إرهاصات الإنعطاف (2) منظمة التحرير الفلسطينية وفتح والجبهة الشعبية

التصنيفات : |
نوفمبر 2, 2021 3:22 م

*علي بدوان

لم يكن تأسيس “منظمة التحرير الفلسطينية” بقرار عربي سوى نتاج منطقي للحالة الفلسطينية التي بدأت تعتمل بعد سنوات من النكبة والضياع. فمجموع الوقائع والتطورات التي حفرت أخاديدها في الوسط الفلسطيني، وإرهاصات الكيانية الوطنية، وتلمّس ضرورات الحفاظ على الهوية الوطنية والقومية للشعب الفلسطيني أمام عمليات الإقتلاع وتذويب الهوية الوطنية، دفعت الرئيس الراحل جمال عبد الناصر للسعي من أجل تبني قرارٍ عربي رسمي بتشكيل “منظمة التحرير الفلسطينية” حيث اتُّخذ ذلك القرار في مؤتمر “قمة الإسكندرية العربية” عام 1964، في الوقت الذي تَواصل فيه نموّ وتعاظم الإرادة الفلسطينية لفتح الدروب أمام العمل الفدائي المسلح.

هكذا، وبالذات صباح 28/5/1964، افتتح القائد الفلسطيني أحمد الشقيري، بحضور الملك الأردني الراحل الحسين بن طلال أعمال المجلس الوطني الفلسطيني الأول في دورة اجتماعاته التي عُقدت داخل قاعة فندق “إنتركونتنـنـتال” في مدينة القدس، بعد تحضيرات واسعة وخطوات تمهيدية بدعم كامل من الرئيس جمال عبد الناصر، وبحضور أكثر من مئتي عضو يمثّلون التجمعات الرئيسة للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، إضافة إلى الشتات، وأعلن أحمد الشقيري في نهاية أعمال المؤتمر عن تأسيس “منظمة التحرير الفلسطينية” ككيان سياسي يُعيد الإعتبار لوحدة الشعب الفلسطيني في كل مكان، ويمثّله على الصُعد كلها، ويحمل طموحاته وتطلعاته الوطنية.

المؤتمر الذي تحوّل إلى البرلمان الموحّد لكل الشعب الفلسطيني، شكّل بحضوره الواسع الإجتماع الفلسطيني الأول لمُمثلي ومندوبي كل تجمعات ومواقع الفلسطينيين، وبدايات العمل الفدائي المُسلح، دفع نحو توليد سلسلة من العمليات الفدائية، تُوّجت بانطلاق فصائل العمل الفلسطيني المسلح قبل وبعد حزيران/يونيو 1967 في الشتات وامتداداتها داخل الضفة الغربية والقدس، ثم داخل المناطق المحتلة عام 1948. والسيطرة اللاحقة لحركة فتح وفصائل الثورة الفلسطينية المُسلحة على قيادة ومقدّرات منظمة التحرير عام 1968 في الدورة الرابعة للمجلس الوطني الفلسطيني التي عُقدت في القاهرة، بعد استقالة المرحوم أحمد الشقيري في 24/12/1967 وتعيين يحيى حمودة خلفاً له لفترة انتقالية مؤقتة لم تزد على 3 أشهر، إلى حين استقالة يحيى حمودة في الدورة الخامسة للمجلس الوطني الفلسطيني التي عُقدت في  شباط/فبراير1969 وتسمية ياسر عرفات كرئيس للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.

إرهاصات الفكرة واختمارها

مع إشراقة شمس اليوم الأول من العام 1965، أُعلِنَ عن ميلاد الحركة الوطنية والثورة الفلسطينية المعاصرة، بالرصاصة الأولى التي أطلقتها حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) في الأول من كانون الثاني/يناير عام 1965، حين تمكنت المجموعة الفدائية الأولى من “قوات العاصفة” من تنفيذ عملية فدائية داخل فلسطين المحتلة عام 1948، وتحديداً في منطقة الجليل الشرقي وفي بلدة عيلبون القريبة نسبياً من مُثلث الحدود السورية _ الأردنية مع فلسطين. وتبع تلك العمليات سقوط الشهيد الأول لحركة فتح وقوات العاصفة، الشهيد اللاجىء الفلسطيني أحمد موسى الدلكي من قرية ناصر الدين التابعة لقضاء طبريا.

