إحتلال الجسد.. مكيدة الاعتقال الإداري
فبراير 1, 2022 12:08 م*بسّام جميل
تقف على أعتاب أمر ما، تنتظر أن تصل إليه، دون أن تعيَ ماهيته، وفي لحظة فارقة تبدأ بسماع صوت يروي لك حكاية أو يلقي عليك بحكمة تظن أنّ فيها نجاتك، لكنّك تترد أمام هذه القفزة: المعرفة، أن تعلم، يعني أنّك ستحمل عبء هذه المعرفة وثقل ما عليك أن تفعله بها.
قبل قرنٍ كامل، كنّا نواجه معضلة جهلنا لعدونا، فغلبتنا العتمة التي كانت جزءاً منها، ممارسات لا يمكن أن تُعدّ “آدمية” في عالم يحاول إستعادة حضارة آخذة بالإندحار، ينعم فيها الإنسان بالقليل من الإعتراف بحقوقه. لكنّ عدو الإنسانية يستعد لخوض المزيد من الحروب الهمجية ليمنح وجوده شرعية واهمة ويأخذ بالقوة ما ليس له.. كأن يضع علماً “إسرائيليا” على سقفٍ فلسطيني، فلا البيت بيته ولا العلم يعطيه حقّ التملك.
إعتاد الاحتلال البريطاني على سحق كل ما يُجسّد هذه الإنسانية ليعتديَ على ما كان، واحتمالات أن يكون، فسنَّ القوانين ليشرعن الإعتقال بدون سبب أو تهمة واضحة أو أدلة دامغة، واكتفى بنظرية الشك، أو بالرغبة باحتلال الجسد وأسر حريته، فبهذا يضمن للعدو إنبساط حضوره في المحسوس، وينسحب طغيانه ليس على الأرض فحسب بل على كل ما يُشكّل تهديداً للمشروع الصهيوني وإقامة كيانه الغاصب.. والفلسطيني حاضر بكلّيته في هذا الخطر.
القانون للأقوى
لم يكن الاحتلال الصهيوني يمتلك أدوات مغايرة قبل أن يتمكن من ضمان بقائه على أرض فلسطين، فمارس ما اعتاد سلفه البريطاني أن يفعله، من أساليب قمع وعنجهية، ليعيد تصدير قوانين الطوارئ التي شرّعها سلفه، ويعمل على تثبيتها كواقع أصيل في قوانينه الضبابية لمواجهة شرائع الأمم المتحدة وقراراتها من خلال إتفاقية جنيف، فيستمر هذا الواقع إلى يومنا هذا دون أن تنجح الرغبة المتلونة لدى حلفائه، بأن تفرض عليه الإلتزام بأي من هذه القرارات التي يتمّ إستخدامها بحسب رغبة الأقوى من الأمم المزهوة بإنتصاراتها بعد الحرب العالمية الثانية.
إنّ الاعتقال الإداري الذي يصدر من جهة ما بحقّ شخص ما دون توجيه تهمة معينة أو لائحة إتهام، بحيث يكون بناءً على ملفات سرية إستخبارية، أو بسبب عدم وجود، أو لنقص الأدلة ضد متهم ما، فإذا وجد ضابط المخابرات أنّك تُشكّل خطراً على أمن المنطقة يستطيع أن يُحوّلك للإعتقال دون إبداء الأسباب.
“تنص المادة 78 من إتفاقية جنيف الرابعة أنّه “إذا رأت دولة الاحتلال لأسباب أمنية قهرية أن تتخذ تدابير أمنية إزاء أشخاص محميين، فلها على الأكثر أن تفرض عليهم إقامة جبرية أو تعتقلهم”.
تبدو المادة واضحة في ترسيخ حقّ المنتصر في الحرب العالمية الثانية ليُحوّل العالم بأسره إلى ساحات خاضعة أو قابلة للخضوع له بقوة السلاح، أي أنّ هذه الإتفاقية، نظمت بعض القوانين الخاصة بين القراصنة “المحتلون الجدد” دون أن يعنيها حقا، كل الادعاءات تحت عناوين إنسانية التي كانت ولا تزال واجهة زائفة يتمّ إستخدامها لمحاول تخدير بعض الشعوب الغارقة في ظلاميتها.
