عمائم وبنادق.. حماس والجهاد (5)

التصنيفات : |
نوفمبر 8, 2021 10:54 ص

*علي بدوان

شكّلت حرب 1982 “الإسرائيلية” التي شُنّت على لبنان بشكل عام، والمقاومة الفلسطينية، مُمثلة بفصائل وقوى منظمة التحرير الفلسطينية، بشكل خاص، نقطة انعطاف وتحوّل بارزة في مسار الحركة الوطنية التحررية للشعب الفلسطيني.

فقد حَسِب آنذاك مُنظِّرو الحرب “الإسرائيلية” وقادتها من غُلاة “الليكود” الذين شنّوا الحرب بقيادة مناحيم بيغن وأرئيل شارون ورفائيل إيتان أنّ نهاية الحركة الوطنية الفلسطينية قد أُزفّت، وبأنّها باتت تلفظ أنفاسها الأخيرة بعد الخروج الفلسطيني المُسلح من بيروت وغالبية الأراضي اللبنانية.

وازدادت تلك القناعات رسوخاً لدى “الإسرائيليين” وبعض العرب الرسميين، في مناخات الإحباط  التي سادت مع الإقتتال والإنقسام الفلسطيني والشرخ الكبير الذي دبّ في صفوف المنظمة وحركة “فتح”، وحروب المُخيمات التي جرت فوق الأراضي اللبنانية، إلى أنْ جاءت المفاجأة المُدوّية التي أذهلت الجميع عبر انطلاقة الإنتفاضة الفلسطينية الأولى نهاية عام 1987، فشكّلت التطور النوعي الجديد في كفاح الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، لتهزّ العالم بأسره، واستعادت فلسطين بها مناخاتها وأجواءها، وتحطّمت على صخرة النهوض الشعبي العارم كلّ أوهام تركيع الفلسطيني، وعادت مطالبه في فلسطين والشتات، إلى الواجهة، فأظهر شعب فلسطين الإحتياطي الهائل للشجاعة والجرأة والإقدام والإستعداد للتضحية من أجل حرية الوطن، والذي اعتقد أعداؤه أنّه أخمد أو استكان تحت طبقات من اليأس والتراجعات المتكررة الناجمة عن تحولات ما بعد 1982.

وفي هذه السياقات، برز التطور النوعي الآخر في بُنية الخريطة السياسية الفلسطينية من خلال الإنطلاقة المتصاعدة لقوى التيار الإسلامي الفلسطيني المقاوم ممثلاً بحركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” بشكل رئيس.

حركة المقاومة الإسلامية (حماس)

هي “حماس”، حركة مقاومة شعبية وطنية وجهادية، وزّعت بيانها التأسيسي في 15 كانون الأول/ديسمبر1987، إلا أنّ نشأة الحركة تعود في جذورها إلى أربعينيات القرن الماضي، وهي امتداد طبيعي لحركة الإخوان المسلمين في فلسطين.

فقبل الإعلان عن الحركة، استخدم الإخوان المسلمون أسماءًا أخرى للتعبير عن مواقفهم السياسية تجاه القضية الفلسطينية منها: “المرابطون على أرض الإسراء” و”حركة الكفاح الإسلامي” وغيرها.

ورثت “حماس” تنظيماً كاملاً كان قد تبلور خلال سنوات طويلة تحت لافتة الإخوان المسلمين في قطاع غزة والضفة الغربية، وإن لم تكن اللافتة مُعلنة بالكامل لتجنّب إثارة الاحتلال.

وكان الشهيد الشيخ أحمد ياسين قد بدأ المسيرة مُبكرا، ومعه بعض الأسماء البارزة التي لعبت دوراً لاحقاً في صعود حركة “حماس” وتألقها.

في مطلع الثمانينيات، ومع الإرهاصات الداخلية في إطار ومؤسسات الحركة الإخوانية في قطاع غزة، اقتنع الشيخ أحمد ياسين أنّ شجرة المقاومة الإسلامية قد نضجت وأينعت، وآن الآوان لانطلاقتها نحو برنامج مقاومة الإحتلال، فكانت نُواة التنظيم المُسلّح عام 1982 كما تجمع العديد من المصادر المحايدة.

وبالفعل، تمّ وضع الخطوط العريضة لنشأة حركة “حماس” وتجسيد ما يطمح إليه مشروع العمل الإسلامي الجهادي. وما لبثت نُواة المجموعات الأولى أن وقعت في قبضة الإحتلال، وصولاً إلى اعتقال الشيخ أحمد ياسين والحكم عليه بالسجن 13 عاما، قبل أن يخرج بعد ذلك بثلاث سنوات في عملية تبادل الأسرى التي تمّت بين العدو الصهيوني والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين/القيادة العامة عام 1985.

وبعد الإفراج عن الشيخ ياسين، نشأ تطور لدى الحركة الإسلامية دفعها إلى الإحتكاك بالإحتلال. فأصبح للحركة الإسلامية حضوراً مميّزاً بين طلاب الجامعة، وتحديداً في الجامعة الإسلامية بغزة التي أنشأت أجيالاً تابعة للحركة، وفي جامعة بيرزيت التي تنوّعت داخلها التيارات، فضمّت “فتح” والجبهة الشعبية وتيارات إسلامية، وكذلك الأمر في جامعة النجاح بنابلس. في ما تصاعدت الحالة الوطنية في الداخل، وعزّزت المناخات المُسيطرة آنذاك ضرورة المسارعة في تحريك الوضع في الداخل، فاتُّخذ قرار الإنخراط في مواجهات شعبية مع الإحتلال، وانطلقت هذه المواجهات من الجامعات الفلسطينية.

حماس والمعادلة السياسية

وكان حادث الإعتداء الذي نفّذه سائق شاحنة صهيوني في 6 كانون الأول/ديسمبر1987، ضد سيارة صغيرة يستقلها عمال عرب، وأدى إلى إستشهاد 4 من أبناء مخيم جباليا للاجئين الفلسطينيين، بمثابة إعلان بدخول مرحلة جديدة، فعقدت النُّواة المؤسِّسة لـ”حماس” اجتماعها التاريخي الأول في 8/12/1987 بغزة الذي ضمّ كل من: الشيخ الصيدلي إبراهيم اليازوري، عبد الفتاح دخان، محمد شمعة، أحمد بحر، صلاح شحادة، الدكتور عبد العزيز الرنتيسي. وكان عبد الفتاح دخان الرجل الثاني بعد الشيخ أحمد ياسين في موقعه من بين المجتمعين والمؤسسين لـ”حماس”. وساهم آخرون من الضفة الغربية كالشيخ جميل حمامي، حسن يوسف، فضل صالح، حسين أبو كويك والداعية بسّام جرّار في الحركة.

وصدر البيان الأول عن حركة المقاومة الإسلامية “حماس” يوم 15 كانون الأول/ديسمبر1987. ليؤكد أنّ “حماس” باتت تُمثل التيار الرئيس لحركة الإسلام السياسي المقاوم في فلسطين.

ومع تطوّر أساليب المقاومة لدى الحركة، التي شملت أسر الجنود الصهاينة في شتاء عام 1989 وابتكار حرب السكاكين والزجاجات الحارقة من قنابل “المولوتوف” ضد جنود الإحتلال عام 1990 جرت حملة إعتقالات كبيرة ضد الحركة في كانون الأول/ديسمبر1990، وقامت سلطات الإحتلال بإبعاد 4 من رموز الحركة وقيادييها، واعتبرت أنّ مجرد الإنتساب إلى الحركة جناية يُقاضى فاعلها بأحكام عالية.

خلاصة القول، إنّ حركة حماس لم تنشأ من فراغ، وإنّما نشأت ومنذ اللحظة الأولى برصيد شعبي عالٍ لم تشهده الحركات الأخرى في البدايات، ولم تبدأ من الصفر، فكانت “حماس” إمتداداً لرصيد غنيّ من المدّ الشعبي الإسلامي الفلسطيني، وتجديداً لروح المقاومة في فلسطين، منذ الإنتداب البريطاني، وليس إنتهاءًا بالإنتفاضة الأولى والثانية.

إتّفاق القاهرة

بدأت “حماس” في بداياتها تتجنّب الدخول في متاهات العمل السياسي مع معارضتها ومناهضتها لـ”إتفاقية أوسلو” واشتقاقاتها، فأبدت مقاطعتها للإنتخابات البرلمانية الأولى للمجلس التشريعي الفلسطيني التي جرت عام 1996 بعد نشوء السلطة الوطنية الفلسطينية بعامين تقريبا، وبرّرت مقاطعتها آنذاك للإنتخابات بقولها: “إنّ “اتفاق أوسلو” وكلّ ما سيتمخّض عنه هو بمثابة العبث السياسي الذي لا يُحقق طموح الشعب الفلسطيني في إقامة دولته واستعادة حقوقه، ولا يتناسب مع ما قدّم من تضحيات على مدى 100 عام”.

وبعد مرور 10 سنوات، وجدت “حماس” نفسها أمام خيارين: إما الإستمرار في البقاء خارج السلطة وعدم المشاركة في أيّ من مؤسساتها، ومقاطعة الإنتخابات التشريعية القادمة التي كانت مقررة عام 2006، كما فعلت من قبل في انتخابات 1996، وإما العدول عن هذا الخيار والدخول في معترك العملية السياسية.

وأخذت طريق القول بأنّ “إتفاق أوسلو” أصبح من الماضي، واستدلّت على ذلك بما فعلته “إنتفاضة الأقصى” التي إندلعت عام 2000 من تراكمات سياسية وتغييرات ميدانية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وإنخراط العديد من الأذرع المسلحة لبعض الفصائل الفلسطينية بما فيها “كتائب شهداء الأقصى” الجناح المُسلح لـ”فتح” الفصيل الأساسي في منظمة التحرير، التي أبرمت “إتفاق أوسلو”. والتأسيس للمشاركة في العملية الإنتخابية وما قد يستتبعها في حالة الفوز من تشكيل حكومة وفقاً لعقد جديد بعيد عن “أوسلو”، جرى إبرامه وحمل إسم “إتّفاق القاهرة”.

إنّ هذا التمهيد في الإشتقاقات السياسية لـ”حماس” في المواقف وفي لغة الخطاب كان ضرورياً لها قبل إعلانها عن المشاركة في انتخابات 2006، وقد فسّرها البعض بالمُرونة والبراغماتية السياسية والعقلانية والواقعية المطلوب التحلّي بها قُبيل وأثناء الخوض في غمار السياسة ودهاليزها. في حين فسّرها بعض المتحاملين على “حماس” وبعض خصومها السياسيين بأنّها إنتهازية وتغيير في ثوابتها الفكرية، لكنّ أيّاً كانت زاوية الرؤية فقد اشتركت “حماس” في الإنتخابات وفازت بأغلبية كبيرة.

حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين

أدّى غياب التيار الديني عن العمل العسكري المباشر ضد الإحتلال في الساحة الفلسطينية، بعد حرب عام 1967 إلى حدوث نوع من التناقض بين العمل الديني والعمل الوطني، والذي بَرَزَ بشكلٍ واضح في الصراع بين الكتل الطلابية المُختلفة في المعاهد والجامعات الفلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1967 في الضفة الغربية والقدس قطاع غزة، وفي النقابات الفلسطينية المختلفة، التي كانت وما زالت منبعاً رئيساً من منابع  العمل الوطني.

كان القيادي الإسلامي الدكتور فتحي الشقاقي يُركز على مسألة غياب المنهج في المسألة الوطنية، وفي حال القضية الفلسطينية، وفي تناول وفهم الإسلام والواقع والعالم، الأمر الذي أحدث خللاً في سُلّم أولويات الحركة الإسلامية وأوقعها في مأزق التعارض الوهمي بين العروبة والإسلام أو بين الوطنية والإسلام، فبدت الحركة الإسلامية وكأنّها لا تملك إجابة للمسألة الفلسطينية التي بقيت تتراوح لدى الإسلاميين بين الإهمال والتأجيل.

إنّ غياب الحركة الإسلامية عن العملية الوطنية الفلسطينية قبل انطلاق شرارات الإنتفاضة الفلسطينية الكبرى الأولى نهاية عام 1987، لم يكن مُنطلقاً من مُجرد عدم الرغبة في المشاركة في الكفاح الوطني الفلسطيني، كما تقول أدبيات الحركة الإسلامية الفلسطينية في الداخل عام 1967، وإنما كان مُنطلقاً من عدم القناعة به وبجدواه، فكان التنظير العام لـ”حركة الإخوان المسلمين” في تلك الفترة يقول بالسعي من أجل إقامة النظام الإسلامي كأولوية، ومقدمة لتحرير فلسطين. فبدأت الحركة الإسلامية وكأنّها لا تملك إجابة للمسألة الفلسطينية التي بقيت تتراوح لدى الإسلاميين بين الإهمال والتأجيل.

هذا على صعيد مناخ الحركة الإسلامية. أما من ناحية الحركة الوطنية الفلسطينية، فقد رأى الدكتور فتحي الشقاقي أنّ معظم القوى الوطنية الفلسطينية الوطنية واليسارية والعلمانية، تستبعد الإسلام كثقافة وهوية وأيديولوجيا عن إدارة الصراع، حيث غيّبته عن برامجها النضالية وحياتها اليومية.

من هنا، كانت “حركة الجهاد الإسلامي” كفكرة ومشروع في ذهن مؤسسها الدكتور الشقاقي حلاً لهذه “الإشكالية المُصطنعة”، إشكالية الدين والوطن، أو العروبة والإسلام، حيث وطنيون بلا إسلام وإسلاميون بلا فلسطين. فجاءت حركة الجهاد الإسلامي ــكما تشير أدبياتهاــ كإجابة إسلامية ثورية عن السؤال الفلسطيني ورفعت شعارات الإسلام والجهاد وفلسطين، الإسلام كمنطلق، والجهاد كوسيلة، وفلسطين كهدف للتحرير.

كان التبايُن في وجهات النظر لدى أوساط مؤسسي “حركة الجهاد الإسلامي” بين التيار الديني من جهة، والتيار الوطني من جهة ثانية، في تقدير طبيعة المرحلة وفهمها يُشكّل، شئنا أم أبينا، تناقضاً بين ما هو ديني وما هو وطني في العمل الفلسطيني في تلك المرحلة، وبقي الوضع إلى أن جاء تشكيل “حركة الجهاد الإسلامي “في فلسطين أواخر السبعينيات من القرن الماضي وبداية الثمانينيات منه، لتكون أول تنظيم فلسطيني إسلامي يُعيد اللُحمة ويحقق المصالحة المرجوة بين الوطني والديني، وبين القومي والإسلامي، ويضع مقاومة الإحتلال بكل الوسائل، وبشكلٍ مُباشر على رأس أولوياته.

لقد اعتبرت النُّواة المؤسِّسة لـ”حركة الجهاد الإسلامي” أنّ فكرة الجهاد في فلسطين هي المحور المُقدّس الذي تبلورت حوله أفكار الحركة، خصوصاً في ظل تقاعس التيارات الإسلامية عن القيام بواجبها الجهادي في فلسطين في تلك الحقبة الزمنية. وتمّ تصنيف الحركة بناءً على ما جاء في أدبياتها على أنّها حركة إسلامية مقاتلة تمثّل تياراً تجديديا، تنويريا، تثويريا، في الساحة الفلسطينية بشكلٍ خاص، والساحة العربية والإسلامية بشكلٍ عام، حيث تَضَع القضية الفلسطينية على رأس جدول عملها، إضافة إلى تركيز الحركة على السعي من أجل العمل على الأرض لترجمة أهدافها، إلا أنّها، في الوقت نفسه، تعتبر نفسها جزءًا من التيار الإسلامي الذي يحمل الإسلام كدين، ويريد إقامته وتوحيد الأمة تحت لوائه.

الجهاد في سبيل الله وفلسطين

إذا، كانت نشأة حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، ثمرة حوار فكري وتدافع سياسي شهدته الحركة الإسلامية في فلسطين أواخر السبعينيات من القرن الماضي لإعادة الوحدة بين الديني والسياسي الوطني، وبين الإسلامي والقومي، على الساحة الفلسطينية، وتنويع اللون الكفاحي بدلاً من اقتصار العمل الوطني على القوى الوطنية والقومية واليسارية العلمانية، وحلاً لإشكالية تفاقمت من وجهة نظر مؤسسي الحركة حيث “وطنيون بلا إسلام، وإسلاميون بلا فلسطين”، ومستندة للتجربة القسّامية التي قادها الشهيد عزّ الدّين القسّام في ثورته التي تفجّرت في فلسطين أواخر عام 1935، والتي أعطت الأولوية للجهاد الوطني والعمل الكفاحي الفدائي المباشر. كما كانت نِتاج نقاش ومخاض فكري وسياسي داخل مجموعات من الحركة الإسلامية في فلسطين منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي، وفي سياقات الموضوع الوطني الفلسطيني، والبحث عن موقع فلسطين والجهاد في برنامج الحركة الإسلامية.

وقد حسم المؤسسون لـ”حركة الجهاد الإسلامي” في فلسطين، وعلى رأسهم الدكتور فتحي الشقاقي أمرهم بضرورة تشكيل “تنظيم جديد يُعِّد العدّة لمشروع الجهاد والمقاومة من منطلق إسلامي”.

نضجت الفكرة، فكانت “حركة الجهاد الإسلامي” في فلسطين، وفق مؤسسها ليس كظاهرة عابرة، بل كفعل وطني وإسلامي، نشأت في صيرورة التطور التاريخي للكفاح الوطني الفلسطيني. كما لم تكن إنشقاقاً عن “الإخوان المسلمين”، وإن كان البعض من أعضائها قد عاش تجربة الإخوان كالدكتور الشقاقي، وقدّم رؤية جديدة شاملة في العمل الإسلامي عامة، والفلسطيني خاصة مع إنطلاق الأفكار التي بدأت تتحدث بشأن التجديد الديني والفكري والسياسي في إطار ثوري وجهادي، فقامت ونشأت “حركة الجهاد الإسلامي” في فلسطين في ظروف صعبة، واستمرت في الحياة، بل وأكدت حضورها كقوة هامة وفاعلة في الشارع الفلسطيني، وبدت أكثر إنسجاماً فكرياً وسياسياً من غيرها، واتخذت لها إسماً أولياً عنوانه “الطلائع الإسلامية”.

البذرة التي نشأت في جامعة الزقازيق: الروافد والأبعاد

كان الدكتور فتحي الشقاقي يرى أن الواجب يكون في مقدمة العمل الوطني، أصحاب التاريخ والتراث والفكر الأصيل في المنطقة وهو الفكر الإسلامي، فكانت البذرة الأولى لـ”حركة الجهاد الإسلامي” في فلسطين قد زُرعت في مصر، في جامعة الزقازيق، وتكوّنت من نُواة طلابية عادت طلائعها إلى قطاع غزة بدءًا من عام 1981.. دعوية مختلفة في كافة الساحات والميادين خاصة في المساجد والجامعات، وبرز دور الطلاب بشكل خاص عام 1981 حين تشكّلت كتلة الإسلاميين المستقلين في الجامعة الإسلامية بغزة كممثلة للتيار الجهادي، وسرعان ما امتدت إلى مختلف المدن والقرى والمخيمات. وانتشرت الفكرة بسرعة مكوّنة تياراً جهادياً وخطاباً إسلامياً كان غائباً عن الساحة الفلسطينية. وقد دُعيت تلك النُّواة بإسم “تنظيم الطلائع”.

سعت النُّواة المؤسسة للحركة لتقديم الإجابة الإسلامية على السؤال الوطني الفلسطيني، بصفتها تسعى لبناء حركة إسلامية مقاتلة، وقوة تجديدية وتنويرية داخل الحركة الإسلامية المعاصرة. حيث قاد التحوّل مجموعة من الشباب الفلسطيني أثناء وجودهم للدراسة الجامعية في جامعة الزقازيق المصرية، كما ورد أعلاه، ومعهم مجموعات كانت موجودة على أرض غزة، وعلى رأسهم الدكتور فتحي الشقاقي، الدكتور رمضان عبد الله شلح، الدكتور محمد الهندي، نافذ عزام، الشيخ عبدالله الشامي، الشيخ عبد العزيز عودة، زياد نخالة (أبو طارق)، خضر حبيب، عادل الناطور، أحمد صاد، جميل عليان، تيسير الخطيب وآخرون..

بعد استشهاد مؤسسها، دخلت الحركة طوراً جديداً من حياتها ومسيرتها المكتظة، فاستطاعت أن تلملم جراحها، وأن تصُبَّ جهودها في جزء كبير منها على تنظيم شأنها الداخلي وترتيب أمورها بما يُعينها على الثبات ومواصلة الطريق والنهج الذي خطّه مؤسسها الشهيد الشقاقي. فاستطاعت الخروج من المحنة وتجاوز الخطر، والإقتراب من حالة النضج التي استوعبت فيها الحركة آثار غياب المؤسّس، وتكاملت منظومة عمل الحركة بامتداداتها الداخلية والخارجية في انسجام تام، واستعادت قدرتها على الفعل اليومي والحضور الشعبي كرقم حقيقي لا يمكن تجاوزه أو تجاهله في الساحة الفلسطينية.

فباتت حركة الجهاد الإسلامي وبكل المقاييس، قوة فلسطينية رئيسة في المعادلة الفلسطينية في الداخل الفلسطيني، خصوصاً في غزة.

وبذلك، دخلت طورها الخامس المفتوح، كقوة حاضرة ومؤثرة في المعادلة الفلسطينية، ولتكرّس نفسها كقوة أساسية في ميادين الصراع مع الإحتلال، وفي إطار المشروع الوطني الفلسطيني، وقد عبرت المراحل الصعبة ما بعد عام 1995 حيث تعاظم دورها، ودور جناحها العسكري “سرايا القدس”، وخاضت أقسى المعارك والمواجهات التي وقعت مع الإحتلال في سياق التطورات الهائلة والأحداث الجسام التي لم تتوقف حتى الآن.

*كاتب فلسطيني


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , ,