هل نعرف كيف مُتنا، وكيف نحيا إذا ما نجونا!
يناير 15, 2022 10:03 ص*بسّام جميل
ليست الكلمة إلا موقفاً نؤكد فيه ما يعترينا من مشاعر وإمتثال لما نشهد بأنّه اليقين داخلنا، فإما حرية مُصانة بالعرق والدم وإلا فالشهادة ننالها، لتنال بمقامها من وجعنا وتورث في أبنائنا الكَلم الذي تجلّى في الفعل الأخير. هكذا تكون الحكايات المضيئة، القدوة التي نهتدي بأثرها لنُشيع بيننا ما يجب أن يكون، في الشعر الذي يعتلي هامة الفعل، والدفاع الذي لا ينقصه الوعي ليبنيَ فرادته.
قبل الآن وهذه اللحظة الغارقة في السواد، وقبل أن تتجلّى نكبتنا بقيام مستعمرة الشمال في أرضنا، واستبداد الغسق على الشفق، كان الإنسان الفلسطيني يقاوم ما استطاع دون أن توقفه لحظته المتفجرة في الشتات الطويل القادم، فينتصر بمفردات القيامة التي نالها بامتثاله للسَنا الصاعد من الدم المنثور في معركة البقاء.. نحو الشقاء.
إذا كان في كل نضال، ثمة ضوء في آخر النفق، فإنّنا نستعيد وهجه، ها هنا، لنبقى على العهد بعد أن دخلنا النفق وصرنا جزءاً من لمعانه الثري. ربما إستعادة بريق الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود، الذي انتصر بقصيدته، واجب وضرورة.
“لعمرك إنّي أرى مصرعي.. ولكن أغذّ إليه الخطى
أرى مصرعي دون حقّي السليب.. ودون بلادي هو المُبتغى
يلذّ لأذني سماع الصليل.. ويبهجُ نفسي مسيل الدما
وجسمٌ تجدّل في الصحصحان.. تناوشُهُ جارحاتُ الفلا
فمنه نصيبٌ لأسد السماء.. ومنه نصيبٌ لأسد الشّرى
كسا دمه الأرض بالأرجوان.. وأثقل بالعطر ريح الصّبا”
عن الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود
وُلد عبد الرحيم محمود في قرية عنبتا، قضاء طولكرم في فلسطين عام 1913. والده الشيخ محمود العنبتاوي المعروف من شعراء الشيوخ النافذين الظرفاء. درس الإبتدائية حتى الصف الخامس في بلدته، ثم إنتقل إلى مدرسة الفاضلية في طولكرم وتلقّى تعليمه الثانوي 1928-1932 في مدرسة النجاح الوطنية في نابلس (جامعة النجاح حاليا).
تعرّف على الشاعر إبراهيم طوقان وكان أحد أساتذته هناك، فتوطدت علاقته به كزميل وصديق، بعد أن عمل عبد الرحيم مدرساً لمادة الأدب العربي في مدرسة النجاح الوطنية، وعندما إشتعلت الثورة الكبرى في فلسطين سنة 1936، إستقال من وظيفته وانضمّ إلى صفوف المقاتلين في جبل النار.
طاردته حكومة الإنتداب البريطاني بعد توقُّف الثورة، فهاجر إلى العراق حيث أمضى ثلاث سنوات دخل فيها الكلية الحربية العراقية وتخرج منها ضابطاً برتبة “ملازم” أيام الملك غازي بن فيصل بن الحسين، وعمل كذلك مدرساً للغة العربية في بغداد من ثم مديراً لمدرسة إبتدائية في البصرة، وشارك مع المجاهدين الفلسطينيين أمثال حسن سلامة وعبد القادر الحسيني وذو الكفل عبد اللطيف، في ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق عام 1941.
ولما هدأت الأوضاع في فلسطين لانشغال إنجلترا بالحرب العالمية الثانية، عاد عبد الرحيم إلى بلده واستأنف العمل معلماً في مدرسة النجاح الوطنية نابلس. في سنة 1947، إشتعلت الثورة الفلسطينية من جديد بسبب صدور قرار تقسيم فلسطين؛ فقرَّر شاعِرُنا الإنضمام إلى جيش الإنقاذ، ودخل إلى منطقة بلعا في فلسطين واشترك في معركة بيار عدس مع سرية من فوج حطين، وشارك في معركة رأس العين، وفي نيسان/أبريل 1948 عُيّن آمراً للإنضباط في مدينة طولكرم، ثم مساعداً لآمر الفوج في الناصرة.
