أعيدوني إلى مُخيّم اليرموك

التصنيفات : |
أكتوبر 28, 2021 10:02 ص

*وفيق هوّاري

بعد صدور القرار الأممي 181 القاضي بتقسيم فلسطين وإعطاء العصابات الصهيونية الحقّ بإقامة دولة على الأراضي الفلسطينية _وهي العصابات نفسها التي هجّرت نحو 750 ألف فلسطيني من أراضيهم وممتلكاتهم_ صدر قرار أممي آخر حمل الرقم 194 والقاضي بحقّ الفلسطيني بالعودة إلى أرضه وممتلكاته، وهو حقّ شخصي لا يمكن لآخر التنازل عنه مهما كانت صفته أو موقعه.

مؤخراً، شهدت الأراضي الفلسطينية المُحتلة نزاعاً شديداً بين أصحاب الأرض المُدافعين عن حقّهم في الحياة والوجود، وبين السلطات الإسرائيلية المُحتلة الساعية إلى دولة ذات صفاء ديني، وهذا يعني ترحيل من بقي من عرب في أراضيهم، وشطب حقّ العودة واقعيا، وبحسب المفهوم العنصري للمحتلين.

من جهة أخرى، تُقلّص وكالة “الأونروا” من خدماتها تحت حجة غياب التمويل، لكنّها عملياً تتخلى عن المهام التي أُنشئت من أجلها.

حقّ العودة إلى اليرموك

قالت لي سميرة (إسم مستعار) في اتصال هاتفي من إحدى الدول الأوروبية: “حقّ العودة تحوّل إلى شعار عام ولا أحد يملك الأجوبة على سؤال: كيف نعود؟”.

وللعلم، سميرة صبيّة فلسطينية من إحدى قرى الجليل، لجأ أهلها عام 1948 إلى سوريا، وسكنت في مُخيم اليرموك، لم تعِش سميرة النكبة، ولم تذُقْ مرارة اللجوء، لكنّها ذاقت تلك المرارة يوم هربت في 16 كانون الأول/ديسمبر 2012 من المُخيم إلى لبنان، بعد أن عاشت حادثة “الميغ”(1).

في لبنان، حاولت سميرة العثور على عمل يؤمّن لها حياة كريمة، لكنّ فرص العمل اشترطت عليها التنازل عن كرامتها، ومساعدات “الأونروا” كانت صعبة، والإقامات القانونية خاضعة لمزاجيّة السلطات المعنية، اعتُقلت لعدم تجديد إقامتها، وفُصلت من عملها أكثر من مرة، أصبح حلمها بالعودة.. ليس إلى فلسطين، بل إلى مُخيم اليرموك الحاضر دائماً في ذاكرتها.

“هناك في مدارس اليرموك، كنّا ننادي بالعودة إلى فلسطين، أرضنا وأرض الأجداد، وهنا صار الحلم، العودة إلى اليرموك ليس أكثر”.

وبعد 34 يوماً من مسالك الهجرة غير القانونية وصلت سميرة إلى إحدى الدول الأوروبية.

قلت لها: “لا تنسي يوماً أنّك فلسطينية”.

أجابت بسرعة: “لن أنسى ذلك أبدا، لن أنكر هويتي الفلسطينية، وانتمائي إلى وطني الوحيد فلسطين، لكنّهم دفعونا إلى موقع، لم نعد نفكر سوى بحقّنا في الحياة”.

بلاد القهر ليست أوطاني

في العام 2000 زار المنطقة العربية وفدٌ من لجنة العلاقات الخارجية في مجلس العموم البريطاني، ضمّ أعضاءًا من الأحزاب السياسية الأساسية.

التقى الوفد فلسطينيّين مُقيمين في أرض الشتات، وقد لمس الوفد أنّ المطلب الأساس للفلسطينيين هو حقّ العودة، وقد أصدر الوفد بعد عودته إلى بريطانيا كُتيّباً حمل عنوان “حقّ العودة”.

يومها، اجتمعتُ إلى الوفد في مدينة صيدا، حيث نظرت إلى زيارتهم من موقع إيجابي، وكأنّها محاولة لتصحيح الخطأ التاريخي الذي ارتكبته بريطانيا بمنح العصابات الصهيونية “وعد بلفور”. لكنّ بريطانيا نفسها احتفلت بعد ذلك بالذكرى المئوية للوعد المشؤوم.

وفي العراق، احتلّ التحالف الغربي البلد، وعاد العراقيون إلى مكوّناتهم الأساسية _عادوا سُنّة وشيعة وأكراد_ وكلّهم رفضوا الفلسطينيين كلاجئين، لهم خطابهم الوطني وأهدافهم في العودة وبناء دولة مستقلة. أُبعد الآلاف منهم إلى الحدود مع سوريا، حيث بقوا هناك إلى أنْ نقلتهم الأمم المتحدة إلى بلدان في أميركا اللاتينية، ومن ثمّ تمّ تفكيك مجموعة بشرية كانت لا ترى إلا حقّ العودة طريقاً لاستعادة الوطن.

وفي سوريا، حاول الفلسطينيون أن يبقوا خارج الصراع السوري- السوري الذي اندلع عام 2011، لكن تطوّر الأحداث منعهم من ذلك، فـ80% منهم اضطُّر للنزوح من أماكن سكنه في مناطق مختلفة من سوريا، ونحو 80 ألف فلسطيني لجأ إلى لبنان بعد عام 2012، وبقي منهم حالياً نحو 25 ألف فلسطيني، بعضهم عاد إلى سوريا على الرغم من صعوبة الحياة، لكنّها كانت أفضل من العيش في هذا السجن الكبير المُسمّى لبنان، والبعض الآخر هاجر إلى أوروبا ودفع الثمن غاليا، منهم من قضى بحراً أو برا، ومنهم من وصل ليعيش في فردوس مَوهُوم.

وفي لبنان، عانى الفلسطيني الأمرّين منذ اللجوء عام 1948، لا حقوق إنسانيّة ولا حقوق مدنيّة، مع شروط عمل مُجحِفة، وحروب أهلية متواصلة. كلّ هذه الظروف دفعت بالفلسطيني للتشبّث أكثر بحقّ العودة إلى الوطن، البعض كان يقول: “أفضّل أنْ أعيش في العراء في قريتي، على أن أعيش في قصر هنا دون كرامة”.

استهدفت الحروب الأهلية اللبنانية اللاجئين الفلسطينيين، وكانت الحجج أنّهم يريدون التوطين في لبنان، لكن مُجريات الحروب كانت تُؤشر إلى أن الفلسطيني يُريد العودة إلى وطنه فحسب.

أقل من وطن وأكثر من كرامة..

عام 2003، جاء طالب فرنسي لإعداد رسالته الجامعية حول اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وقبل سفره بيوم واحد، قال لي: “غريب أمر الفلسطينيين، على الرغم من ظروف حياتهم الصعبة، لا مطلب لديهم سوى العودة إلى فلسطين”.

بعد عدة سنوات عاد إلى لبنان، والتقى بعض من اجتمع بهم سابقا، فلاحظ تغيّراً في خطابهم: “نريد العيش بكرامة، في مكان نشعر فيه أنّنا بشر، ولنا حقوق”.

هي أزمة النخبة الفلسطينية، كيف تُعيد صوغ الشروط اللازمة لتسليط الضوء على مطلب حقّ العودة، وخصوصاً بعد دخول الكيان الإسرائيلي بأزمة كيانية عميقة، والسؤال: أليسَ الحصول على الحقوق الإنسانية هو المدخل لرفع مطلب الحقّ في الرجوع إلى الوطن؟

*كاتب لبناني

(1) هي الغارات التي شنتها الطائرات الحربية السورية على مسجد عبد القادر الحسيني في مخيم اليرموك بدمشق، والذي كان وقتها ملجأً لمئات العوائل التي نزحت إلى المخيم هرباً من القصف الذي استهدف الأحياء المجاورة لليرموك، أسفرت الغارات عن عشرات الضحايا والجرحى جلّهم من الأطفال والنساء.



وسوم :
, , , , , , , , , , , ,