بصمة الأنفاق الجديدة: هل يمرّ “طريق القدس” عبرها؟

التصنيفات : |
أكتوبر 25, 2021 9:52 ص

*رامي سلوم

أعادت ملحمة “نفق الحرية” الأخيرة وفرار أسرى سجن جلبوع الستة، حرب الأنفاق، التي أبدع فيها الفلسطينيون إلى الواجهة، والتي شكّلت شرايين الحياة المعيشية، وإمدادات السلاح، ودرعاً للحماية من الإستهدافات المُتكررة للمقاومين من قبل العدو الإسرائيلي.

وبالتأكيد لم تكن عملية “نفق الحرية” وعملية الفرار التي أسماها أبطالها “الطريق إلى القدس” هي الصفعة الأولى للعدو، والتي تطاله عبر الأنفاق، بل مثّلت في محتواها معركة ضمن استراتيجية “حرب الأنفاق” إن صحّ التعبير، والتي دفعت العديد من المراقبين من الشارع العربي والفلسطيني إلى الإيمان مجدداً بجدوى الكفاءة البشرية والإجتهاد، بل بات الإعتقاد الراسخ لديهم أنّ طريق القدس يمرّ عبر أنفاق المقاومة الاستراتيجية.

تُؤرق الأنفاق العدو الإسرائيلي منذ عقود، خصوصا أنّها اتّخذت جزءًا من الشرعية الدولية بعد أن أقرّت لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة أنّ الأنفاق تُستخدم لتأمين المؤن والدواء، وأنّها تُستخدم لشنّ هجمات ضد مواقع جيش “الحرب الإسرائيلي”، وهي أهداف مشروعة، من دون أن تُستخدم في إيذاء ما أسمته وقتها بـ”المدنيين الإسرائيليين”.

ورغم محاولات العدو المتكررة للخلاص من مأزق الأنفاق، فإنّ تصريح قادة المقاومة أنّ “المجاهدين الآن يتبخترون في الأنفاق، نعم مجاهدونا اليوم يسرحون ويمرحون في أنفاق العزة والكرامة”، يؤكد فشلهم، بل أصبح تدمير قوات الاحتلال لأيّ نفق يُوضع على رأس نشرات الأخبار عن البطولات المفترضة للجيش المذعور، وهو ما يُبرز حجم الإهتمام بالأنفاق من قبل العدو الإسرائيلي.

مترو حماس

ويواجه كيان الاحتلال ما يزيد على 500 كلم من الأنفاق في غزة وحدها، أو ما يُسمى بـ”مترو حماس” وذلك وفقاً لتوقعات العام 2006، الأمر الذي يترك المجال مفتوحاً اليوم لتخيّل مدينة كاملة للمقاومة تحت الأرض، وعلى أعماق تزيد على 30 مترا.

كما كشفت التصريحات المصرية عام 2014 بعد تدمير3 آلاف نفق، حجم ورطة الاحتلال، الذي تبدو أمامه الأبواب مسدودة نحو عملية شاملة قد تكبّده خسائر لا يحتملها ميدانياً واقتصاديا، والتي تُمثل الحلّ الوحيد، وليس الأكيد، لحرب الأنفاق في حال أراد تدميرها من خلال عمليات تمشيط واسعة.

فنون البقاء

وفرضت الظروف الميدانية والمعيشية والعسكرية على الفلسطينيين، ابتكار أساليب خاصّة في صراعهم المصيري وغير المتوازن مع العدو الإسرائيلي، وآلة بطشه العسكرية، والصمت الدولي على ممارساته البربرية، وقلّة حيلة العرب أو تآمرهم، ما جعلهم يبتدعون فنون البقاء والمواجهة في ملحمة طويلة لم يشهد التاريخ مثيلاً لها في الظروف وسنوات الصمود، فمن ينسى الإنتفاضة الأولى وأطفال الحجارة، وغيرها الكثير من شجون المعارك الكبرى التي يخوضها شعب يتوق لحريته، والتي تُعتبر حرب الأنفاق اليوم واحدة منها.

وشكّلت الأنفاق سلاحاً استراتيجياً للفلسطينيين في وجه آلة البطش الإسرائيلية، وهاجساً للكيان المُحتل، حيث فرضت معطيات الأرض المنبسطة لقطاع غزة بداية، وبالتالي سهولة اقتحامها من قبل العدو الإسرائيلي بفعل تفوّق آلته العسكرية، إيجاد حلول تُعين المقاومين على الصمود، فانطلقت الأنفاق الاستراتيجية واللوجستية في القطاع، وتحديداً بعد انتفاضة الأقصى عام 2000، بهدف كسر تفوّق العدو، والتحايل على طبيعة الأرض المنبسطة، وعدم وجود تضاريس تُمكِّن المقاومة من المناورة، ومحاولة التغلّب على التفوّق الجوي للكيان، والإستهدافات المتكررة للقيادات والمقاومين الذين كانوا مكشوفين تماماً أمام آلة العدو الحربية.

