التراث الفلسطيني: خبز وملح.. بين اللاجئ والمجتمعات

التصنيفات : |
أكتوبر 29, 2021 12:19 م

*وسام عبد الله

“الكبار يموتون والصغار ينسون” كلمة قالها أول رئيس حكومة للإحتلال ديفيد بن غوريون، في توصيف الهدف البعيد لإسرائيل بإزالة فلسطين من ذاكرة الأجيال المُتعاقبة، والخطوة الأهم لتأمين هذا النسيان هو تجريدهم من معالم هويتهم، كالتقاليد واللباس والموسيقى والمأكولات التراثيّة وغيرها، فكان صون التراث الفلسطيني جزءًا من صراع  الوعي مع العدو.

التراث والهوية

حدّدت منظمة “اليونيسكو” عناصر التراث اللّامادي، في إتفاقية عام 2003، بأنّها تشمل: التقاليد وأشكال التعبير الشفهي، وفنون أداء العروض والمُمارسات الإجتماعية والطقوس والإحتفالات والمعارف والمُمارسات المتعلقة بالطبيعة والكون والمهارات المرتبطة بالفنون الحرفية التقليدية، وهي المعارف التي تنتقل من جيل إلى آخر وتساهم في تعزيز القيم الإجتماعية وتحوي بُعداً إقتصادياً مما يُساعدها لتكون جزءًا من دورة حياة الأفراد في المجتمع، وليست فقط مجرد عاداتٍ مُغلقة ضمن نطاقٍ مُعيّن، تختفي مع مرور الزمن. كما تشير المنظمة إلى أنّ التراث تمارسهُ الجماعة في نطاقِ عيشها في قريتها أو مدينتها، أو أنّها هاجرت واستقرت في مناطقَ جديدة وبقيت محافظة على ممارستها ومعارفها الثقافية.

مع تهجير الفلسطينيين من بيوتهم، حملوا معهم تقاليدهم من خلال وسائل مختلفة، مثل الموسيقى والأغاني واللباس الشعبي، ليُشكّلوا نموذجاً من صون التراث المسلوب عيشه في أراضيهم.

تُحدّد منظمة “اليونيسكو” المقصد من تعبير (صون التراث غير الماديّ) بأنّه “التدابير الرامية إلى ضمان استدامة التراث الثقافي غير المادي، بما في ذلك تحديد مختلف جوانب هذا التراث وتوثيقها والبحث فيها وحفظها وحمايتها والترويج لها وتعزيزها ونقلها، ولا سيّما من خلال أشكال التعليم النظامي وغير النظامي، وإحياء مختلف جوانب هذا التراث”.

إستناداً إلى هذا التوضيح يمكن البناء على واقع اللاجئ الفلسطيني، كونه معنيّاً بصون التراث بما يتناسب مع ظروف حياته في المُخيمات وخارجها. فلا ينفصل البُعد الإقتصادي عن التراث، فإن أخذنا الثوب الفلسطيني وحياكته، فإنّ عملية تطوير هذه الحرفة بما يتناسب مع متطلبات العصر الحالي والمحافظة على شكلها وألوانها، يُساهم في تمكين النساء العاملات في تطريزها وتسويقها وبيعها، من تأمين موردٍ مالي لعائلاتهم، والمحافظة على رداءٍ شعبي لبلدهم.

لكي يكون التراث جزءًا من مشروعٍ يحقق تنمية مستدامة، فهو بحاجة إلى خطوات مؤسساتية وتسويقية وتعريفية. فإنشاء المنظمات وورشات التدريب التي تُعنى بالحِرَف والتقاليد، يساهمُ في وضعه ضمن إطارٍ تعريفي واضح يحميه من الضياع في فوضى مصطلحات غير مُحددة. ولأن جوهر التراث هو بقدرته على الحياة، فهو يتطلّب الخروج به دائماً نحو المجتمع وليس توجيهه بشكل حصري لأبناء المخيم، والسبب، أنّ أصحاب التراث هم أبناء الشعب الفلسطيني ويعيشون عاداتهم بشكل يومي في بيوتهم، وهو أمرٌ أساسي للمحافظة على هويتهم، ومشاركة عناصر الهوية مع المجتمعات المُضيفة، عربية أم أجنبية، إنّما يُساهم في نشر الهوية الفلسطينية وتعريف الناس بها، وبأن يكونوا “شركاء فيها” من خلال شراء لباسٍ يمثّل الحبكة الفلسطينية في الخياطة، وتحضير أطعمة من المطبخ الفلسطيني، وترديد أهازيج وموسيقى من التراث الشعبي، بهذا يُصبح عنصر التراث متفاعلاً مع بيئته الأساسية ومع البيئة المحيطة.

ويكفي أن ننظر للموضوع من زاوية إقتصادية، فإنّ سوق المخيمات محدودٌ ومعروف الإمكانيات المادية، ومع التوجه نحو سوقٍ جديد سيساهم في توسيع دائرةِ المستهلكين له، ليؤدي إلى زيادة في الإنتاج. وإن أردنا النظر من زاوية إجتماعية، يصبح التراث عبارة عن تبادل معرفي وفكري بين اللاجئ الفلسطيني والمجتمعات الحاضنة له، حينها يَعبُرُ في علاقته من النظريات الفكرية إلى التفاعل الحياتي المباشر.       

سرقة الإحتلال للتراث

يعتقد البعض أنّ الحديث عن التراث هو ترفٌ فكري، وأنّ هموم اللاجئ أكبر من عملية توثيق وورشات تدريب. ولكنّ الإهتمام بمجال التراث ليس منفصلاً عن احتياجات اللاجئين والتحديات التي تواجههم، من الظروف المعيشية اليومية وصولا إلى سلبهم هويتهم، ويكفي النظر إلى السعي المستمر من الإحتلال الإسرائيلي، ما قبل النكبة وإلى اليوم، مثل “جمعية أبحاث أرض إسرائيل” التي تأسست عام 1913 للبحث عن الآثار في فلسطين، الذي يسعى إلى سرقة كل ما يدلّ ويرمز إلى الشعب الفلسطيني، من قطعة الحجر تحت الأرض حتى المأكولات والموسيقى، والأمثلة عديدة، فمُضيفات طيران الخطوط الجوية الإسرائيلية يرتدين الثوب الفلسطيني المُطرز، الذي يرمز إلى النساء الفلسطينيات في مختلف المناطق، حيث يتمّ التعريف عنه بأنّه من “التراث الإسرائيلي”، ليتلقى الراكب القادم من أوروبا أول رسالة غير مباشرة، فالهوية لا تُقدّم عن طريق المحاضرات وإنّما بإسلوب الحياة، فتصل له رسالة بأنّ ما يراه ويسمعه هو خاص بالهوية الإسرائيلية.

وتُكمل عملية التهيئة، من خلال أطباق من المأكولات مثل الفلافل والكنافة على أنّها من مطبخهم، ليهبط بعدها، ويتجه بزيارة إلى متحف فيه مخطوطات مسروقة تحت مُسمّى “التاريخ الإسرائيلي”، لتكتمل أدوات الإحتيال على الحواس، نظراً وسمعاً ومذاقا.  

إنّ التكامل بين المؤسسات الفلسطينية في مختلف مخيمات اللجوء، مع المؤسسات الرسمية في الأراضي المحتلة والتواصل مع المنظمات الدولية، يساهم في تثبيت وتطوير العناصر التراثية، لتكون جزءًا من عملية المواجهة المستمرة، وأساساً في تثبيت حقهم في الوجود.

*كاتب لبناني


وسوم :
, , , , , , ,