كرّس نفسه وشعره لمقاومة المأساة التي شرّدت الشعب الفلسطيني خارج أرضه، وشرّدته في بِقاع الأرض الحاضنة والطاردة، والمأساة الفلسطينية كانت سابقة لتاريخ النكبة، حيث بدأت عندما هاجمت عصابات يهودية إرهابية قرى وبلدات ومدناً فلسطينية؛ بهدف إبادتها ودبّ الذعر لدى سكان المناطق المجاورة، وتسهيل تهجيرهم في ما بعد. فكان شاعرنا ضمن مجموعة المقاومين منذ فترة طويلة للتعسف اليهودي حتى استشهاده مدافعاً عن فلسطينه، مُخلّفاً للأجيال المتعاقبة على الأزمان قصائد النضال والثورة.
لعمرك هذا ممات الرجال
فمن رام موتاً شريفاً فدا
أخوفا؟.. وعندي تهون الحياة
وذلا؟ وإني لربّ الإبا
بقلبي سأرمي وجوه العُداة
فقلبي حديد وناري لظى
حملت روحي على راحتي
إستُشهد الشاعر الفلسطيني محمود عبد الرحيم في مشهد عظيم يكشف عن البطولة والشجاعة في أبرز تجلياتهما. ففي معركة الشجرة، وهي قرية عربية تقع في منطقة الناصرة، وتُقابلها مستعمرة يهودية بإسم “السحرة”، كان شاعرنا على رأس مجموعة من المناضلين، وقد أبلى في تلك المعركة بلاءً كبيرا، واستولى على بعض مواقع العدو، وفي ما كان يخوض غمار المعركة أصابته شظية من مدفع، فسقط جريحاً على الأرض ووجده رفاق النضال ينعي نفسه شهيداً في الثالث عشر من شهر تموز/يوليو 1948عن عمر قارب 35 عاما، وكان يتمتم وهو محمول على أكتافهم:
احملوني احملوني واحذروا أن تتركوني
وخذوني ولا تخافوا وإذا متّ ادفنوني
خلّف عدداً من القصائد التي كتبها بين عامي 1935 – 1948، جمعتها لجنة من الأدباء بعد وفاته بعشر سنوات، وكان قد نشر بعضها في المجلات الفلسطينية واللبنانية والسورية والمصرية.
صدر ديوانه في عمان عام 1958 وبين جنباته عشرون قصيدة. هي أهم ما كتبه في عمره القصير العميق في مجرى الصراع مع الاحتلال.
الإتجاه الشاكي
سيطر “الإتجاه الشاكي” على الشاعر المكلوم، فانعكست ثنائية العشق والبندقية في حب فلسطين، على مفردات القصيدة التي اتّسمت بالكلاسيكية وخفوت الضجة اللفظية، مستنداً على الأوزان المستعملة من البحور القصيرة، كمثل: “في حالة غضب” و”جفت على شفتي الأماني”.
فرومانسية محمود استمدت من بُعده عن أرض الوطن مما يُرجّح تأثره بالمدرسة الرومانسية أثناء وجوده في العراق، وتظهر في معجمه الشعري الرومانسي وإن لم تفارقه اللغة التقليدية تماما. وهو من الشعراء القلائل الذين وهبوا حياتهم لبلادهم المنكوبة وقرنوا القول بالعمل، هو “شاعر” بقوة العاطفة والوضوح والسلاسة واللغة التحررية البعيدة عن الإفتعال والتعقيد اللفظي والعناية بالشكليات البيانية التي نجدها عند غيره من الشعراء الذي تأثروا بالتيار الإتباعي، الذي يحافظ على النظام التقليدي الموروث بالقصيدة العربية.
الحقّ ليس براجع
لذويه إلا بالحرابْ
والصرخة النكراء تجدي
لا التلطّف والعتاب
*كاتب فلسطيني
وسوم :
الإنتداب البريطاني, التيار الشاكي, الثورة الفلسطينية, الشاعر عبد الرحيم محمود, الشعر الكلاسيكي, المدرسة الإتباعية, الملك غازي بن فيصل بن الحسين, الناصرة, بحور الشعر, بسّام جميل, ثورة رشيد عالي الكيلاني, جامعة النجاح, جيش الإنقاذ, حسن سلامة, صمود, طولكرم, عبد القادر الحسيني, فلسطين المحتلة, قرية عنبتا