زيارة بايدن: احتواء “النكبة الأمريكية” بالمجزرة
أكتوبر 18, 2023 9:33 م*أحمد حسن
في العمق، ورغم بعض الضجيج الإعلامي والخطابي المراوغ، إلّا أن زيارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” الحاليّة لإسرائيل تحمل بعض الجدّة ليس بكونها فقط أول زيارة لرئيس أمريكي في زمن الحرب كما قال نتنياهو بل لجملة عوامل معقدة ومتشابكة دفعت لهذا الحضور الشخصي، وذلك “قول” لا يستقيم طرحه إلا باستعراض الملابسات والسوابق.
فأن تحصل الزيارة على إيقاع مجزرة إبادة وحشية كمجزرة “المشفى المعمداني” دون أن تضخ دماء ضحاياها في وجه الزائر ومستقبليه فذلك أمر معتاد سواء كان بسبب صلف القاتل وعنجهيته المشهودة أم هوان بعض أهل الضحية المعروفين أيضا، كما أن يكون الهدف من الزيارة والمجزرة هو احتواء “طوفان الأقصى” فذلك أمر معتاد بدوره أيضا.
على أنّ السوابق تقول أكثر من ذلك، فعام 1973، في حرب تشرين مثلا، تدخل الأمريكي لإنقاذ “إسرائيل” عبر طريقين، الأول جسر التعزيزات العسكرية الهائلة والفارقة، والثاني راجمة الصواريخ الفكرية والمؤامراتية وزير الخارجية، هنري كيسنجر، وعام 2006 في العدوان على لبنان كانت كوندوليزا رايس شخصياً هي من تقود وتوجّه وتخطّط وتحدّد أهداف الجريمة، لذلك فإنّ حضور “بايدن” الشخصي اليوم ليس إلا استمراراً لمسار طويل من رعاية وحماية القاتل المحلي حتى من نفسه ضبطاً وخشية من الانعكاسات الضارة على المشروع الأمريكي الأكبر والأوسع، لكنّ “الجنون” الإسرائيلي الحالي في هذه اللحظة العالمية المربكة، بالتوازي مع خطورة الأبعاد الفعلية لـ”الطوفان”، جعل من الضروري تدخّل الرئيس شخصياً لتفعيل ما يمكن وصفه بـ”دبلوماسية الكبح” أو فرض “التعقّل”، النسبي طبعا، في مواجهة ظروف مستجدة في بيئة استراتيجية عالمية متغيرة.
وبالطبع، يمكن الحديث باستفاضة عن هدف إظهار أعلى درجات التضامن مع الإسرائيليين من قائد “العالم الحر” في هذه الزيارة، كما يمكن الحديث، وباستفاضة أيضا، عن ضرورة إسراعه شخصياً لترميم فشل وزير خارجيته في بناء حلف سياسي تقوده الولايات المتحدة، وتشارك فيه أطراف “أبراهام”، يعمل على “استثمار العمليات التي تشنّها إسرائيل ضد عدونا المشترك حماس”، لفرض “مشروع يقضي بإيجاد حل مؤقت يسمح بنقل نصف سكان قطاع غزة” إلى مصر والأردن ودول خليجية أخرى، ريثما يتمّ التوصّل إلى حل سياسي سريع وشامل، فذلك كلّه صحيح وهو موجود كبنود رئيسية في جولة بايدن ولقاءاته -وإن أجّلتها المجزرة- مع أتباعه في المنطقة.
بيد أنّ الأمر أبعد مما سبق، فالزيارة الرئاسية تشي وتحمل في الآن ذاته، وذلك الأهم، عن أجندات أمريكية أخرى، بعضها استراتيجي، وبعضها انتخابي داخلي، وبعضها وجودي بالمطلق، فهي، أي الزيارة، معطوفة على استنفار القوة الأمريكية الكاسحة تكشف ما يمكن، ويجب، تسميته بـ”النكبة” المعكوسة، لأنّها أي “الزيارة”، لا تعبّر، في مقصدها الحقيقي، إلا عن تعويض إعلاني عن ضعف حقيقي في الخيارات وتراجع هائل في ترسانة وسائل الردع المعتادة، كما عن زعزعة المخططات السابقة للمنطقة في الآن ذاته، فواشنطن مثلاً كانت قد انتهت تقريبا، أو هكذا خُيّل لها، من ترتيب تحالف عربي – إسرائيلي لضبط المنطقة ما يسمح لها، أي لواشنطن، توجيه قوتها الرئيسية إلى منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وقيام نتنياهو، قبل عشرة أيام من “النكبة” برفع حمل خارطة اعتبرت فلسطين كلها “إسرائيل” التي عقدت اتفاقيات تطبيع مع دول عربية، كان تلويحاً رسمياً بنجاح ذلك الترتيب.
لكنّ “نكبة” التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر كشفت عن هشاشة أعمدة هذا البناء، وعن خلخل فاضح في جدران “القاعدة” الغربية المتقدمة فجاء “الأصيل” بنفسه للترميم، ومن هنا يمكن فهم المفارقة في الخطاب “البايدني” سواء ما كان منه منذ بدء “الطوفان” أو ما شهدناه بالأمس، فهو خطاب يعلن شيئاً ويضمر أشياء أخرى، فإنّه إذ يذكر المجزرة و”يقدّم أحرّ التعازي بالأرواح البريئة” ويوجّه الاتهام نحو “الطرف الآخر” كما قال لنتنياهو فلكي يخفي مسؤوليته الشخصية حين منح “تل أبيب” صكاً على بياض، وإذ يعلن تضامنه مع “إسرائيل” ودعمه لحربها فإنّه يضمر تضامنه مع مشروعه ويعلن حربه الخاصة، وهو إذ يضمر هذه الأخيرة ويهدّد بـ”القوة” فإنّما يقدّم عبر ذلك عروضاً لتسوية معقولة من وجهة نظره -وذلك ما يكشفه قوله “صحيح أنّ القوة مهمة ولكنّها مثال ونموذج فقط، وأتطلع قدماً إلى ما يمكننا إنجازه خلال الزيارة”-، وهي عروض تتضمن، إلى جانب الدعم الأمريكي والتعبئة الإقليمية خلف “إسرائيل”، عقلنة تصرفات “تل أبيب” والإمساك النهائي بقرارها كي لا تجرّه إلى حيث لا يريد، أو للدقة إلى ما لا يقدر عليه الآن، لأنّ تورّط الإدارة الحالية في حرب جديدة يعني سلفاً أنّها ستخسر الانتخابات القادمة، في وجه منافسين يعارضون سياسة الانخراط في أكثر من بقعة في العالم، وهذه الحقيقة الأخيرة، أي الوضع الانتخابي الداخلي، يبدو أنّها الدافع الأهم خلف حضور الرئيس بايدن شخصياً في المنطقة، وتلك، بمجملها، علامات ضعف لا دلائل قوة والأهم أنّها تترك للمنطقة وقواها الحيّة،، ولمرة نادرة، فرصة القبض ولو بصورة نسبية حالياً على زمام الأمور.
عام 1948، أو عام النكبة العربية الشهير، قال رئيس الوزراء الأول للعدو ديفيد بن غوريون: “لم يبقَ لعرب أرض إسرائيل سوى مهمة واحدة وهي الهروب”، في ما اليوم، وفي عام “النكبة المعكوسة” يبدو أنّ الهروب، الفعلي والمعنوي –ومثاله هروب “الأتباع” من قمة الأردن- أصبح الحل الوحيد لدى أحفاد بن غوريون البيولوجيين والفكريين، رغم “المجزرة” الحالية وما سيأتي بعدها.. والأيام حُبلى.
*كاتب سوري
وسوم :
أحمد حسن, اتفاقيات أبراهام, اتفاقيات التطبيع, الاحتلال الإسرائيلي, الانتخابات الرئاسية الأمريكية, العالم الحر, الكيان الصهيوني, تطبيع, جرائم الاحتلال, حرب تشرين 1873, زيارة جو بايدن, صمود, طوفان الأقصى, فلسطين المحتلة, مقاومة