محكمة العدل الدولية ومأزق نتنياهو

التصنيفات : |
يناير 15, 2024 8:00 ص

*موسى جرادات

يبدو أنّ لحظة انتهاء الحرب على غزة، لن تتوقف على خطوات تتعلق بالفعل العسكري والميداني، بل من الواضح جداً أنّ أثرها على الصعيد السياسي وعلى مستويات خارج حدود الصراع الجغرافي، سيكون واضح المعالم.

أثارت الكثير من التقارير الصحافية والإعلامية مسألة ذهاب نتنياهو إلى مغادرة عالم السياسة وربما إلى السجن، بعد نهاية الحرب، لأسباب كثيرة ومتعددة، ولكنّ فشله الكارثي في الحرب على غزة، كان هو المعلم الأساس في انهيار منظومته السياسية، لكنّ نتنياهو أبى أن يذهب إلى المحكمة وحده، دون أن يأخذ الجميع معه.

ففي محكمة العدل الدولية، حضر كيان الاحتلال بكل مؤسساته بوصفها شريكاً فعلياً بجرائم الإبادة الجماعية التي ارتُكبت في غزة على امداد مائة يوم ويزيد..

هذا الحضور اليوم تجاوز في رمزيته حدود اللحظة، ليطل على كل تاريخ الكيان الإجرامي.

الكثير من المراقبين والمتابعين لشؤون هذا الكيان، يلاحظ حالة السعار والغليان داخل قواه السياسية والمجتمعية، هم لم يعتادوا على هذا المشهد، ففي حملاتهم على المحكمة التي اتهموها سريعاً بأنّها معادية للسامية، قبل أن تنظر في الدعوى التي قدّمتها جنوب إفريقيا، التي حاولت وسائل إعلام الاحتلال شيطنتها.

لقد اعتادوا طوال عقود أن يمثّلوا دور الضحية، الذي أتقنوه جيدا، لهذا كان هذا السلوك المتردد، حابين قبولهم الذهاب إلى المحكمة من عدمه، ولمجرد اقتناعهم أن لا مناص من الذهاب جنّ جنونهم، و ساروا في درب عقلنة هذا الجنون، عبر الاستعانة بخبرائهم الحقوقيين المحليين وخبراء دوليين ضمّوهم على عجل، في محاولة منهم لمنع محكمة العدل الدولية من النظر في حيثيات الدعوى من حيث الشكل لا المضمون.

الكثير من التحولات التي طرأت على مجمل الخطاب السياسي لكيان الاحتلال، وحتى على السلوك الميداني الذي بدأ بعض ملامح التغيير فيه، عبر الانسحابات الجزئية من بعض مناطق القطاع وإعادة التموضع في مناطق أخرى

إنّهم يكرهون المساءلة من أي جهة كانت، فجيشهم وفق ادعاءاتهم من أكثر الجيوش أخلاقية، ومؤسساتهم القضائية أكثر قدرة على معالجة هذه الادعاءات.

في قاعة المحكمة، رأيناهم وهم يُحرّفون الحقيقة ويلوون عنقها، ليصلوا إلى حقيقة مفترضة مصنوعة من خيالاتهم، تقول إنّهم هم الضحية.

فمنذ أن قبلت المحكمة الدعوى، كان خطابهم السياسي المعتاد، أنّ هذه المحكمة معادية لهم، وسرعان ما انتبهوا أنّ هذه المحكمة الأممية مشهود لها بالنزاهة في الكثير من القضايا، حاولوا التأثير عليها من خلال خطاب المظلومية، ليعودوا بعدها إلى صناعة خطاب سياسي إعلامي يقوم على التشكيك في الدولة صاحبة الدعوة المقدَّمة ضدهم وهي جنوب إفريقيا، بالإضافة إلى هذا كله، صناعة وقائع جديدة بمفعول رجعي، عبر صياغة جديدة لرؤيتهم للحرب على غزة ، فها هو نتنياهو يقول إنّ “إسرائيل” لا تريد في نهاية الأمر احتلال قطاع غزة، على الرغم من وجود عشرات التصريحات التي أدلى بها طوال أيام الحرب والتي تقول بوضوح لا يقبل التأويل أنّ الهدف هو احتلال قطاع غزة، وبتنا أمام شخصيتين لنتنياهو: الأولى قبل المحكمة والثانية بعدها.

وهنا وبالتحديد يمكننا رصد الكثير من التحولات التي طرأت على مجمل الخطاب السياسي لكيان الاحتلال، وحتى على السلوك الميداني الذي بدأ بعض ملامح التغيير فيه، عبر الانسحابات الجزئية من بعض مناطق القطاع وإعادة التموضع في مناطق أخرى، يرافقه دعوى إلى مد القطاع بالمساعدات الإنسانية والغذائية والخدمات والسلع، فهم وفق ادعاءاتهم الجديدة لا يرفضون ذلك، على الرغم أنّ تقارير المنظمات الدولية والإنسانية كلها كانت تشير صراحة إلى هذا المنع، والأخطر من هذا هو اتهامهم الدولة المصرية بأنّها هي التي تمتنع عن إدخال تلك المساعدات.

تملك محكمة العدل الدولية صلاحيات إصدار أوامر احترازية سريعة لوقف الحرب بالنظر في الدعوى، وهذا ما يخشاه الاحتلال الصهيوني، لأنّ رفض القرار في حال صدوره قد يرتب عليها استحقاقات قانونية مستقبلاً

المحكمة قبل أن تصدر الحكم

العارفون في المسلك الذي تقوم به المحكمة والوقت والجهد الذي تبذله في قراءة الدعوى المقدَّمة ضد “إسرائيل” بارتكاب جرائم إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني، يدرك أنّ الزمن قد يطول قبل أن تُصدر أي حكم وقد يستغرق الوقت عامين أو أكثر قبل النطق بالحكم، لكنّها تملك صلاحيات إصدار أوامر احترازية سريعة لوقف الحرب بالنظر في الدعوى، وهذا ما يخشاه الاحتلال الصهيوني، لأنّ رفض القرار في حال صدوره قد يرتب عليه استحقاقات قانونية مستقبلا، وربما الرفض قد يستخدم قرينة ضده في إصدار الحكم، لأنّه وبكل بساطة تُجمع تقارير المنظمات الدولية والإنسانية على أنّ إيصال المساعدات إلى محتاجيها في غزة مستحيل في ظل إطلاق النار المستمر.

كل من قدّم ويقدّم العون لـ”إسرائيل” يعيش لحظة الهستيريا السياسية والقانونية، لأنّ شظايا الاتهام المفترض ضد كيان الاحتلال ستصيبه في مقتل

المحكمة فصل جديد في محاكمة الاحتلال

بعد كل هذه العقود من الظلم التاريخي الذي عاشه الشعب الفلسطيني، لاحت بارقة أمل في محاكمة ومحاسبة كيان الاحتلال، وهي بالمناسبة اختبار حقيقي للإنسانية جمعاء، واختبار أيضاً للقانون الدولي الإنساني ولكافة الشرائع والقوانين الدولية، لاختبار قدرتها في رسم معالم هذا الأمر لدى الشعب الفلسطيني، الذي عايش الإجحاف الدائم والمستمر، ولهذا تتوجه الأنظار إلى تلك المحكمة الدولية، وتقرأ اصطفافات الدول منها ومن الدعوى المقدَّمة على طاولتها، فكل من قدّم ويقدّم العون لـ”إسرائيل” يعيش لحظة الهستيريا السياسية والقانونية، لأنّ شظايا الاتهام المفترض ضد كيان الاحتلال ستصيبه في مقتل، فالعالم اليوم بكل مكوناته شاهد على محاكمة العصر، وربما لو انتصرت الضغوط السياسية في التأثير على مسار المحكمة الدولية في عدم إصدار حكم إدانة ضد “إسرائيل”، فإنّ الإنسانية جمعاء مقبلة على فصل جديد من الصراعات قد يكون عنوانها التخلص من كل أدوات الهيمنة التي تفرضها تلك الدول على الجميع بعد أن انكشف زيف ادعائها الذي بشّرت به دينياً طوال عقود، وبهذا تكون غزة قد أحيت أمماً من رقادها، بفعل صمودها الأسطوري الذي صنعته بدم ولحم أبنائها.

*كاتب فلسطيني


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , , ,