في صراع الوجود.. تسقط الهوية ويبقى الإنتماء

التصنيفات : |
نوفمبر 16, 2021 10:43 ص

*بسّام جميل

هل تسقط  الهوية أو يسقط الانتماء، حالَ مغادرة الإنسان مسقط رأسه؟!

على اعتبار أنّ هذا لا يُمكن له أن يحدث، قانونيا، على الأقل، في ما يُسمّى الهجرة الداخلية، أي انتقال المواطنين من مدينة إلى أخرى بحثاً عن أسباب الرزق في معظم الأوقات، وفي حالات نادرة، يُجبَر البعض لأسباب أخرى طارئة، كالحرب الأهلية، أو تحت تأثير الاحتلال.

وفي هذه الحالات، طالما أنّ المواطن لا يزال ضمن حدود دولته، يبقى مواطناً يتمتع بحقوق هذه المواطنة وواجباتها، نظريا، مما يعني أنّ الهوية القانونية لا تسقط.

لكن، في التاريخ القديم والمعاصر، على حد سَواء، نماذج كثيرة عن انقلابات أو حروب واحتلالات، أدّت إلى انقسام حادٍ طال الجغرافيا، وأفضى إلى إعادة إنتاج الحدود الوطنية، مما أسقط  الهوية الوطنية، نظريا، بحسب القانون الوضعي الجديد في الدول المُنقسمة “المستقلة”، فجعل أبناء الوطن الواحد، يتبعون حُكماً لعدة دول، ليُمارسوا حقوقاً منقوصة أحيانا، وتضرّ فئات عديدة منهم، بحيث أصبحت الحدود الجديدة وتلك المُتنَازَع عليها، عابرة لأراضيهم وممتلكاتهم، فيغرقون في متاهات قانونية دولية ومُعضلة أخلاقية إذا ما تطورت الأحداث لتنتج حرباً حدودية، فوجب مشاركتهم في أتُون هذا الصراع.

الدول العربية أنموذجاً

– الحالة العراقية/الإيرانية، خسر العراق مساحة واسعة من أراضيه ومُواطنيه، بعد ضم إيران لمنطقة الأحواز العربية، مما دفع البلدين لخوض حرب امتدت لثماني سنوات دون أيّ تحرير أو استعادة أرض تُذكر.

– لواء إسكندرون السوري، تحوّل إلى مقاطعة تركية بعد قرار سلخه عن الوطن الأم في ثلاثينيات القرن الماضي، وبالطبع الجولان السوري الذي لا يزال مُحتلاً من قِبل الصهاينة منذُ نكسة 1967.

– إنقسام اليمن إلى يمن شمالي ويمن جنوبي بعد حرب أهلية طاحنة.

– السودان وجنوب السودان، والإنفصال الذي كرّس النزعة الدينية ومكاسب النفط.

وهكذا نجد العديد من الأمثلة في منطقتنا، وعلى فترات زمنية مختلفة، لكنّ جميع النماذج المعاصرة، أعادت إنتاج إتفاقية سايكس – بيكو الشهيرة، بتقسيم الوطن العربي لدويلات تابعة للنفوذ الفرنسي أو البريطاني. فأصبحنا أمام أوطانٍ مُشوّهة ومُبتذلة.

لِنعُد إلى السؤال عن سقوط الهوية والإنتماء ولنُعيد صياغة الطرح بالقول: ما هي العوامل المُؤثرة في الهوية والإنتماء الوطني؟!

إذا علمنا أنّ كل ما سبق ذكره، يُعدّ من أهم العوامل التي تُحقق سقوط الهوية كحقّ أو كوضع قانوني مُستجد، فالإنتماء يكون كتعبير صريح عن نوع من المقاومة لمُفرزات هذا السقوط.

