عن الجوهر الأبعد للتحرير.. اللّهم إنّي أشهد!

التصنيفات : |
مايو 25, 2022 8:34 ص

*فاطمة شاهين

لو أنّ أحدهم أتى يوماً ما، وأخبرنا نحن الجنوبيون، نحن أهل البقاع الغربي، عن سيناريو التحرير كما حدث في العام 2000، لما كنا لنصدّق حدوثه على هذا القدر العالي من الدهشة والإعجاز. ولكن الله أخبرنا قبل أيّ أحد، أنّ الإعجاز يصنعه البشر بأيديهم، بخيوط سحرٍ أمدّها لهم، وقال تصرّفوا، ثِقوا وستنالون!

ونحن وثِقنا، وثِقنا وتصرّفنا. كان الخيط الأول معقوداً بالصمت.

هم تدرّبوا عليه رويداً رويدا. لن يصفّق لكم أحد، قالوا لهم، لن يعرف باسمكم أحد إلا حين تموتون، لن يُقدّر اليوم تعبكم وعطشكم وجوعكم وعذاباتكم وسهركم أحد. سيرجمونكم في كل ميادين الإعلام والجلسات الوطنية والعائلية واجتماعاتهم السرية والعلنية، سيقولون لكم أنتم السبب! لماذا أزعجتم الدبابير في جحرها؟ سيعرّفون عنكم بهؤلاء المجانين! سيختزلون عظمة عطائكم بالعين الغبية التي تدّعي مقاومة المخرز!  

وهم كانوا يستمعون، ويبتسمون. هزّوا برؤوسهم جميعاً موافقين، وعزموا احتراف الصمت، حتى مع أهلهم، مع إخوتهم وحبيباتهم. صادقوا الليل، لا ليختبئوا في عتمته، بل ليزرعوا عبوةً هنا، وذخيرة هناك. أكل الحنين قلوبهم، ولما كان لديهم ما لدينا اليوم ليتّصلوا ساعة يشتاقون! سامروا الليل طويلاً كي يمتدّ بسلام حتى طلوع الفجر، فيستلم رهبان النهار من رهبان الليل المهمة، والعدة السرية.

كانوا نهارا، إذا ما مرّوا في ساحة القرية، لا يعرفهم أحد، وإذا شكّ أحد أنّهم من المقاومين، أَسكَتَ نفسه، وخبّأ الخبر في أعمق نقطة من قلبه، وإذا ما أحبّ أن يعبّر عنهم أحد قال “الشباب”، من هم الشباب؟ لا أحد يعرف. كيف هو شكلهم، وصوتهم ولباسهم؟ أين ينام الشباب؟ أين يصلّون ويأكلون؟ أين يسهرون ويراقبون؟ لا أحد يعرف.

كانوا نهارا، إذا ما مرّوا في ساحة القرية، لا يعرفهم أحد، وإذا شكّ أحد أنّهم من المقاومين، أَسكَتَ نفسه، وخبّأ الخبر في أعمق نقطة من قلبه

كان هناك سيدة جليلة، حلمت يوماً برؤية ظلّهم. كانت تتحمّل قذارة العملاء، وسوْقها كل يومين إلى التحقيق، كانت تتحمّل غصّة العبور نحو أرضها بتصريح من العدو، فقط كي تصلَ إليهم، وهمّها الوحيد أن تطعمهم. كانت تسلق البيض، تنتظر أولادها ليناموا، ثم تأتي بكرتونة بيض كبيرة تسلق كل ما فيها، تضع البيض في كيس وتعلّقه بغصن الزيتونة المقابلة لشباك مطبخها. وتجلس هي في الداخل بجانب الشباك تنتظر رؤيتهم حتى تغفو، فيطلع الصباح، تحزن لأنّها لم تلمح لهم ظل، وتفرح لأنّهم أخذوا البيض كلّه. كانت تفعل ذلك أيضاً مع “المجدرة”، تضعها لهم في علب، والعلب في كيس معلّق على نفس غصن الزيتونة، وفي الكيس رسالة: “تنسوش ترجعولي العلب ها! عم بمزح، تصدقوش، طب خلّوني شوف بس واحد منكن، الله يعمي قلوب العدا عنكن”. وفي الصباح، تجد كيس العلب الفارغة معلّقا، شامخا، تغبطه على رؤيتهم، وتدعو ربّها أن لا يحرمها نعمة الخدمة. وهذا كان الخيط الثاني، كان معقوداً بالعطاء.

عرفت الأمهات أنّ البِرّ هو بِرّ الأرض، والعقوق هجرها وتسليمها، فكانت على وجعها، تسلّم الوالدة، وبقلوب موجوعةٍ راضية ترفع الأكفّ “اللهم تقبّل منّا هذا القربان”.

لا توجد أمٌّ في العالم تحب فراق أبنائها، كان يغصّ قلب الأمهات، كان يحترق على أبنائهن، كانت الدموع رسولا، يحمّلنه الأدعية، والتوصيات. كنّ غالباً لا يعرفن، ولكن يشعرن. لكنّهنّ فهمن تماماً إلى أين تحمل الطريق فلذات الأكباد، حتى لو لم يروا الطريق بعد.

عرفت الأمهات أنّ البِرّ هو بِرّ الأرض، والعقوق هجرها وتسليمها، فكانت على وجعها، تسلّم الوالدة، وبقلوب موجوعةٍ راضية ترفع الأكفّ “اللهم تقبّل منّا هذا القربان”. ولم يكن كل الآباء يوافقون على التحاق أبنائهم بقافلة “الشباب”، فقلب الأب رقيق أيضاً عكس ملامح كفّيه التي زرعت الأرض ورفعت عواميد البيت. ولكن، من أحنّ على الأرض من أصحابها؟ ومن أفهم بكرامة الأرض والعرض أكثر من أهلها؟ لذا، كانوا مع كل شهيد يغرسون في الأرض زرعاً كثير، ثم مع كل قصف، مع كل صاروخ يدمّر الشرفات، مع كل مجزرة، كانوا يحنّون الأيادي، ويزرعون الحبق!.

والخيط الثالث، كان معقوداً بالوجع

كيف لعاقلٍ أن يتصوّر وهو على عامود التعذيب، أنّه سيفتح باب الزنزانة بيديه ويخرج. كيف لقهر السجان، للتنكيل والتهديد أن يُبقيَ القلب صامدا، كيف للصعق بالكهرباء والقاذورات وعلب الحديد الضيقة التي لا تتّسع لجسد الأسير إلا بالقرفصاء أياماً وليال، كيف لكلّ هذا الظلم أن يقنع عاقلاً بأنّ الصبح قريب؟

وعادة، يُهدَّد الرجال بنسائهم، فكيف إذا كانت النساء هنّ الأسيرات، هنّ المعذّبات المهدّدات؟ أي قلوب حملن، وما الذي كان يعينهنّ على كل هذا القهر؟ لا ندري حقّا. ربما كنّ يستحضرن رجالاً في الخارج تقاتل، وعوائلَ تصبر، وزوجاتٍ مسلّمات بالقضاء، ونساءً تصبّ الزيت المغلي فوق رؤوس العدو كـ”الزقّوم”(1)، وأطفال تعلّموا كيف يُجيبون بـ”ما بعرف” على أسئلة العملاء الخبيثة، و”بـدّيش” على عروض الحلوى والعصير.  

حضن لبنان جنوبه وبقاعه، حضن اللبنانيون كلّ اللبنانيين، حضنوا العرب والعالم الحر، وكل أولئك الذين لم يقربهم الاحتلال يوماً

ثم بتلك الخيوط الثلاث، اكتمل ثوب التحرير!

كانت الخيوط تنسج شمساً صيّرت كل السنابل شقراء، “والله يضاعف لمن يشاء”وركض أهل الجنوب والبقاع، وركض أهل الجنوب والبقاع، ركضوا “حرفيّا” بما عليهم من ثياب، تركوا كل ما يفعلون وركبوا السيارات المسرعة بدورها نحو الجنوب والبقاع. وهناك عند أول نقطة، نزلوا، يتسابقون نحو قراهم، لا على الإسفلت والأرصفة، بل في الحقول والسهول وعلى جوانب الطريق، حيث زرع العدو حقده عبوّاتٍ وقنابل. كانوا يدوسون بأقدام ثبّتها الفرح في الأرض، ورفعتها العزّة نحو السماء، فتحوا بأياديهم بوابات القرى، بوابات الزنازين، وجدوا طعام العدو الهارب لا زال ساخناً في المواقع والدِّشم، حضنوا وبكوا وصرخوا وهتفوا وسجدوا وقبّلوا الأرض قبل الوجنات. حضن لبنان جنوبه وبقاعه، حضن اللبنانيون كلّ اللبنانيين، حضنوا العرب والعالم الحر، وكل أولئك الذين لم يقربهم الاحتلال يوما، انتصاراً ما كان ليقربَ مخيلتهم، رقصوا فرحاً وكأنّ النصر تكلّل بسواعدهم جميعا.  

أمّا قبل!

كل هؤلاء الذين كانوا وكنّ، لا يزالون اليوم ينسجون ثوباً جديداً من العزّة، عن كيف تكون حربٌ من ثلاث وثلاثين يوما، قرّروا هم خواتيمها. عن كيف “يعدّون ما استطاعوا من القوة”، ورباط قلوبهم رباطُ المسجد الأقصى. البوصلة باتجاه واحد، يقولون كل يوم لأهل فلسطين، وفي كل عام، أنّ تاريخاً مثل 25 أيار/مايو 2000 لا بدّ أن يعيدَ نفسه في فلسطين، فرجالها ونساؤها وعوائلها وجرحاها وأسراها، وحرقة قلبها اليومية، كل ذلك ينسج ثوباً لا بخيوطٍ ثلاثة فحسب، بل بلون ثوب الجدّات، وعبق الحنة في أيديهن، وبركات دعائهن، فهل خاتمة ذلك سوى عرس النصر؟

بات الجنوب يهتف لعزيزته فلسطين، التحرير يقين، لقد عشناه هنا، لقد عبر بنا نحوك، فافتحي يديك النازفتين، وتحضّري لعناق أبدي!

أمّا بعد!

كل هذا الصمت والعطاء والوجع، أنبت في لبنان نصراً وتحريرا. كان الجنوب يوماً حجّة على كل العالم، واليوم بات النموذج والدليل، بات يهتف لعزيزته فلسطين، التحرير يقين، لقد عشناه هنا، لقد عبر بنا نحوك، فافتحي يديك النازفتين، وتحضّري لعناق أبدي!

*كاتبة لبنانية

(1) وردت في القرآن الكريم على أنّها الشجرة التي تنمو في جهنم ولا تأكلها النار، وهي عقاب الكافرين.


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , ,