا مُتحضرين أو متوحشين، ينظرون إلى بلدهم على أنّه وطنهم الحقيقي، وسيظلون دائما أسياداً كاملين له. لن يسمحوا طواعيّة، ليس فقط بسيّد جديد، لكن حتى بشريك جديد، وكذلك الأمر بالنسبة للعرب”.
لم تمنع هذه التقييمات الرصينة بن غوريون وإسرائيل من المُضيّ قُدماً في التدمير الواعي والمخطط للمجتمع الفلسطيني عام 1948، ونشر نوع من العنف الذي قد تصنّفه إسرائيل على أنّه إرهاب إذا احتذى به الفلسطينيون. ومنذ ذلك الحين، عرَّفت الدعاية الإسرائيلية الرسمية التجريد التعسفي من ملكية الشعب الفلسطيني على أنّه عمل أخلاقي له ما يُبرّره من أجل تخليص “الشعب اليهودي”.
في الواقع، ولتخليص اليهود، لم يكتفِ الصهاينة بإدخال السيارات المُفخخة وتفجيرات الأسواق والمقاهي إلى الشرق الأوسط، بل قاموا أيضاً بإدخال عمليات اختطاف الطائرات في وقت مُبكر من عام 1954 وإخضاع الركاب للتفتيش والإستجواب والحبس.
علاوة على ذلك، لا تزال إسرائيل هي الطرف الوحيد في الشرق الأوسط الذي أسقط طائرة ركاب مدنية، كما فعلت مع طائرة ليبيّة عام 1973، مما أسفر عن مقتل 106 ركّاب على متنها. بالإضافة إلى أنّها تخصصت في زرع السيارات المُفخخة في لبنان أوائل الثمانينيات.
لكن كما يفهم الإسرائيليون والأمريكيون جيدا، فإنّ الخطاب المُستمر حول الإرهاب لا يتعلّق بضحايا “الإرهاب”، بل يتعلق بـ”الجُناة”.
حقيقة، إنّ جيوش الدولة تستهدف بشكل أكثر انتظاماً نفس الضحايا الذين يستهدفهم “الإرهابيون”، ومع ذلك لا يُشار إليهم على أنّهم “إرهابيون”، كما يُوضح أنّه لا يحتاج لفعل “إرهابي” لكي يَعرِف الفاعل بأنّه “إرهابي” بل العكس: إنّ الهوية الممنوحة للجاني على أنّه “إرهابي” هي التي تُحدد أفعاله على أنّها “إرهابية” بطبيعتها.
استراتيجيّة واعية
إنّ العنف الهائل الذي نشرته دولة إسرائيل منذ عام 1948 هو استراتيجية واعية لقمع كل المقاومة الفلسطينية لسرقة بلادهم، التي اعترف بن غوريون بأنّها ليست سوى سرقة صريحة، ورافقتها دعاية رسمية بأنّ الإسرائيليين كانوا ولا يزالون ببساطة يدافعون عن “بلادهم” وأنّ المُستعمرين اليهود ضد الإرهاب.
اكتسبت إسرائيل القّة المُطلقة كدولة منذ عام 1948 لتصنيف الفلسطينيين الأصليين الذين يُقاومونها على أنّهم “إرهابيون”، وهذا ما عزّز الإدعاءات السابقة بشكل أكبر. إذا كان منح الهوية “إرهابي” يهدف إلى إعطاء مبرّر أخلاقي للعنف الإمبريالي والإستعماري من أجل التمييز بين عنف الدولة “المشروع” وعنف المقاومة ضد الإمبريالية التي تُعتبر “إرهابا”، فقد فشل ذلك في إقناع ضحايا الإستعمار؛ ولا توجد جهود من قبل الجماعات الإمبريالية، مثل “هيومن رايتس ووتش”، التي تصرّ على مساواة العنف الإستعماري بالمقاومة ضد الإستعمار، خاصة في حالة الفلسطينيين وإسرائيل.
من الواضح أنّ الولايات المتحدة وإسرائيل والدول الأوروبية الإمبريالية الأخرى تُدرك جيداً أنّ مقاومة الفلسطينيين والجزائريين والفيتناميين والعراقيين والأفغان واليمنيين والصوماليين وغيرهم من الشعوب في جميع أنحاء العالم ضد الغزوات والتفجيرات الإستعمارية والإمبريالية، هي ذات شرعية وأخلاقية ودفاع عن النفس ضد الإرهاب الإمبريالي والإستعماري، ولهذا السبب عليهم شنّ حملات دعائية سياسية وافتراءات، واستخدام مصطلح “الإرهاب” لتصوير هذه المقاومة على أنّها غير أخلاقية وغير شرعية على الدوام.
أما بالنسبة لتسمية الغزوات الإمبريالية الأخيرة على أنّها “الحرب على الإرهاب”، فيجب أن يُنظر إليها في هذا السياق التاريخي، على أنّها ليست أقلّ من التبرير الأخير للنهب الإستعماري والإمبراطوري الذي قامت به أوروبا ومستعمراتها الإستيطانية البيضاء في العالم منذ القرن السادس عشر.
*نشر في الميدل إيست آي بتاريخ 17/9/2021
وسوم :
أمريكا, الاحتلال, الانتداب البريطاني, الحرب على الإرهاب, القضية الفلسطينية, صمود, فلسطين