وفي هذا السياق، كانت رابطة الطلبة الفلسطينيين فـي القاهرة، قد اشتعلت بالنشاط النقابي والسياسي عندما انتُخِبَ محمد عبد الرؤوف القدوة الطالب بكلية الهندسة بجامعة القاهرة رئيساً لها، فشكّلت تلك الرابطة المدخل العملي لتأسيس حركة فتح في الربع الأخير من عام 1957، وانطلقت طلائعها من غزة ومن الشتات الفلسطيني في القاهرة والكويت، وقطر وألمانيا، وبعد ذلك في السعودية وسوريا ولبنان والأردن، وكانت انطلاقتها نقطة تحول هامة في مسيرة النضال الفلسطيني.

سوريا أرض البدايات

انطلقت عسكريا، الشرارات الأولى للثورة الفلسطينية المُعاصرة والعمل الفدائي الفلسطيني من سوريا، حيث قام المعسكر التدريبي الأول، فخرجت منه البندقية الأولى، والطلقة الأولى، واللُّغم الأول، والعُبوة الأولى نحو فلسطين، وتخرّجت منه قوافل الأعداد الأولى من أعضاء وكوادر حركة “فتح” من العسكريين، وسقط الشهيد الأول، وأُقيمت مقبرة الشهداء الأولى للثورة الفلسطينية المعاصرة في مُخيم اليرموك.

وفي حقيقة الأمر، فإنّ اللحظات الحاسمة التي أرخت وسرّعت المفاعيل لانطلاقة حركة “فتح”، بدأت منذ العدوان الثلاثي والإجتياح “الإسرائيلي” الأول لقطاع غزة عام 1956، وفق أغلب المصادر، فقاد في حينها خليل الوزير مجموعة فدائية تسلّحت من عتاد كتيبة الفدائيين التي أنشأها الرئيس جمال عبد الناصر، وأسس الشهيد صلاح خلف “جبهة الكفاح المسلح الثورية”.

وفي هذه الفترة بالذات، عمل ياسر عرفات، وكان حينها رئيس اتحاد طلبة فلسطين في مصر، على إقناع قيادة مجلس الثورة بضرورة قبول دفعات من الضباط الفلسطينيين من أبناء قطاع غزة في الكلية الحربية المصرية، الأمر الذي تحقق، وأصبح الضباط الفلسطينيون من خريجي الكلية الحربية المصرية دعامة من دعامات بناء جيش التحرير الفلسطيني “قوات عين جالوت” في أيلول/سبتمبر 1964.

بالنتيجة، وبعد كل تلك الحراكات والتحولات، جرى في الكويت اللقاء الهام والاستراتيجي بين مُمثلي هذه المجموعات “مجموعتي غزة ومصر”، ومجموعة الأردن، ومجموعتي “سوريا والخليج” اللتين دخلتا على الخط في تشرين الأول/أكتوبر عام 1957 بقيادة ياسر عرفات، وهو اللقاء الذي رسم طريق تأسيس وإعلان انطلاقة حركة “فتح” وقوات “العاصفة”.

وفي التفاعلات اللاحقة، ومنذ العام 1974 باتت الساحة الفلسطينية محكومة ببرنامجين اثنين: الأول، برنامج جبهة القبول، وهو برنامج البحث عن حلول التسوية السياسية.

والثاني، هو برنامج جبهة الرفض، وهو البرنامج الذي يقول باستحالة التسوية مع دولة الاحتلال باعتبارها “أهون الشرور” في المرحلة الراهنة خاصة بعد الخروج الفلسطيني من لبنان صيف العام 1982، في ظلّ الإختلال الكبير في ميزان القوى، مُعتبرة في الوقت نفسه أنّ القبول ببرنامج النقاط العشرة “أي البرنامج المرحلي” سيفتح باباً مُشرّعاً للإستسلام، وتصفية الحقوق الوطنية والتاريخية للشعب العربي الفلسطيني فوق تراب فلسطين الكامل. وعليه، وقعت عدة انشقاقات في حركة “فتح” على خلفية القبول أو الرفض، وكان أوسع انشقاق عام 1983.

اندفعت “م ت ف” باتجاه التسوية في ظل مؤتمر مدريد عام 1991 بعد التحوّلات الهائلة التي وقعت بعد الهزيمة العربية الشاملة في حرب الخليج الثانية، فرأت قيادة المنظمة ضرورة المُشاركة في مؤتمر للتسوية بدلاً من الجلوس على مقاعد المتفرجين.

ائتلاف الجبهة الشعبية

في المُقدمات والحراكات التاريخية الطويلة، التي اعتملت، وبعد حرب السادس من حزيران/يونيو 1967 ونتائجها الكارثية، توصلت حركة القوميين العرب إلى نتيجة مفادها أنّ الشعار التي رفعته منذ إعلان تأسيسها على يد د. جورج حبش ورفيق دربه د. وديع حداد ومفاده أنّ قيام الوحدة بين الدول العربية هي السبيل لتحرير فلسطين، لم يعد واقعياً في ظلّ حكم الأنظمة العربية القائمة، لتصبح المعادلة: تحرير فلسطين هو السبيل لقيام الوحدة.

انطلقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بائتلافها الواسع، وجاءت لتُعرّف عن نفسها ببيانها الشهير حاملة الفكر القومي والثوري واليساري، والتي أعلن عن قيامها الدكتور جورج حبش في البيان التأسيسي يوم 11/12/1967، حين أعلن عن نضوج الفكرة ونمو أزهارها، مُعلناً قيام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في 11/12/1967، عبر بيانها التأسيسي المُوجّه إلى الشعب الفلسطيني والأمة العربية، والدّاعي “لإعلان الكفاح المسلح والإستمرار فيه رغم كل الصعاب”، وإلى اعتماد “لغة العنف الثوري ضد الاحتلال”، مركّزاً على أهمية العمل في الداخل الفلسطيني، وعلى تكريس شعار “نموت ولا نهاجر”، ومؤكداً على ضرورة مُصارحة الجماهير، فطرحت الجبهة الشعبية بقيادته، شعار: “كل الحقيقة للجماهير”.

وهكذا تَشَكّلت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بانطلاقتها التاريخية الفدائية العسكرية المسلحة يوم 11 كانون الأول/ ديسمبر من عام 1967 من ائتلاف عدة أطراف فلسطينية، كان أبرزها الجناح العسكري الفدائي للحركة، وفق التالي:

*حركة القوميين العرب وجناحها الفدائي العسكري والمسمى بـ (الجبهة القومية لتحرير فلسطين ـــ منظمة شباب الثأر) بقيادة الشهيد الدكتور وديع حداد (أبو هاني)، أحمد اليماني (أبو ماهر)، عبد الكريم حمد قيس (أبو عدنان)، مصطفى الزبري (أبو علي مصطفى)… والمئات الأخرين من كوادر حركة القوميين العرب من العاملين في الإطار الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة وسوريا ولبنان والأردن.

*مجموعة الضباط الناصريين الأحرار في الجيش الأردني بقيادة المقدم أحمد زعرور، يوسف أبو أصبع، مروان مفيد، أحمد عمر، بشير البسطامي… وشكّلت هذه المجموعة بعد خروجها من ائتلاف الجبهة الشعبية في آب/أغسطس 1970: منظمة فلسطين العربية وانضمت بعد الخروج الفلسطيني المُسلح من الأراضي الأردنية إلى حركة “فتح”.

*تنظيم جبهة التحرير الفلسطينية (الذي بات يُعرف في وقت لاحق بالجبهة الشعبية/القيادة العامة)، بمجموعاته الفدائية الثلاث: “فرقة الشهيد عبد القادر الحسيني، فرقة الشهيد عز الدين القسام، فرقة الشهيد عبد اللطيف شرورو” بقيادة أحمد جبريل، وهو تنظيم فلسطيني كانت نواته قد تأسست عام 1959 في دمشق ومُخيم اليرموك على وجه التحديد، وهو التنظيم الذي حمل اسم “الجبهة الشعبية ـــ القيادة العامة” بعد خروجه من ائتلاف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في تشرين الثاني/نوفمبر عام 1968.

*مجموعة أبطال العودة بقيادة كل من: الشهيد الحاج فايز جابر (أبو نافذ)،  وصبحي التميمي (أبو جبريل)، وعبد الرحيم جابر.

فقد كانت منظمة (أبطال العودة) منظمة صغيرة وحديثة العهد، وقد تشكّلت بمساندة ودعم مالي وعسكري من قيادة “منظمة التحرير الفلسطينية” بزعامة أحمد الشقيري وجيش التحرير الفلسطيني بقيادة قائد الجيش اللواء وجيه طلعت المدني.

وتشكّلت قيادة موحدة ومكتب سياسي لائتلاف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين فجر انطلاقتها، وضم المكتب السياسي كلاً من:

الدكتور جورج حبش كأمين عام، أحمد جبريل كمسؤول عسكري، الدكتور وديع حداد (أبو هاني)، محمد صبري كتمتو (أبو فراس)، فايز قدورة (أبو بسام)، فضل شرورو (أبو فراس)، النقيب علي بوشناق (أبو مراد)، صبحي التميمي (أبو جبريل)، فايز جابر (أبو نافذ). حيث يلحظ وبغضّ النظر عن أحجام القوى المؤتلفة، أنّ القيادة والمكتب السياسي توزعا بين القوى المؤتلفة، فهناك جورج حبش ووديع حداد وفايز قدورة من حركة القوميين العرب. وأحمد جبريل وفضل شرورو وعلي بوشناق من مجموعة جبهة التحرير الفلسطينية، وفايز جابر وصبحي التميمي من منظمة أبطال العودة.

الجبهة الشعبية… أوسلو وما بعد أوسلو

مرّت “الجبهة الشعبية” بمنعطفات كبيرة أثناء مسارها ومسار العمل الفلسطيني، يمكن إيجازها بالتالي:

أولا: اتّباع نهج خطف الطائرات والعمليات الخارجية، منذ العام 1968 إلى العام 1971 لشدّ انتباه العالم لقضية فلسطين، ثم إصدار قرار بوقفها بعد أن انتفت أغراضها المطلوبة منها. بالرغم من معارضة الدكتور وديع حداد لوقفها، فقام بتنفيذ بعض العمليات الخارجية، وأصبح خارج إطار الجبهة الشعبية، حتى تمّت إعادة الإعتبار له كشخصية وطنية مُؤسِّسة للجبهة الشعبية.

ثانيا: تحرير حبش من سجن كركون الشيخ حسن بدمشق، حين تمّ اعتقاله من قبل مخابرات عبد الكريم الجندي بسبب علاقاته مع الناصرية، واتهامه بتهريب سلاح للناصريين في سوريا من لبنان. حيث بقي داخل المعتقل 8 أشهر بدءًا من شباط/فبراير 1968. إلا أنّ إخراجه جاء بعملية مدروسة من قِبل الدكتور وديع حداد ومجموعته.

ثالثا: تمحورها في إطار جبهة الرفض منذ العام 1974، إلى جانب القيادة العامة، وجبهة النضال، وجبهة الحرير العربية. وتبنّيها خطّ الرفض ومقاطعة “م ت ف” والإنسحاب من اللجنة التنفيذية للمنظمة حتى العام 1979.

رابعا: المحاولات “الإسرائيلية” المتكررة لاغتيال جورج حبش، وكان منها اختطاف “إسرائيل” طائرة مدنية عراقية عام 1975، وإنزالها في فلسطين، بعد أن أقلعت من مطار بيروت ظنّاً منها أنّ الدكتور حبش على متنها، إلا أنّ حبش أحجم عن الصعود إلى الطائرة في اللحظات الأخيرة قبل إقلاعها بناءً على تقديرات وديع حداد.

خامسا: دخول الجبهة الشعبية إلى فلسطين في أواخر التسعينات بعد سنوات من إعلان قيام السلطة الوطنية. وحينها، أعلن الشهيد أبو علي مصطفى الذي بات الأمين العام للجبهة بعد تنحّي د. جورج حبش في العام 2000، موقف الجبهة من قرار الدخول، بتصريحه: “جئنا لنقاوم لا لنساوم”.

فكان استشهاد أبو على مصطفى ضربة موجعة للجبهة الشعبية التي شيّعت بعد ذلك بسنوات الأمين العام المؤسس الدكتور جورج حبش في العام 2008.

سادسا: عارضت الجبهة الشعبية، عملية التسوية، واتفاقيات أوسلو. وباعتبارها من القوى ذات الحضور والوجود التنظيمي في الداخل الفلسطيني، بالموازاة مع وجودها التاريخي في الشتات، ساهمت بالعمل الفدائي المُسلح في صفوف الإنتفاضة من خلال إنشاء كتائب “النسر الأحمر” كجناح فدائي مُسلح للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وقد استمرت إلى حين الإنتفاضة الثانية، لتحمل “كتائب الشهيد أبو علي مصطفى” إثر استشهاده بعد استهداف مكتبه بسلاح الجو الصهيوني.

*كاتب فلسطيني


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , , , , , , , ,