بيان القمة الروسية – الصينية
فبراير 10, 2022 1:04 م*منير شفيق
خرج البيان المشترك الصيني – الروسي الصادر عن قمة بوتين – شي جين بينغ في 4 شباط/فبراير 2022، في العاصمة الصينية بيجين؛ على العُرْف بالنسبة لبيانات القمم الثنائية. فقد جاء أقرب إلى برنامج يتّسم بالتفصيل والشمول في تناوله لكل ما يُعتبر من القضايا العالمية، أو التي تخصّ الدولتين، فهو برنامج لخمس أو عشر سنوات، وقد يصل إلى العام 2040.
من يُدقّق في البيان المذكور لن يبالغ لو قال إنّه ميثاق وحدة بين الصين وروسيا، فهو أكثر من بيان يُعلن تحالفاً بين دولتين، فقد ألمح في إحدى فقراته أنّه يؤسّس لعلاقات بين البلدين، أسمى من مجرد تحالفات سياسية وعسكرية، شبيهة بتلك التي عرفتها مرحلة الحرب الباردة. إنّه “يؤسّس لصداقة بين البلدين لا حدود لها”، فليس ثمة مجال يمكن أن يحول دون التعاون بينهما حوله، الأمر الذي يعني أنّ العلاقة التي يُحدّدها البيان بين كل من روسيا والصين (كأنّهما توحدتا) يدخل الوضع الدولي في مرحلة جديدة من توازن قوى غير معهود.
فقد كانت كل دولة منهما قبل البيان نداً عسكرياً لأمريكا، فكيف يصبح الحال مع هذه “الصداقة التي لا حدود لها”؟، أي الحال الذي يشبه الوحدة بين البلدين العملاقين عسكريا. وهذا ما يجب أن يدخل في حسابات تقدير الموقف من جانب أمريكا أولا، ثم من جانب الناتو (أمريكا وأوروبا) ثانيا، ومختلف دول العالم ثالثا.
فعلى سبيل المثال يجب أن يدخل في الحساب العسكري ضد روسيا، في أوروبا، وجود الصين بقوة، “بلا حدود” إلى جانبها، وذلك وفقاً للبيان نصاً وروحا، علماً أنّ الصين في مرحلة ما قبل هذا البيان كانت تؤيد روسيا، عموماً ومعنويا، ولكنّها كانت تنأى بنفسها عن الدخول المباشر في أي صراع ضد أمريكا والغرب، عدا في تايوان وبحر الصين.
صحيح أنّ البيان وصل حدّ التماهي بين البلدين في الموقف من كل القضايا التي يواجهانها، ويواجهها العالم سياسياً وإقتصادياً وثقافيا، وحتى أيديولوجيا، إلا أنّه لم يتطرق إلى علاقاتهما العسكرية. وبالطبع هذا متعمّد، وبصورة ملفتة للنظر. بل راح البيان يؤكد على العلاقة الجديدة التي هي “بلا حدود”، بأنّها غير موجهة ضد طرف ثالث، أو أطراف ثالثة، وبأنّها ليست من نمط الأحلاف التي عرفتها مرحلة الحرب الباردة.
ولكن كيف يفهم الطرف الثالث البيان عندما يصل التماهي إلى الموقف الواحد المشترك في كل القضايا الدولية، وذلك إبتداءً من الصراع الأيديولوجي والمعرفي حول الديمقراطية وحقوق الإنسان، مروراً بالإقتصاد والتنمية المستدامة والتجارة الدولية، وما يندلع من صراعات ومواقف، وصولاً إلى الفضاء الخارجي، وإشكالات عسكرته، أو حمايته من العسكرة؟ ثم كيف يفسّر عدم التطرق إلى التعاون في المجال العسكري بين الطرفين؟ فالطبيعي هنا، أنّ المجال العسكري سينطبق عليه ما انطبق على كل المجالات الأخرى التي تطلبت التفصيل بها.
ثمة تغيير ما في الموقف الصيني في هذا البيان عما كانت عليه إستراتيجية الصين قبله، في ما يتعلق بعلاقته بروسيا أولا، كما بعلاقته، ثانيا، بالتعامل مع القضايا الدولية المشتبكة سياسياً وعسكريا، أو هي في طريق الإشتباك. وكذلك ثمة تغيير ما في الموقف الروسي في هذا البيان عما كان عليه قبله بالنسبة إلى العلاقة بالصين.
فالعلاقة بينهما إزاء بعضهما البعض كانت معقدة ومركبّة، فقد مرت تاريخياً بعلاقات عدائية جداً في الستينيات، ثم بعلاقات منتقلة إلى نوع من الإنفتاح والتعاون والود، لا سيما في السنوات العشرين الماضية، إلى جانب تصويت مشترك في قضايا دولية لا سيما في مجلس الأمن، أو في مواجهة سياسات أمريكية ناصبت الطرفين العداء (كل على حدة) في آن واحد، ومع ذلك لم تصل العلاقة إلى أن تصبح شكلاً من التحالف السياسي والعسكري، فبقيت سياسة أو إستراتيجية كل منهما مستقلة عن الأخرى إلى هذا الحد أو ذاك.
ولهذا عندما يصدر بيان القمة في 4 شباط/فبراير 2022، بصورته المذهلة، بجديدها وجديتها، إلى حد يشبه “الوحدة” أو التماهي، لا بد من العجب حين ذهبت تحليلات الكثيرين إلى عدم إتخاذ البيان معبّراً عن جديد، وذات أهمية استثنائية، هذا إذا لم تذهب إلى التشكيك بجديته.
والماضي والتاريخ يصران على بناء الحواجز أمام كل جديد، والجديد لا يرحم الماضي والتاريخ إذا ما مثل واقعاً جدياً جديدا، لا مفر من إستيعابه والتعامل معه.
فقد كان تحديد نقاط الخلاف ونقاط الإتفاق بين روسيا والصين يأخذ معنىً حذراً من اعتبار الطرفين في حالة تحالف فعلي في مواجهة أمريكا، فكان لكل منهما هامشه الخاص في إدارة الصراع، وكانت سياسات أمريكا المعادية لكل منهما أهم عامل للجمع بينهما.
والخلاصة، إنّ كلا من روسيا والصين في هذا البيان تجاوزتا كل ما يمكن أن يُنسب إلى ما قبله. فهذا بيان يعلن إتفاقاً جدياً حول كل القضايا السياسية والإقتصادية والثقافية، وحول كل التحديات التي تواجه العالم عموما، وتواجههما خصوصا، من جهة، ويتقدم من جهة أخرى بمشروع للعالم بأسره لبناء نظام جديد متعدّد القطبية، ونظام علاقات تشارك ومساواة في ما بين دول العالم لتحقيق الأمن والسلم والإستقرار والتنمية المستدامة، ومكافحة الفقر والوباء، وتحقيق ازدهار للجميع، على حد تعبير البيان.
فعلى مستوى موازين القوى، فالعلاقة الروسية – الصينية كما يعبّر عنها البيان، ولنقل -حيطة وحذرا- إن التزم الطرفان به وترجماه عملياً في قابل الأيام والأشهر، سوف تضع العالم أمام موازين قوى رُجّحت في مصلحتهما عسكرياً ولاحقاً إقتصاديا، وفي الكثير من المجالات.
أما على مستوى الصراع السياسي بالنسبة إلى من يكسب أغلبية دول العالم إلى قوة حجته وما يُقدّمه للعالم من مستقبل، فإنّ البيان يقترح مشروعاً بديلاً للعلاقات الدولية غير ما أنتجه القرن العشرين، وغير ما هو قائم.
طبعا، هذان البُعدان يُعبّران من جهة عن تقدير موضوعي لإتجاهات موازين القوى ومستقبلها، ولكنّهما من جهة أخرى لا يعنيان، ولا يجب أن يعنيا الإنحياز للمحور الصيني – الروسي من جانب شعوبنا العربية والإسلامية، بل إنّ البيان نفسه لا يدعو إلى انحياز أو تحالف، وإنّما يصرّ على إستقلالية كل دولة في اختيار المناسب لها، سياساتٍ ومصيرا، وذلك من خلال الإنسجام مع تاريخها وحضارتها وقِيَمها ومصالحها. وهذه من نقاط قوته في الصراع ضد عالم الهيمنة الأمريكية، وما خلّفه الإستعماران القديم والجديد من إرث وموروث.
لقد آن الأوان لشعوبنا أن تنهض لتُسهم إيجابياً في بناء عالم جديد، أكثر مساواة بين دوله، وأكثر عدالة، على أنقاض عالم ذاهب لتدمير مجتمعاته وبيئته، وتدمير كرته الأرضية، وهو يظن أنّه يصنع ازدهاراً وحداثة وتقدما.
المصدر: عربي 21
وسوم :
أمريكا, التنمية المستدامة, الصين, القمة الروسية - الصينية, بوتين, تايوان, حلف الناتو, دول العالم الثالث, روسيا, شي جين بينغ, منير شفيق