لعلّ استعادة الأمثلة السابقة يقدّم لنا نماذج عديدة عن هذه المقاومة التي يتمسك بها أبناء الأرض ليُظهروا انتماءهم لوطنهم الأم وللتصدي لكل محاولات تذويب هويتهم الوطنية ضمن ثقافة المحتل في الحالة السورية والعراقية والفلسطينية، بل والحفاظ على الإختلاف من خلال التمسك بالهوية الدينية في الحالة السودانية، بيد أنّه في المقابل، هناك فئة مستسلمة أو متنفّعة وتؤيد الإنغماس وخدمة هذا الكيان المبتذل، مثل جيش لحد الجنوبي “جيش لبنان الحرّ” في جنوب لبنان، الذي قدّم أنموذجاً جلياً عن الخيانة الوطنية وخدمة الاحتلال، في محاولة لخلق وحش وظيفي يُسيطر بقوة النار.

يكون الإنتماء، لفظاً وفعلا، أو مغازلة سَمِجة إذا ما استدعت المصلحة ذلك لبعض المنتفعين، فتسقط الهوية الوطنية للأسباب ذاتها.

الحالة الفلسطينية

خلال عقود طويلة من الحروب والمعارك التي أنتجت المجازر، لم تكن قضية الهوية الوطنية هاجساً مُلحاً ومدعاة بحث حقيقي بقدر ما كانت أمراً مُسلّماً به. إلا أنّ الإختلاف تحقق في اختيار ما يناسب هذه الساحة من أدوات النضال ومحاولات عديدة لاستنساخ نماذج ونظريات ثورية من الخارج، رغم فشل معظمها في بلاد المصدر، ومحاولة تطبيقها دون اهتمام لاختلاف البيئة والتجربة وظروف المعركة أو العدو.

أنتجت النكبة آلاف اللاجئين في دول الطوق “المُنقسمة بفعل إتفاقية سايكس – بيكو” وأبقت على نسبة كبيرة من هذا الشعب تحت وصاية عربية إلى أن انتهت الوصاية بفعل هزيمة حزيران/يونيو 1967، وأكثر من مليون فلسطيني آخرين، لا يزالون على أرضهم، لكنّهم وجدوا أنفسهم تحت حكم مباشر من دولة الاحتلال، برتبة مواطن درجة ثالثة أو أقل، بعد ابتلاع أراضيهم ومصالحهم.

3 نماذج لشعب واحد، ويمكن إضافة فئة جديدة قررت في مرحلة ما، الهجرة إلى الغرب:

1- لاجئ/ مواطن تحت حكم سلطة مؤقتة خاضعة للاحتلال

2- مواطن درجة ثالثة في دولة احتلال

3- وأخيرا، مغترب يحمل جنسية أجنبية.

كل شريحة من هذه الشرائح تخضع لسؤال الهوية والإنتماء، لتكون انعكاسات هذا الواقع المُغاير مختلفة بطبيعة الحال، بما يخصّ القانون الوضعي الناظم لشؤونهم بحسب توزّعهم في جغرافيا الوطن وخارجه.

إلا أنّ الإنتماء، كحالة وجدانية وطنية، لا تزال متماسكة، رغم وجود بعض الحالات الشاذة التي لا تقتصر على أفراد من عامة هذا الشعب، بل ممن يتقلّدون مناصب عالية، أو قد يملكون أدوات تأثيرية هامة، ولا يمكن تهميش وجود سلطة خاضعة للاحتلال ومنتفعة إلى أبعد الحدود، لتكون مِثالاً عن هذا “الشُذوذ” الوطني الكارثي، بقدرتهم على امتلاك قرار التمثيل الدولي، في الوقت الراهن.

بالمحصّلة

لا يمكن المحافظة على هوّية وطنية بمفهومها الفكري والقانوني، دون هذا الإنتماء الوطني والتعبير عنه بلغته ومفرداته، كالمقاومة المسلحة، والفكرية، والثقافية.. لتكون بوصلتها واحدة جامعة دون ريب أو ارتهان.

ستواجه أجيال جديدة من أبناء الشعب الفلسطيني، مأزق السؤال عن الهوية والإنتماء، وسيُدافع البعض عن حقّه بتقديم نماذج الوصول إلى غاية التحرير، لكنّنا سنقف عاجزين إذا ما استمر التخبّط دون تقديم مفردات الإنتماء الحقيقية وممارستها، لنبلغ غايتنا بتوحيد الهوية الفلسطينية جغرافياً وسياسياً وثقافيا.

*كاتب فلسطيني


وسوم :
, , , , , , , , ,