الاعتقال شكل من أشكال الاحتلال
ليكن معلوما، إنّ الاعتقال الإداري ليس حجزاً ومصادرة لحرية فرد فقط، بل هو ممارسة أصيلة لتأكيد احتلال الجسد، لكل من هم تحت حكم هذا الاحتلال، فتُمدّد فترات الاعتقال كل ستة أشهر دون محاكمة، أو تقديم إتهامات، ليقضيَ المعتقل سنوات في هذا الأسر محروماً حتى من أبسط حقوق الأسير كزيارة عائلته له، أو حقّ الدفاع عن نفسه، رغم وجود محاكم صورية أحيانا، لكنّها لا تُثمر إلا بتمديد فترة الاعتقال.
مارس الاحتلال أنواعاً مختلفة من الاعتقالات لتناسب الظروف التي مرّت بها فلسطين منذ نكبة 48 إلى ما بعد احتلال الضفة والقطاع بعد حرب 67، بالإضافة إلى احتلال الجنوب اللبناني وما أنتجه من مقاومة لهذا المحتلّ، فاستدعى ذلك إجراء تعديلات تتلاءم مع هذه المتغيرات، حيث تفاوتت أعداد المعتقلين في الأحداث الكبرى كالهبات الشعبية في الداخل المحتل، وإنتفاضة أطفال الحجارة وهبّة الأقصى.. لتبلغ منذ بداية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية أكثر من 700.000 (سبعمائة ألف) فلسطيني، يشكلون تقريباً 20% من مجموع السكان الفلسطينيين في فلسطين المحتلة، وإذا أخذنا بنظر الإعتبار أنّ غالبية هؤلاء المعتقلين هم من الرجال، نصل إلى حقيقة أنّ حوالي 40% من مجموع الذكور الفلسطينيين في الأراضي المحتلة قد تمّ اعتقالهم.
المقاومة بالجوع
إنّ خطوة المقاطعة التي بدأ بها المعتقلون الإداريون هي جزء من إسقاط فكرة الإعتراف والتعامل مع المحاكم الصورية في مسألة الاعتقال الإداري، تُضاف إلى معارك عديدة منها معركة “الأمعاء الخاوية” المستمرة على مدى سنوات والتي بدأت مع الأسير خضر عدنان، كأداة ضغط لنيل الحرية، وتأكيد عالي القيمة على حقّهم بحرية أجسادهم وهزيمة هذه الرغبة التي ورثها الصهاينة من البريطانيين بـ”احتلال الجسد”.
وقد نال بعض المعتقلين حريتهم بعد هذه المعركة، كان آخرهم هشام أبو هواش الذي إستمر في إضرابه عن الطعام لمدة 141 يوما، بينما تستمر معركة الأسير ناصر أبو حميد بعد قضاء أسبوعين مضرباً عن الطعام في ظروف صحية صعبة للغاية.
خلال سنوات طويلة، كانت الحملات التي ينظمها نادي الأسير ومجموعة كبيرة من المؤسسات الحقوقية الفلسطينية والدولية للضغط على الاحتلال لوقف ممارساته الفاشية، على رأسها الاعتقال الإداري، تُعدّ عاملاً هاماً في تسليط الضوء على هذه الممارسات لكنّها لم تنجح بتحقيق أي نتائج ملموسة، بيد أنّ طرق المواجهة المدعومة أولاً بصمود الأسرى وعائلاتهم، إضافة إلى معارك الكرامة (الإضراب عن الطعام) قد دفعت الاحتلال للخضوع في النهاية، للإفراج عن بعض الأسرى دون أن تُقلّل من أعداد الإعتقالات التي تأخذ وتيرتها بالإزدياد، مع استمرار إعادة اعتقال الأسرى المحررين أكثر من مرة.
*كاتب فلسطيني
وسوم :
إتفاقية جنيف, إنتفاضة أطفال الحجارة, الأسرى في سجون الاحتلال, الاحتلال البريطاني, الاعتقال الإداري, العدو الصهيون, المحاكمات الصورية, المقاطعة, المقاومة الشعبية, بسّام جميل, صمود, فلسطين المحتلة, معركة الأمعء الخاوية, ناصر أبو حميد, نكبة 48, هبّة الأقصى, هشام أبو هوّاش