خذوني إلى “حطّين” يا جدي

التصنيفات : |
نوفمبر 24, 2021 11:29 ص
مُخيّم الجليل/بعلبك

*بسّام جميل

أقفُ أمام باب بيتي المُعتم ولا يمكنني الفرار من أصوات جيراني، وأولاد المُخيّم.

كان جديّ معتاداً على هذا الضجيج، ويسألني إذا كنت سأذوب في دوامة المُخيّم، فأصبح مشاكساً كأقراني أم لا!

اعتدت الجلوس في غرفة الإستقبال أيّ “الصالون” الذي يطلّ مباشرة على الشارع، حيث أنّ وجود الباب الحديدي من عدمه لا يؤثّر في المشهد، فالشارع وعابروه هم جزء من الروتين اليومي داخل هذه الجغرافيا الضيقة، كأنّهم لوحة فنيّة متغيّرة، تعرض أمام جدي أحوال أبناء المُخيّم في سعيهم إلى أشغالهم أو في عودتهم منها.

حتى الكُرة، التي لا يُعيرها أيّة أهمية، هي أيضاً جزء من تاريخ المُخيّم. الملامح التي تعتلي وجوه الصغار وهم يطاردون أقرانهم.. وكلّهم يطاردون هذه الكُرة في الزواريب.

ربما هي العادة التي ترافقت مع  اللجوء أو أنّها تراث حمله اللاجئون معهم، أن يُترك باب البيت مفتوحاً طوال ساعات النهار وأن يتغيّر الضيوف باستمرار، فبين سلام عابر وضيف ثقيل، سعيد بمَدد الضيافة المستمر من المضيف، ينقضي نهارُ جدي ونهاري.

تُرحّب الأزقة والزواريب بضيوفها أيضا، فليس البيت وحده من يملك الصلاحية لاستقبال الضيوف. أجدُهم في عصر كلّ يوم، يتوزّعون أمام بيته أو على ناصية الزقاق الضيّق، فيُتلى السلام أكثر من القصص التي يمكن أن يتشاركها الجالسون.

للنساء جلساتهن، وللرجال فكاهة الأرصفة والمقاهي. أما نحن، أنا وأبناء جيلي، فنُمضي النهار في أعمالنا أو في البحث الجادّ عن عمل.

للمُخيّم جدران فرنسية المنشأ تقيّد حدوده، غير أنّ ذاك البناء الضخم الذي يتوسط المُخيّم، يجمع الكثير من حكايات اللجوء والحب والحياة.

أن نعيش في ثكنة عسكرية قديمة لا يعني أن طباعنا قاسية ورتيبة، فطيور الحمام المنزلي لا تُفارق سماء المُخيّم، ووجوه رفاقنا من الأحياء القريبة تكاد لا تُفارق المكان.

كان المُخيّم أصغر مما هو عليه اليوم، وكانت الدكاكين التجارية تُعدّ على أصابع اليد الواحدة، لكنّنا اليوم نملك عدة محال في الداخل وواجهة تجارية تمتد على طول واجهة المُخيّم أمام الشارع الرئيس الذي بدوره يُعتبر المدخل الجنوبي لمدينة بعلبك.

ربما هي الصداقة أو انخراط الجيل الأول من اللاجئين في التعليم، جعلهم أقرب لمُحيطهم اللبناني، وهذا ما دفع بالألفة لأن تُفسح المجال ليتساهل الناس في اندفاع أبناء المُخيّم على فتح المحال التجارية، ليُصبح مقصداً للجميع بما توفّر فيه من بضائع.

عندما تمّ حفر أول بئر للماء في المُخيّم، كان واجباً على أهله أن يمنحوا جيرانهم حصتهم من الماء. وعندما أدركها الجفاف، صار واجباً على الجيران أن يساعدوا بجلب الماء إلى المُخيّم، لكنّ الدولة لم تُحرّك ساكناً حتى يومنا هذا، فلا ماء إلا ما تجود به آبار عطشى.

تعود بي الذاكرة إلى الأعراس التي كانت تُقام في المُخيّم، وكيف كان يحضُر إلينا العديد من الناس ليشاركوننا أفراحنا، فنستطيع أن نميّز الضيف في الدبكة التي تُنصب في الساحة من “السكّان الأصليين”، نقرأ حركاته ونعرف حماسته بمقدار العرق الذي يتصبّب من جبينه. وبدل الرصاص في الهواء، كانت الزغاريد تعلو من كل بيت أو من على ظهور الأسطح.

مات جدي، وتبعه كثيرون. تغيّر الحال وأصبح العرس رصاصاً يقتل ضحاياه بشكل عشوائي، ولم يعد للطريق رفاق يؤنسون وحدته، وكلّ البوابات تُغلق، حتى البوابة الرمزية للمُخيّم. 

لا تزال الجدران الفرنسية قائمة، والزواريب أخذت بالتكاثر، لكنّها تكاد لا تُرى بين زحام فوضى البناء، وضاقت السماء رغم اتساع جناحيّ الحمام ورفيفه.

تقفز الحكايات في وجهي حرفيا، أشيح بنظري عنها وأمضي إلى بيتي المُعتم، لكنّني أبقى عالقاً بلا مفرّ بين سماع أصوات جيراني وأولاد المُخيّم، واستحضار جدي وهو يُعيد عليّ سؤاله: هل ستذوب في دوامة المُخيّم وتصبح مُشاغباً؟!

ربما كنت أريد أن أُبقي على بابي مفتوحا، وأن أشاهد اللوحة التي لا تكف عن بثّ معانيها المُتغيرة، لكنّني أريد أن أعود إلى “حطّين” يا جدي، وهناك لربما أذوب في نشوة عودتي وأنسى الأبواب ومفاتيحها.

“يبقى المُخيّم وحده من يملك مفاتيح الحكايات التي لا تنتهي ولا تُؤجل، بل تنتظر من يسردها بإسمه وإنْ غاب عنه أو ابتعد”، يقول جدي والإبتسامة تُضيء ملامحه في ذاكرتي وأبادله الإبتسام.

*مخيم “الويفل” للاجئين الفلسطينيين أو “مخيم الجليل” هو في الأصل ثكنات عسكرية فرنسية. وقد وفّرت تلك المباني الإثنا عشر الملجأ للفلسطينيين القادمين من نكبة 1948.

يبعد مخيم “الويفل” 90 كيلومتراً إلى الشرق من بيروت في وادي البقاع، بالقرب من مدينة بعلبك. وفي عام 1952 تسلّمت “الأونروا” مسؤولية تقديم الخدمات في المُخيّم.

*كاتب فلسطيني


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , , ,