فلسطين على طريق “زيارة الأربعين”: بوصلة الحقّ واحدة
أكتوبر 3, 2022 7:33 ص*فاطمة شاهين
لا يمكن لطريق تؤدي إلى الإمام الحسين(ع) أن تخلوَ من فلسطين، كما لم تخلُ يوماً طريق فلسطين من حضور الإمام الحسين(ع). إنّنا حين نتحدّث عن الحق، عن رفض الظلم والطغيان، عن الإصلاح والمعروف والسلام، عن التضحيات في سبيل إعلاء وترسيخ كل تلك القيم، إنّما نستحضر الثورة الحسينية والقضية الفلسطينية على حدٍّ سواء.
في الطريق من النجف إلى كربلاء، طريق “المشّاية” كما يطلقون عليه، حيث يمشي زوّار الحسين وحاملو قضيته وأهدافه، بمناسبة ذكرى أربعين استشهاده، من مدينة النجف إلى مدينة كربلاء، زوارٌ من كل الأعمار، من مختلف الدول والجنسيات، يجمعهم الحسين في طريقه ليتأسّوا بأخته السيدة زينب بنت علي(ع) والتي مشت كل تلك المسافة، عائدةً مع عائلته في أربعينه، وليعلنوا في طريق الحسين، رفضهم للظلم والباطل اللذين قتلا الحسين وأهل بيته في معركة كربلاء وسبيا نساءه وأطفاله.
في هذا المسير، الذي هو تبنّي لكل المعاني والقيم النبيلة التي أتت بها الثورة الحسينية، منذ العام 61 هجرية حتى يومنا هذا، في هذا المسير السنوي الذي يشكّل محطة روحية وقيمية عالية لكل زواره الذين بلغ عددهم هذا العام حوالي 21 مليون زائر، لا يمكننا إلا أن نجد فلسطين.
فلسطين فوق الرؤوس، وعلى الظهور أيضا!
تحت وقع الشمس الحارقة، وفي ظل حرارة بلغت الخمسين درجة مئوية، يمشي الزائر وعلى رأسه قبعته التي تقيه بعض هذا الحر، وحقيبته التي يحمل فيها ما تيسر من أغراض تساعده على استكمال المسير إلى نهايته. إلا أنّه لا يوفر مساحةً إلا ويحمل بها معاني مسيره وقيمه والقضايا التي يمشي إليها، إيماناً وإعلاء، وحتى نذرا. فنجد البوصلة واضحة جداً في اتجاه فلسطين عبر الحسين، حين نقرأ على قبعة أحد الزائرين: “الوضوء في الفرات، والصلاة في القدس”. فالتمهيد للتحرير، يمرّ عبر كربلاء، ولا وصول إلى القدس ولا صلاة فيها، إلا باعتناق القيم الكربلائية، والتي لم تكن كربلائية فقط بل إنسانية عامة. فنحن حين نتحدث عن كربلاء ومعاني الثورة الحسينية، لا نتحدث عن منطق مذهبي ضيّق، لأنّ الثورة الحسينية قد حملت المعاني الإنسانية باتساعها حتى ذكرها غاندي، وغيفارا، ونيلسون مانديلا وغيرهم.
نتوقف قليلًا على الطريق لنلتقي بوفد زائرين من باكستان. يلفتك لون السترة البرتقالي التي يرتدونها، ذلك حتماً لكي يدركوا بعضهم البعض وسط الزحام الشديد. على ظهورهم، على خلفية السترة، تجد صورة تجمع كل قادة محور المقاومة في العالم اليوم، من إيران إلى العراق إلى لبنان. وعند الزاوية اليمنى من الصورة تجد علم فلسطين مرفوعاً فوق قبّة الصخرة، يعلو صورةً لطفلة شهيدة من غزة. كل هذه المشاهد في صورة واحدة، مكتوب عليها “نحن أمة حسينية” بالعربية والأردية والإنكليزية. تتحد هنا كل أشكال المقاومة ورموزها، تتحد في صورة واحدة لتظهر القيم الحسينية جامعة لخط واحد، ونضال واحد، مهما تنوعت اللغات والجغرافيا والمذاهب الدينية.
على طريق “المشّاية”، هنا قبّة الصخرة!
أمام صرحٍ جامعي كبير، مكتوب على جداره “جامعة أهل البيت”، يهزّ قلبك المسجد الاقصى. تقف مذهولا، تشعر وكأنّك وصلت هناك حقا، فمجسّم قبّة الصخرة الذي تجده على يمينك، كبير يكاد يلامس الحجم الحقيقي، ينقذك من تلك الهيبة جموع الزائرين الذين لا زالوا يمرّون بجانبك، فترجع إلى الواقع، وتدرك أنّه بناء مشغول فعلًا بتقنية عالية، بنفس الألوان وتفاصيل الزخرفة الحقيقية، وهو مصلّى الجامعة، تتقدّمه صورة عملاقة للدرج الحجري الذي يوصل إلى باحاته، وأمامهم مجسّمات الأعمدة المحيطة به.
ليس صدفة أن يكون المجسم هنا، فالأماكن الجغرافية التي تضج بها قيم العدل ورفض الظلم، تصبح كلها مساحةً واحدة متحدة، ممتدّة من كربلاء الإمام الحسين(ع) وصولاً إلى كل ميادين مقاومة الطغيان بأشكاله وأماكنه المتنوعة في زمننا اليوم.
“أمشي إلى الحسين، وعيني على الأقصى”
على جانبَيْ طريق الحسين، طريق “المشّاية”، يلتقي الزوار بالمواكب والمضائف، وهي مساحات اختار أصحابها من العراقيين واللبنانيين والإيرانيين والأتراك وغيرهم، خدمة الزوار، فيقدّمون الطعام والشراب على أنواعه، كما يعبّرون بما لا يخطر على البال عن حبهم للحسين من خلال خدمة زواره فتجد من يرش الماء البارد في حرّ الظهيرة على المارّين، ومن يقوم بالتدليك، وآخر اختار إصلاح عربات الأطفال، حتى أنّ هناك زاوية فيها تجهيزات لشحن الهواتف. إضافة الى كل ذلك، تجد مواكب توعوية حول قضية ما، تلتقي مع الإمام الحسين(ع)، مثل مواكب لحركات المقاومة، في اليمن، والعراق، وأيضاً فلسطين.
1452 عامود تمتد على طريق زوار الأربعين، فتُعرّف المواكب بأرقام العواميد التي تجاورها، لنلتقيَ عند العامود رقم 833 بموكب “نداء الأقصى”.
يستقبلك الموكب بجدارية ملوّنة، على يمين مدخله، صورة عليها زوار الحسين “المشّاية” كباراً وأطفالا، نساءً ورجالاً وشيبة، متجهين نحو مقام الإمام الحسين وقبّة الصخرة، الظاهريْن في خلفية الجدارية، وترى في مختلف أنحائها علم فلسطين يحملونه بالأكف، ويعلّقونه على الحقائب، مع علم العراق وعلم “لبيك يا أقصى”.
يعلو مدخل الموكب، جملة كُتبت باللون الأحمر، “لبيك يا حسين لبيك يا أقصى”، ليشكّلَ كل ذلك تمهيداً لمساحة اتّحدت فيها كل المعاني الثورية. هذا الموكب الذي أقامته بالتنسيق بينها، كل من الحملة العالمية للعودة إلى فلسطين ومؤسسة نداء الأقصى والعتبة الحسينية المباركة جاء “استكمالاً للرسالة التضامنية الكبيرة التي حملها مؤتمر “نداء الأقصى الدولي” تضامناً ودعماً لفلسطين، القضية الأعدل في هذا العالم”[1].
يذهلك في الموكب، هذا الإتساع، فيظهر الإبداع على الجدران، واضحا. على اليمين، تجتمع الآيات القرآنية التي تحاكي واقع فلسطين، مع أقوال الإمام الحسين(ع) التي تحاكي نهضتها ومقاومتها، فتجاور آية “الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ” (الحج:40) مع قول الحسين “إنّي لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما” لنجد في خلفيتها صوراً للمجازر والتهجير الذي ارتُكب بحقّ الشعب الفلسطيني. ننتقل إلى مجسم خريطة فلسطين التي تتوجه نحوها السهام، وتدلنا العبارة المكتوبة أسفل الخريطة “التطبيع خيانة” على أنّها سهام التطبيع. يظهر أيضاً جدار الفصل العنصري، كما مجسمات لهدم البيوت مع شروحات نقرأها في لوحات مرفقة، بالمعلومات والأرقام.
وتحت عنوان “شهداء الحرم القدسي”، تتلألأ صور الشهداء، وجوه مقاوِمة من فلسطين وخارجها، فيجاور الشهيد عماد مغنية الشهيد يحيى عياش، ويساند الشهيد سمير القنطار الشهيد باسل الأعرج، ويظهر السيد عباس الموسوي إلى جانب الشهيد الشيخ أحمد ياسين.
وفي زاوية أخرى، تجدون أقوال شهداء فلسطين عن الإمام الحسين(ع)، كالشهداء ناجي العلي، وفتحي الشقاقي وباسل الأعرج.
ويبرز جليّاً العمل التوعوي التوثيقي، من خلال الجلديات المطبوعة والمعلقة والتي تشرح الكثير من الموضوعات المرتبطة بالقضية، حول المسجد الاقصى، عن تاريخه، وأهم المخاطر التي يواجهها اليوم، حول حي الشيخ الجراح، كما أبرز الإنتفاضات الفلسطينية، وغير ذلك.
ولا تغيب أيقونات الإنتفاضة والمقاومة الشعبية، فنجد الكارلو، الصاروخ، السكين، الإستشهادي، الحجر، في خمس لوحات، هذه الوسائل التي فعلت أكثر بآلاف المرات مما قد تفعل الترسانات العسكرية لأي جيش نظامي.
ولا يغفل الموكب عن ذكر شهداء العراق على درب فلسطين، وصور مقابر العراقيين في فلسطين، في جنين ونابلس وغيرها. كما معارك الشرف العراقية مع العدو الصهيوني في العام 1948.
وإلى اليسار، معرض للكاريكاتير، ينفرد على مساحة قاعة كاملة، وهو “معرض فلسطين الدولي الأول: رسوم الكاريكاتير”، فتغرق في إبداع الرسامين من مختلف دول العالم العربي والعالم، وقدرتهم على نقل الوجع الفلسطيني والبطولة الفلسطينية على حد سواء.
إنّها إذاً طريق ثورة واحدة، موحّدة الإتجاه، جمعت القلوب والأذهان. وكما هو شعار العراقيين لزيارة الأربعين من كل عام “الحسين يجمعنا”، وكما أنّ فلسطين والحسين اجتمعا على المظلومية والمقاومة معا، فسيكون النصر حتميا، وعساها زيارة الإمام الحسين(ع) يوماً على أرض فلسطين، قريبة جدا.
*كاتبة لبنانية
[1] . من صفحة “الحملة العالمية للعودة الى فلسطين” على الفيسبوك
وسوم :
الإنتفاضة الشعبية, التطبيع, الثورة الحسينية, الجدارية, العراق, القضية الفلسطينية, المسجد الأقصى, المشّاية, حي الشيخ جرّاح, زيارة الأربعين, صمود, فاطمة شاهين, فلسطين المحتلة, كربلاء