أنواعها واستخداماتها

وتطوّرت الأنفاق في القطاع وقتها إلى أنفاق إستراتيجية؛ ومن أنواعها: القتالية الهجومية والدفاعية، وأنفاق المدفعية والصواريخ إضافة إلى أنفاق الإمداد والإتصالات، والأنفاق الخاصة بقيادة المعركة والضبط والسيطرة.

كما أسس الفلسطينيون نوعاً آخر من الأنفاق، وهي أنفاق الوصلات الداخلية، والتي تكون قصیرة المسافة، وتُستخدم في الخطوط الخلفیة للمقاومة؛ للربط بین مناطق قریبة، بعیداً عن أعین الرصد والطرق والشوارع، وهدفها إسناد وتعزیز قوات المقاومة في الإنتقال والتمركز والمتابعة وقت الحرب.

ونشطت عمليات الحفر و”التدشيم” لتتمكّن من صنع شبكة أنفاق تحت الأرض، أسماها العدو نفسه بـ”مترو حماس”، غير أنّ الأمر ربما لا يكون محصوراً بحماس وبقطاع غزة، بل يمتد إلى بقية الأراضي الفلسطينية، ما يُشكل أرقاً حقيقياً للعدو، والتي وصفها الرئيس السابق لقسم التاريخ في جيش الاحتلال الإسرائيلي، شاؤول شاي، بـ”مُعضلة الأنفاق”، التي ستتحول -وفق رأيه- إلى المشكلة المركزية التي يواجهها الاحتلال الإسرائيلي في أي حرب مع المقاومة في غزة.

أنفاق الحياة

ومع تطور أدوات البطش الإسرائيلية، طوّر الفلسطينيون قدراتهم لمواجهتها، وكانت الأنفاق الاستراتيجية إحدى أهم تلك الأدوات لتعزيز الصمود بمختلف جوانبه، خصوصاً مع توجّه الاحتلال بكامل أدواته الهمجية لخنق الفلسطينيين وتجويعهم.

وشكّلت الأنفاق شرايين الحياة لقطاع غزة، خصوصاً بعد الحصار الهمجي الذي فرضته قوات الاحتلال عليها، ما جعلها طريقاً حقيقياً لنقل المؤن والأدوية وغيرها، الأمر الذي استمر حتى نهاية عام 2014 حيث بدأت مصر في تدمير أنفاق حماس وفقا لتسميتهم، ويكفي التصريح بتدمير ما يزيد على 3 آلاف نفق للحصول على صورة مُصغّرة لواقع الأنفاق هناك.

أمّنت الأنفاق كل شيء للفلسطينيين لخبرتهم الواسعة فيها، وعددها الكبير والنشاط الواسع للتجارة تحت-الأرضية، وبقي قطاع غزة صامداً بفضل تلك الأنفاق أو الشرايين الحياتية، ولا يزال.

فبمعزل عن التصريحات المصرية حول استخدام الأنفاق من قبل “عناصر منفلتة” أو لغايات تُخالف دورها الأساس في المرحلة الأخيرة، غير أنّه بالتأكيد لا يزال العمل مستمراً بصورة أكثر سرية، أو بإتفاق مخابراتي بين الجهة المصرية والمقاومة، بحيث تبقى الأنفاق سلاحاً استراتيجياً غير أنّها بأيدٍ أمينة، وفقا لمحللين، الذين اعتبروا أنّه من غير الممكن إيقاف تلك الأنفاق جميعها، خصوصاً أنّها وسيلة للتهريب، وليست طرقاً مفتوحة، بمعنى أنًه لا يتمّ استخدامها بإذن، فضلاً عن السياسات القائمة والتي لا تُرجّح العمل على خنق القطاع، بل تأطير العمل في الأنفاق بما يخدم الفصائل وغاياتها المعروفة، ولا تكون وسيلة للمهربين.

مدينة تحت غزّة

استفاد الفلسطينيون من التجربة الفيتنامية في حربهم الطويلة، غير أنّهم طوروها بشكل واسع من خلال خبرتهم في حفر الأنفاق على انخفاض كبير يزيد على 30 متراً وبأطوال كبيرة، ما يُجنّبها أنواع الأسلحة التدميرية الخاصة بتدمير الدِّشَم تحت الأرض.

وصرّحت قيادات المقاومة في وقت سابق أنّه لديهم ما يزيد على ضعف مساحة الأنفاق التي تمّ اكتشافها في فيتنام، ما يعني أنّ أنفاق المقاومة تصل إلى 500 كلم تحت الأرض، بينما كانت شبكة الأنفاق في فيتنام نحو 270 كلم، ومن الممكن تخيّل أبعاد كبيرة لهذه الأنفاق، خصوصا أنّ التصريحات العسكرية غالباً لا تكشف عن القدرات الحقيقية، غير أنّ الأمر المؤكد هو وجود شبكة أنفاق متكاملة تُشكّل مدينة تحت قطاع غزة، ولا يمكننا تخيّل ما قد تكون صنعته أيادي المقاومين خلال السنوات الماضية، خصوصاً أنّ المعلومات عن أنفاق بطول 500 كلم ترجع إلى العام 2006 تقريبا.

وكشفت معركة “سيف القدس” الأخيرة، عن فشل إسرائيلي في حلّ مشكلة الأنفاق، حيث تمكّن المقاومين من إطلاق رشقات الصورايخ من مناطق مختلفة، واستمرار تلك العمليات على مدار أيام المعركة، ومكّنت الأنفاق المقاومين من الإختباء من هجمات الطيران الإسرائيلي، وتنفيذ عمليات نوعية كبيرة من خلال سهولة التنقل وسرّيته، وإخفاء السلاح والصواريخ، والتي تمّ تهريبها وتصنيعها باستخدام الأنفاق نفسها.

عمليات نوعية

كانت الأنفاق الوسيلة الأساس للمقاومة التي مكّنتها من تنفيذ عمليات نوعية في قلب الكيان العسكري الإسرائيلي، وتعزيز القدرة على الإشتباك وتنفيذ العمليات ضمن المناطق العسكرية، أو ما يُسمّى مجازاً الداخل “الإسرائيلي”.

حيث نجحت المقاومة خلال عملية “الوهم المتبدِّد” عام 2006 من أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط خلال الحرب الإسرائيلية على القطاع، وخرج المقاومون من نفق ضمن منطقة عسكرية إسرائيلية، واشتبكوا مع قوات العدو، وأسروا الجندي الإسرائيلي، ونقلوه إلى مكان ما في القطاع، والذي تمت مبادلته مع مئات الأسرى الفلسطينيين وقتها.

الفرار عبر الأنفاق

لم تكن عملية “نفق الحرية” وفرار الأسرى الفلسطينيين من سجن جلبوع هي الأولى من نوعها، غير أنّ ما يُميزها هو نجاحها في ظلّ التطورات التقنية الحديثة، وتطور أجهزة المراقبة وغيرها، والتي وسّعت الفجوة بين القدرات الفردية والقدرات التكنولوجية، حيث أصبح للصراع بعداً آخر.

وعلى الرغم من كل ذلك، أثبتت العملية أنّ سلاح الأنفاق لا يزال فاعلاً في المواجهة، ولا يزال سلاحاً استراتيجياً حقيقياً لمواجهة التقدم التقني للأجهزة والمعدات العسكرية والأمنية.

وتكررت عمليات استخدام الأنفاق في عمليات هروب الأسرى منذ آب عام 1996، حين نجح غسان المهداوي وتوفيق الزين في الهرب من سجن كفاريونا، من خلال نفق بطول 11 متراً وقتها، وفي عام 1998 حاول أسرى سجن شطة الهروب عبر نفق أرضي، يحفرونه من داخل الزنزانة إلى خارج السجن. ونجحوا في الحفر لكن بعد أن خرجوا من الفتحة الخارجية فوجئوا بالكلاب البوليسية تُحيط بهم، بعد أن تمّ رصد العملية وتجهيز كمين لهم من قبل قوات السجن.

محاولة الهرب عبر الأنفاق تكررت أيضاً عام 2004 في سجن جلبوع نفسه، والتي تمكّنت قوات العدو من إحباطها، كما تمكّنت قوات العدو عام 2016 من إحباط عملية هروب لأسير عبر فتحات التهوئة في سجن إيشل في بئر السبع.

ودرج استخدام شبكات الأنفاق في الحروب؛ سواء أكانت حرب جيوش نظامية أو غيرها، وتطورت الأنفاق مع تطور القدرات العلمية، وباتت تُشكّل مدناً تحت الأرض وتتسع لآليات وعربات، كما تحظى بنظام تهوئة وإنارة، وغيرها.

لم يَعدم الفلسطينيون وسيلة للدفاع عن حقوقهم ومواجهة عدوهم المبتور عن الإنسانية، وكما في سجن جلبوع تمكّنت أدوات بسيطة، بإرادة وعقل يأبى الخنوع، وبقلب أشبه بقلب أسد في الدفاع عن حريته وكرامته، من حفر نفق للحياة في قلب الدِّشَم والخرسانة، والتفوق على كامل المقدرات الأمنية، كذلك ستحفر بقية السواعد خارج جلبوع طريقها إلى الحرية.

وليس غريباً إذا توقعنا ابتكاراً جديداً للحرية يُفاجئ العالم الصامت، والمُغيَّب، وربما يُعيد شرارة الحياة للإنسانية من جديد للنظر في مأساة باتت وحيدة على وجه الكرة الأرضية، بعد انقراض هذا النوع من الاحتلال، ليبقى الشعب الفلسطيني وحده تحت سلطة محتلٍّ عنصريٍّ قمعيٍّ مجرم.

*كاتب سوري


وسوم :
, , , , , , , ,