أوّل الغيث “مُهنّد” و”أميرة” وُلد ميتاً

التصنيفات : |
ديسمبر 11, 2021 11:25 ص

*بسّام جميل

لن نختلف على الأسماء، لكنّنا بطبيعة الحال، سنختلف على الإنتماء، فالهوية القلقة تُنتج أضغاث انتماء ورسائل مشوهة، إذا ما اعتبرنا أنّ هناك أزمة هوية لشخص، أم لمجموعة تحت أيّ مُسمى ثقافي.

يقع فيلم “أميرة” محطّ التباس لجهة الإنتاج، فرغم الشراكة الأردنية- الفلسطينية- المصرية، يتّضح لمن شاهده بأنّه لا ينتمي لأيّ من هذه البلاد رغم أنّ عملية الإنتاج كاملة، وُزّعت مهامها بين هذه الجنسيات، فالمخرج وكاتب السيناريو مصري، مع حضور فلسطيني- أردني لأبطال العمل، بالإضافة للفريق الفني، بتمويل مشترك من قبل شركات إنتاج من مصر والأردن والإمارات والسعودية.

يتحدث الفيلم عن نُطفة جرى تهريبها من سجون الاحتلال لزوجة أسير، لتنجب الزوجة طفلة، تكتشف لاحقاً أنّها إبنة ضابط إسرائيلي.

تنشأ “أميرة” معتقدة أنّها وُلدت نتيجة عملية تلقيح إصطناعي من نُطفة مُهربة من والدها الأسير في سجن “مجدو” الإسرائيلي، وهو ما يمنحها شعوراً كبيراً بالفخر، باعتبارها إبنة مناضل فلسطيني. لكن، في إحدى الزيارات مع أمها للسجن، يطلب الزوج من زوجته إنجاب طفل آخر بالطريقة ذاتها، وهو ما ترفضه الأم في البداية، ثم تعود لتوافق عليه.

وتنجح عملية التهريب، لكنّ المفاجأة تقع عندما يعلن الأطباء أنّ النُطفة التي استلموها هي لشخص عقيم لا يمكنه الإنجاب إطلاقا. وهو ما يدفع عائلة الزوج، ومعها أميرة، إلى الشكّ أولاً في سلوك الأم.

وتبدأ عملية مطابقة للبصمة الوراثية مع جميع المحيطين بالزوجة، لكن من دون جدوى.

توالت ردود الفعل الغاضبة في الشارع الفلسطيني، لتبلغ ذروتها بطلب مقاطعة كل أبطال الفيلم ومنتجيه، وسحب ترشيحه للأوسكار باسم المملكة الأردنية، وهذا ما تمّ فعلاً في نهاية الأمر.

سفراء الحرية

أُثير موضوع حمل زوجات “أسرى المؤبدات” عام 2003، عندما بحثت الحركة الأسيرة عن سبل الإستفادة من التقدم الطبي لإنجاب أطفال لأسرى الأحكام العالية، وتجاوزت الحركة الأسيرة عدداً من التحديات أولها الحصول على فتوى دينية تُشرّع هذه العملية، فصدر عن مجلس الإفتاء الأعلى الفلسطيني فتوىً بجواز عملية التلقيح من النُطف المُهربة.

نجحت محاولات عديدة بتهريب النِطاف داخل حبة تمر، فكانت تصل ملايين الحيوانات المنوية ويتمّ فحصها ليُستخدم حيوان منوي واحد في عملية التخصيب. وقبل البدء بعملية التلقيح يحضر إثنين من عائلة زوجة الأسير وآخرين من عائلة الأسير نفسه، وتُصوّر بطاقاتهم الشخصية، ثم يتمّ التأكد ما إذا كانت العيّنة قادمة من السجون (أيّ من الزوج الأسير) لحِفظ الأنساب، ولا يُجري المركز المتخصص في الإخصاب هذه العمليات سوى لزوجات أسرى الأحكام العالية أو الأسرى الذين تقترب نساؤهم من سن اليأس.

تمّت أول عملية إنجاب عن طريق النُطف المُهربة عام 2012، عندما وُلد الطفل “مُهنّد” إبن الأسير عمّار الزبن من مدينة نابلس، والمحكوم بالسجن المؤبد. لتستمر بعدها محاولات أخرى، بين نجاح وفشل، حيث تمكّن الأسرى، حتى اللحظة، من إنجاب أكثر من مئة طفل، وتمّ إطلاق إسم “سفراء الحرية” على المواليد الجدد.

أحدث عمليات الولادة بهذا النوع، كانت خلال هذا الأسبوع ، بعد أن وضعت زوجة أسير فلسطيني من قطاع غزة “أيوب أبو كريّم” مولوداً ذكراً حملت به عن طريق “نُطفة منوية”، نجحت بتهريبها من زوجها المُعتقل داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي منذ 7 أعوام.

ليس بالأمر اليسير أن تنجح كل المحاولات، من تهريب النِطاف إلى تحقيق الحمل لدى زوجات الأسرى، فشروط العملية صعبة للغاية كأن يتوفر أربع شهود داخل المُعتقل يشهدون على إخراج النُطفة، ليتمّ نقلها من خلال وسيط ويستلمها شخصان (بالغان، عاقلان، شاهدان)  من عائلتي الأسير وزوجته. ثمّ يكون على الزوحة أن تخضع لتحضيرات علاجية مُسبقة قبل موعد إخراج النُطفة بأشهر، ويتّبع الأهالي حيثية مُعينة للإعلان عن تهريب النُطفة للمجتمع الفلسطيني بعد خروج النُطفة من المعتقل. ثم يُصار إلى تحليل الحمض النووي أو فحص DNA لإثبات النسب، ونسبة الخطأ سجّلت “صفرا”.

العقوبات على الأب والطفل

لا يملك أطفال النُطف المُهربة  في مدينة القدس، أوراقاً ثبوتية تؤكد هوياتهم وأنّهم حقيقيون  وعلى قيد الحياة، وبالتالي لا يحقّ لهم دخول المدارس والطبابة وإصدار شهادة وفاة.

واحدة من هذه العقوبات التي وقعت على أحد الأسرى، وصلت إلى حد إضافة عامين على حكمه بعد علم إدارة السجن بنجاحه في تهريب نُطفة. كما عوقبت عائلات من غزة بالمنع من زيارة إبنها الأسير، بعد نجاح عملية التلقيح، إلى درجة حرمانهم من زيارته مدى الحياة.

الدراما في خدمة الجلاد

رغم المحاولات المتكررة للطرق على خزان الوعي والإشادة بما يمكن أن يُنقذ هذا الوعي، من خلال مئات المقالات المنشورة والدراسات التي قدّمها كتّاب ومثقّفون فلسطينييون، لا نجد أذناً صاغية. فهل نحتاج حقاً للصدمة، لنُعيد حساباتنا وننظر بعين المرتاب إلى كل ما يتمّ عرضه والترويج له في ساحات مشتبكة عدة، بين السينما والمسرح والدراما، إلى النصوص والروايات المُفخخة، بحُجة كشف الستار عن المجتمع الصهيوني والإضاءة على ما يترتب عليه هذا الكشف من مفاجآت، ليس أقلها، هذا التطبيع الوقح وتقديم خدمات مجانية للرواية الصهيونية، مباشرة وبين طيّات مفرداتنا، بل الرهان على تفاصيل التعاطف الممكن لأيّ تفصيل من تفاصيل هذا النضال الذي يثابر البعض من أبناء شعبنا لترسيخه والبناء عليه.

يبقى الرهان هو في قلب أيّة قضية وتفريغها من مضمونها، من زهو الإنتصار إلى دسّ السم في وجداننا، عن طريق تعويم التفاصيل لتعلوَ سقف الجدل والتشظي والإختلاف.

يُجيد العدو قراءة المشهد، ليُعيد تظهير إنجازاتنا ولكن بما يخدم أهدافه السياسية وأوهامه الأيديولوجية. يستخدم أدواتنا، مفرداتنا، لغتنا وشخوصنا، ليقوم بالهدم المُركّز. والأخطر في كل ما سبق هو الدعاية الصهيونية.. وحالنا.. ونحن نمارس الإنتظار ولا شيء أكثر من الصراخ وقد أعيا حناجرنا، هذا الخراب القائم والممتد في شراكة مقيتة مع مغتصبينا.

 لمن يُتابع فائض الإنتاج الخاص بالدراما الفلسطينية وعرضها على منصات عالمية مثل “نتفلكس” ويعتبره إنتصاراً للرواية الفلسطينية، بعد الضغوط التي واجهتها هذه الشركات في معرض الدفاع عن المحتوى الفلسطيني، عليه أن يعيد التفكير مجدداً بذلك.

إنّ عناصر الإنتاج من التمويل إلى النصوص فالرؤيا الإخراجية، كلها عوامل تقود إلى تظهير رواية تُرضي المُحتل بشكل أو بآخر. يَعمد عمّال الثقافة إلى التركيز على الجانب الإنساني في إنتاجهم الهادف، لكنّهم يقفون على الحياد في استعراض واقع الاحتلال وانعكاساته على كل مفاصل الحياة، فتخرج إلى الشاشات والوعي الجمعي أعمالاً مُشوهة ومنحازة للجلاد لا الضحية.

ستُعرض أفلام جديدة، ولن يكون “أميرة” الأخير الذي سيترشّح للجوائز العالمية، بهذه الرؤى المتعاطفة مع الاحتلال ضمنا، لتشريع روايته وتشويه رواية أصحاب الأرض. ويبدو أنّ هناك آلية مصادرة حقيقية لكل ما ننتجه نحن الفلسطينيون ويتمّ إهماله عمدا، لتتلقّفه تلك الماكينة النشيطة وتُعيد إنتاجه بما يناسب مصالح العدو عبر التطبيع العاطفي! أي أنّ أنسنة مشروعه أصبحت أمراً واقعاً ومحسوساً لدرجة أن تكون عناصر فيلم ” أميرة” عربية ويتمّ ترشيحه بإسم الأردن “الشقيق”.

لن نكتفي بإدانة المشروع ومقاطعته، بل علينا البحث عن جهات داعمة للقضية تنقل الواقع كما هو، فليس المطلوب تجميله بإستدرار الدموع أو العزف على وتر الإنسانية بل العمل على صياغة محتوى ثقافي مُقاوم ينسجم مع تاريخ الصراع ويليق بحجم المعاناة.

*كاتب فلسطيني


وسوم :
, , , , , , , , , , , ,