وثائقي “تلّ الزعتر” مشهدية المجزرة والحرب الأهلية، ثنائية الأمس واليوم.

التصنيفات : |
أكتوبر 19, 2021 12:00 م

*بسّام جميل

ما يحدث الآن، رغماً عنّا، يكون دافعاً لاستحضار ما حصل قبل ذلك، والأحداث التي يمكن من خلالها فهم أو محاولة استعادة فهم متردد لتبيان صحته والبناء عليه، يدفع أية قضية للاشتباك والإشتباه، فنصبح نحن الباحثون عن الحقيقة، مناصرين للحظة الوعي المفقودة، أي أنّنا خارج اللحظة تماما، بمفهوم الباحث والموثِّق، لكنّنا وإن كنّا ضحايا الآن، فنحن، بالضرورة، ضحايا تلك اللحظات التي رسمت هذا المصير قبل 4 عقود من الآن.

نستعيد ذاكرتنا الجمعية، لنحاول بناء معرفة وخلاصات، يبدو أنّ الكراهية كانت جزءًا كبيرا من مولِّد أحداثها.

هل انتهت الحرب الأهلية في لبنان؟!

يبدو سؤالاً ساذجاً لدرجة أن تكون كوميديا سوداء، لا نعي مفردات الضحك فيها دون أن يكون دافعها البكاء. في غمرة الإنشغال في الأحداث القريبة، وما أظهرته من نوايا صِدامية في البيئة اللبنانية “حادثة الطيونة/عين الرمانة” ولأنّ بعض رموز الحرب الأهلية، لا يزالون حاضرين وبقوة في المشهد الدّامي، فإنّ استعادة أحداث، أو ربما يحق لنا أن نُسميها “جلجلة المصير”، كالمجازر التي نالت من مخيماتنا وجعلتنا أبناء وأحفاد الضحايا، نستعيذ من كل هذا العبث ونترقب دوامة العنف القادمة، فإنّ الرهان على الوعي، رغم ضعفه، لا يبدو أنّه المنقذ، لكننا مجبرون على هذه الاستعادات، واستحضار هذا الألم المَهول، لننذر، ونحرص، ونستعد، لما هو آتٍ لا محالة.

قبل أربعة عقود، وفي زحام أحداث كثيرة نالت من المخيمات، تمّ تسجيل مئات الساعات المتلفزة والصوتية ونشر مئات أخرى من الشهادات المكتوبة في الصحف العالمية والمحلية، لتوثيق ما جرى بلسان حال الضحايا، ومنهم من كُتب له النجاة مبتور الهوية والوجد، فخسر من عائلته معظم أفرادها، وخسر من أطرافه أيضا.

دأب الصحفيون والمهتمون بالشأن الفلسطيني، على البحث عن المزيد من هذه الشهادات والوثائق، والتي فُقد معظمها خلال أيام الحرب، والفترة التي تلتها من اللاحرب واللا سلم، لأسباب مختلفة، ولربما أهمها، صعوبة الجمع والاحتفاظ بمواد عينية كالأفلام التسجيلية، وحرق بعضها إثر استهداف مقرات الصحافة، وصعوبة نقلها وتداولها في ذلك الحين.

على أنّ نجاة بعض الأفلام والتسجيلات الصوتية، يُعد ضربة موجعة للبعض ممن حاولوا الحصول عليها وإتلافها من الخصوم في مراحل سابقة، لأنّها تُعدّ قرائن ودلائل قانوينة، في حال توجّه بعض الضحايا وأبناؤهم إلى القضاء بعد انتهاء الحرب.

يستعرض فيلم “تلّ الزعتر” شهادات حية لمجموعة كبيرة من النساء والأطفال والرجال المدنيين، والطواقم الطبية العاملة والمدافعين عن مخيم تلّ الزعتر، فيوثّق يوميات الحصار، وما تلاه من أحداث، دون أن يَغفل عن ضرورة الإستماع مباشرة للضحايا، ومحاولة طرح فهم هؤلاء للمعركة وأسبابها ومراميها.

كأنّنا نشهد على هذا العصف الذي يُقدم لنا بالأبيض والأسود، الدماء طازجة والبكاء حارا، ثم نلتفّ حول أطفال لم يبلغوا السادسة عشرة، ونستمع لشهاداتهم عن المعارك التي خاضوها دفاعاً عن مخيمهم، وأزقته الضيقة.

هل يعنينا أن نستعيد ذاكرة أحزاب الحرب الدموية، انتهاكاتهم ضد المدنيين، نزعاتهم التكفيرية ضد الآخر من طائفة أخرى، أو بلاد أخرى؟! أم أنّ الإنقلاب الكبير الذي مارسه النظام السوري المؤيد للعمل الفدائي وتحوّله لعدو صريح ضد الفلسطيني وأنصاره اللبنانيين، يُعيد لأذهاننا ما شهدناه في بلاد عربية عديدة، ليُصبح أمراً عاديا، أن يتخاتل الحلفاء ثم ينقلب بعضهم بعداء شرس ضدنا؟!

تبدو دروساً قاسية دفعنا ثمنها باهظاً في ذلك العصر القريب، ولا يزال هذا الدرس مفتوحاً لنتعلّم منه المزيد، في حضرة الأحداث الآنية والتي تدفعنا للتساؤل عن مصير مُعتم، سيكون فيه دورنا أقرب للضحية منه لتبادل الاتهامات.

لماذا “تلّ الزعتر” الآن؟!

هل لأنّ الفيلم الوثائقي “تلّ الزعتر” يوثِّق شهادات طازجة عما حدث، من أبناء المخيم ومناصريه، أم لأن ما حدث ويحدث في لبنان، يُمهّد لإعادة هذا السيناريو مجدداً؟!

لم تنتهِ الحرب اللبنانية بعد، وما زال شبحها جاثماً على صدور من شهدوا عليها، واختاروا البقاء في هذا البلد المأزوم، ولا تزال المخيمات موجودة وتُعاني دون أن يضاعف معاناتها هذا الشبح الذي ينتظر فرصته ليُعيث الفساد مجددا، ولا يزال خصوم الأمس بقواهم العسكرية، حاضرين، يتحيّنون  فرصتهم التالية ليكملوا ما عجزوا عنه في ذلك الزمن بمقولتهم الشهيرة “لبنان مقبرة الفلسطينيين”، ويبدو أنّ للمجازر لغة فريدة من نوعها، فرغم كل السوداوية والفراغ الذي تقدّمه لنا، وربما تعزز الكراهية داخلنا، إلا أنّها تقدّم لنا معرفة خالصة، علينا أن نعي حضورها ونستبعد منها مفرادات العواطف، لا لأننا نستعلي على الجرح، ولا نريد استثمار هذه العواطف لتُحيلنا إلى ريح جاهزة تلفظها صدور جماهيرنا، لتحفّز إرادتنا، بل إنّنا وبكل بساطة، نحتاج هذا النضوج، لنمسك بيد الحقيقة كاملة، ونشدّ عزمنا دون خطب رنانة، بل بوعي مثابر، يرشدنا لنضع ثقل هذه المعرفة في كيفية صناعة المشهد، لا أن نتأثر به كضحايا مُجدداً.

لن أعيد ذكر مفردات الحرب، ولا استحضار تفاصيلها، فهذا العرف لا يليق بمن لم يكن شاهداً حيا، ولأننا شهداء الحاضر وما سيآتي في هذه البلاد، أدعوكم لحضور هذا الفيلم، فالحرب لا تفاجئ أحدا، ومسارها واضح الملامح، والقادم لن يكون الأجمل.

بطاقة تعريف

*وُجد وثائقي” تلّ الزعتر” (1976) في أرشيف الحزب الشيوعي الإيطالي عام 2011. الفيلم الذي أنجزه السينمائي اللبناني الراحل جان شمعون مع عرّاب السينما التوثيقية الفلسطيني مصطفى أبو علي والمخرج الإيطالي بينو أندريانو، يستعرض المآسي التي وقعت خلال حصار مخيم تلّ الزعتر ومن ثم سقوطه. صُوّر الشريط بعد المجزرة الإسرائيلية التي حدثت في مخيم “تلّ الزعتر” في 12 آب 1976 خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وفُقد أثناء الاحتلال الصهيوني لبيروت.

يروي “مصطفى أبو علي” تجربة الإنتاج، وذلك في “مجلة الصورة الفلسطينية” عام 1978: “نحن الآن في منتصف عام 1976، المطار مغلق، ولدينا 15,000 متراً من الأفلام.. بعض المواد مضى عليه ثلاثة أشهر ونصف، وهي مصورة وموضوعة في العلب، هذه المواد ستُتلف بالتأكيد إن لم تُحمَّض في أسرع وقت. أخيرا، اتصلنا بالحزب الشيوعي الإيطالي، “لا يوجد شيء لا يُحمَّض في إيطاليا”، هكذا كان الجواب. 150 كلم من الأفلام تنتقل في أحد الأيام من صيدا إلى قبرص.. نركب مركباً في عرض البحر بعد أن انتقلنا إليه بقوارب صغيرة. نحن الآن نتراقص في عمق البحر على متن مركب صغير، وعليه أيضاً جميع جهودنا. فجأة يصرخ صوت: “ادخلوا يا شباب، الإسرائيليّون جاءوا.. زورق عسكري، عليه مدافع ورشّاشات، وعليه أيضاً جنود مستعدّون لإطلاق النار. الأفكار تملأ رأسي، والخوف من فقدان الأفلام يسيطر عليّ، لكنّهم أخيراً ذهبوا من حيث أتوا، مخلّفين في نفسي إحساساً بالمذلّة والنقمة. خرج بعد جهد كبير فيلم “تلّ الزعتر”. لقد كان العمل على هذا الفيلم اختباراً عمليّاً لمعنى التضامن بين القوى التقدمية، بل ترجمة عملية وأستطيع، برضى، القول: “لقد نجحنا في الإختبار، رغم الصعوبات القائمة التي عانينا منها أثناء العمل”.

*كاتب فلسطيني


وسوم :
, , , , , , , ,