أكذوبة حل الدولتين
نوفمبر 28, 2023 7:54 ص*موسى جرادات
منذ أن ذهب العرب إلى مؤتمر مدريد قبل أكثر من أربعة عقود، اشترط كيان الاحتلال أن لا يكون الوفد الفلسطيني مستقلا، بل ضمن الوفد الأردني، وكان له ما اشترط، حيث تمّ إلحاق الوفد الفلسطيني برئاسة حيدر عبد الشافي بالوفد الأردني، في دلالة واضحة إلى عدم اعتراف الاحتلال، في ذلك الوقت، بالفلسطيني كطرف مستقل في حل الصراع. هذا الإلحاق القسري، وما يترتب عليه بعدم الاعتراف بمتطلبات الحقوق الفلسطينية، كانت له أهداف سياسية صهيونية واضحة.
لكن سرعان ما أخفق هذا المسار ليدخل الفلسطيني دهاليز “أوسلو” ومتفرعاته، والذي أفضى إلى اعتراف متبادل بين كيان الاحتلال ومنظمة التحرير، لكن هذا الاعتراف لم يضمن على الإطلاق أي إمكانية لأن يقود هذا المسار في النهاية إلى إقامة دولة فلسطينية على حدود 67، وكل بنود الاتفاقات صيغت على قاعدة إقامة حكم ذاتي فلسطيني محدود، يُصار بعدها إلى إجراء عملية تفاوض أخرى للحل النهائي.
والجميع يعرف أنّ هذا التفاوض اصطدم برفض إسرائيلي مطلق في كل عناوين التفاوض الأساسية، الأمر الذي أدى إلى اندلاع انتفاضة الأقصى، وتوقّف عملية التفاوض نهائياً حتى هذا الوقت.
من المفيد العودة إلى بعض ملامح المسار السابق، لنعرف كيف أدار المحتل ومن يرعاه كلا المسارين، “مدريد” و”أوسلو”، لمعرفة الكيفية التي حكمت هذا المسار، بالعملية التفاوضية ووفق الرؤية الأمريكية التي انصبت على تثبيت مفهوم “عملية السلام ” بصفتها ديمومة لا تنتهي، يُضاف إليها نزع المحددات الدولية والإقليمية لأي مسار تفاوضي مقبل، بعد أن احتكرت الولايات المتحدة الأمريكية، مرجعية التفاوض بين الطرفين، دون الاحتكام للشرعية الدولية وقوانينها الملزمة، وبالتالي، ارتبط الأمر برمته على ما يريده الاحتلال من هذه العملية، حيث بقي الخلاف بين القوى السياسية داخل الكيان الصهيوني منصبّاً على مفاعيل الاتفاق على الأرض، فمنهم من وافق على مبدأ قيام الدولة الفلسطينية على ما تبقى من حدود 67 وفق اجتهادات خاصة ومحددة تفرغ هذه المقولة من مضمونها الحقيقي، فلا سيادة مطلقة حيث حدود هذه الدولة مطولة من الاحتلال من كل الجهات، دولة منزوعة السلاح، مرتبطة بمواثيق مع الاحتلال بكل الجوانب: الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وقد لخّصها الرئيس الراحل ياسر عرفات عند عودته من مباحثات كامب ديفيد، بالقول: “يريدوننا كلاب حراسة لمستوطناتهم”، في ما رفض اليمين الصهيوني فكرة الدولة من أساسها، فقد عمل نتنياهو وطوال الوقت على فرض حقائق جديدة على الأرض، تمنع أي تواصل جغرافي في هذه الدولة، عبر فصل الضفة الغربية إلى شمال وجنوب، وفصلها أيضاً عن قطاع غزة، والبحث عن حلول أخرى، تجعل من قطاع غزة المكان الفعلي المتاح لإقامة تلك الدولة العتيدة، مع بعض الإضافات الجغرافية من الأرض المصرية، ومن خلال جملة من المشاريع الاقتصادية العملاقة التي تعتمد في تمويلها على الغاز الفلسطيني الموجود في بحر غزة.
لم يكن المجتمع السياسي الصهيوني بكل مكوناته رافضاً لهذه الفكرة، طالما أنّ الفلسطيني يُجرّ إليها بحكم المتغيرات التي حدثت على الأرض.
حل الدولتين والكلام المضلل
هذه اللازمة التي ما انفكت تقدّم مفتاحاً لحل القضية الفلسطينية، والتدقيق فيها، تحيلنا دوماً إلى فكرة التضليل، فصنّاع القرار الدوليون، الذين يبدأ حديثهم بهذه المقولة، يغيب عن ذهنهم او يُغيَّب، أنّ كيان الاحتلال قائم على كامل الأرض الفلسطينية منذ عقود طويلة، وأنّ هذا المنطلق في الحديث يلزمه الإقرار بوجود الاحتلال على مناطق 67، الأمر الذي لم يحدث حتى هذا الوقت، أعلى درجات الحديث في هذا المجال يندرج في وجود أراضٍ متنازع عليها وهي: الضفة الغربية وقطاع غزة، وعلى الطرفين أن يتفقا على إنهاء هذا النزاع، وطبعاً الطرف الأقوى في هذا النزاع هو الذي يقرر في نهاية الأمر، مجريات التفاوض وأشكاله وحيثياته، الأمر الذي دفع نتنياهو وطوال سنوات خلت بالمضي قدماً نحو تثبيت تصوراته، التي غلب عليها القفز عن كافة الحقوق الفلسطينية، والتي اصطدمت أخيراً بـ”طوفان الاقصى”، الذي بدد هذا الوهم، وأعاد القضية إلى مسيرتها الأولى.
هل حل الدولتين عملي ومقبول الآن؟
من المفيد القول هنا، إنّه لم يكن هناك إجماع فلسطيني منذ البداية على مشروعية التفاوض مع الاحتلال، وهذا الأمر هو جوهر الخلاف والانقسام الفلسطيني منذ “أوسلو” وحتى هذا الوقت، حيث تمّ تغييب شرائح عريضة من القوى السياسية والمجتمعية الفلسطينية، والتي رأت منذ البداية أنّ هذا المسار محكوم بالفشل، لأنّه بالأساس لا يلبي تطلعات الشعب الفلسطيني بالتحرر من الاحتلال، لكنّ هذه الشرائح لم تقدّم تصوراً عملياً لحل القضية الفلسطينية، خارج حدود الشعارات الأيديولوجية الثابته والتي ترى بأنّ فلسطين.. كل فلسطين ملك وحقّ للشعب الفلسطيني، ولا يجوز التفريط بحبة تراب واحدة، لكنّ هذا التصور لم يملك الماكينة العملية لتفعيله واقعاً على الأرض، وبالحد الأدنى لم يوفر تصوراً نظرياً عاماً لشكل الدولة الفلسطينية المنتظرة على كامل التراب الوطني الفلسطيني، وكان من الممكن الحديث عن الدولة الواحدة، بعد تفكيك الكيان الصهيوني وكل ما رشح عنه من مؤسسات عنصرية ولا إنسانية، مع إبقاء الباب مفتوحاً للقبول بحل عملي للوجود اليهودي في فلسطين بعد الانتهاء من إزالة هذا الكيان.
على صعيد قوى الاحتلال، يبدو أنّ “طوفان الاقصى”، استطاعت أن تقتحم المجال السياسي الصهيوني وتصيبه في مقتل، حيث سقطت مقولات اليمين الصهيوني العلماني والديني، كما سقطت مقولات اليسار الصهيوني من قبل، وبالتالي فإنّ الاجتماع السياسي الصهيوني مُطالب اليوم ببناء تصور ما للقضية الفلسطينية، بعيداً عن كل الأطروحات السابقة، وهي حاجة داخلية ملحة، قبل أن تكون حاجة دولية وإقليمية وفلسطينية، فطالما أبدت المقاومة الفلسطينية حضورها الفعال في الميدان، لذا، فإنّ أي تصور يفترض تغييب الفلسطيني عن مسرح التاريخ هو تصور معتل يخالف بديهيات الحياة، ونحن هنا في لحظة ترقب مرتبطة إلى حد بعيد الآن، بدورة هذا الاجتماع والمسار العام الذي سيسلكه مستقبلا، خاصة وأنّ مجريات الحرب الحالية، نزعت من كيان الاحتلال صفة “الدولة” الإقليمية ذات النفوذ، وكذلك أسقطت وإلى عقود قادمة “دولة الرفاهية”، وأثبتت الحرب أيضاً أنّ الوجود الفلسطيني على الأرض ممثّلاً بالمقاومة الفلسطينية عامل فاعل ومقرر في موازين القوى.
حل الدولتين، فلسطينيا، لا معنى له
سقطت النخبة السياسية الفلسطينية، التي رأت بهذا التصور حلاً عادلاً للقضية الفلسطينية، هذا السقوط المدوي، سيسمح في القريب العاجل بولادة نخب سياسية وخطاب سياسي جديد مبني على حقائق فعلية أنجزتها وستنجزها المقاومة، بعد أن أعادت الاعتبار للكفاح المسلح، كعنوان أساسي عام، منه يرشح الخطاب السياسي الفلسطيني، ومنه يستطيع أن يقول للعالم، دولة واحدة، بدون الحركة الصهيونية الإرهابية المعادية للإنسانية، وهذا هو المنطلق الوحيد القادر على تقديم مقاربة حقيقية تتوخى إنهاء النزاع.
*كاتب فلسطيني
وسوم :
اتفاق أوسلو, الاحتلال الإسرائيلي, الحرب على غزة, الحركة الصهيونية, الغاز الفلسطيني, الكفاح المسلح, الكيان الصهيوني, المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية, حل الدولتين, دولة الرفاهية, صمود, طوفان الأقصى, فلسطين المحتلة, مؤتمر مدريد, موسى جرادات