قوانين كيّ الوعي وطمس الذاكرة من الشجر إلى البشر.. أحياء وأموات

التصنيفات : |
نوفمبر 29, 2021 1:39 م

*وسام عبد الله

أثناء مشاهدتنا جرّافات الاحتلال تُنفّذ مهامها بتدمير بيوت عوائل الشهداء واقتلاع أشجار الزيتون، نوقن أنّ هذه ليست أداة لمهمة محددة، إنّما تُمثّل الجوهر الأبعد لتعاطي العدو مع الأرض الفلسطينية بحجرها وبشرها وشجرها، بسياسة الإقتلاع وإعادة البناء.

التشجير الإستيطاني

في المؤتمر الصهيوني الخامس الذي عُقد عام 1901 في بازل/سويسرا، صدر القرار بإقامة “الصندوق القومي لـ”إسرائيل”” وحُددت وظيفته كمؤسسة مسؤولة عن شراء أراضٍ في فلسطين “بإسم الشعب اليهودي ولصالحه”، وقام الصندوق منذ إنشائه، بزراعة ما يقارب 240 مليون شجرة على مساحة تُقدّر بحوالي 920 ألف دونم. فما الذي أراد تحقيقه من خلال زراعة الأشجار؟

الهدف الأول، يتمثّل بإعادة تشكيل البلاد بما يتناسب مع الدعاية الصهيونية الدينية قبل إنشاء الكيان، من خلال دعوة اليهود إلى “أرض الميعاد”، فالاحتلال هَدَم قرى يالو وعمواس وبيت نوبا، بذريعة نصّ توراتي يتحدث عن مواجهة بين “النبي يوشع” وملوك كنعان حدثت في هذا المكان، فقام ببناء غابة “بارك كندا”، في ذات المساحة، تكريماً لمُمولين كنديين ساهموا في بنائها من أموالهم. فدُمّرت المباني التاريخية وهُجّر سكانها.

الهدف الثاني، خارجي، إعادة الصياغة ليس من منطلق ديني فقط، بل تغيير البيئة لتتناسب مع المستوطنين القادمين من دول (الكثير منها لا يشبه طبيعة فلسطين) وهو ما يُفسّر إهتمام الإنتداب البريطاني بعمليات التشجير.. إختار نوع أشجارٍ مثل الصنوبر، ودعمَ زراعتها في أعالي جبالٍ لا تحوي صنوبريات، فكانت الدعاية متناسقة بين الأسطورة والتنفيذ، بأنّ فلسطين أرض خالية، يتمّ إعادة الحياة إليها بما يتناسب مع الروايات التوراتية وتهيئة المكان من جديد.  

الإجراء العسكري هو الهدف الثالث، فتوزيع الأشجار على محيط المناطق يُشكّل حدوداً واضحة كما يُحدّد المساحة التي تبدأ وتنتهي بها، أي إعادة التحكم بالجغرافيا، هذا “السياج الأخضر” هو عائق وحاجز لتقدّم المقاومين وأمام تنقلاتهم في المواجهات المباشرة مع الاحتلال.

التدمير المُمنهج بقوانين

لا يريد “الإسرائيلي” أي أثرٍ لفلسطيني على وجه الأرض ولا تحتها، حتى لو كان هيكلاً عظميا، فهو يُشكّل دليلاً نابضاً وإن كان ميتا، وإثباتاً باستطاعته دحض الرواية الصهيونية. لذا، عمل الاحتلال على تدمير المقابر الفلسطينية بشكلٍ مُمنهج ومستمر منذ اللحظة الأولى.

في الإعتداءات الأخيرة وليس آخرها، قامت سلطات الاحتلال بعمليات تدمير وتجريف في المقبرة “اليوسفية” الواقعة في جوار المسجد الأقصى، تحت مُسمّى”سلطة الطبيعة”(1).

وكما الحال في اقتلاع الأشجار، كذلك في تدمير المقابر، يتركز الهدف بسرقة الهوية وإعطاء الموتى تاريخاً مغايراً يكون عنوانه الأساسي: “العظام تعود ليهود”.

إنّ مهمة المؤسسات الرسمية تنفيذ العمليات بهدف إعطاء صبغة قانونية لعملها، فالإستيلاء على المقابر من اختصاص قانون “أملاك الغائبين” بالتنسيق مع هيئة الآثار، الجهة المانحة لتراخيص الهدم، لتُنفّذ الجهات الأمنية والبلدية المهام الموكلة لها. فيتمّ جرف ما تحت المقابر وتحطيم الشواهد الحجرية، وفي معظم الحالات يتمّ إخفاء المعالم إما ببناء الحدائق والتشجير أو تشييد المباني والمستوطنات، مثل مستوطنة كفار شاليم التي أُقيمت فوق مقبرة سلمة.

القرى الفلسطينية.. كانت هنا

لا يُخفى على عاقل، أنّ إخفاء وجود المراكز الحضرية على أرض فلسطين، هو تفكير صهيوني إستراتيجي يهدف إلى مسح القرى، بأسمائها ومعالمها وحجارتها.. من الوجود والذاكرة الجمعية، للأجيال الفلسطينية وخاصة اللاجئين، حين يتمّ إخبارهم عن قريتهم، لا يكون لها أثر لا بالإسم ولا بالوصف، وهذا المسح لا يستهدف الفلسطيني فحسب، بل يتجاوزه إلى الوعي “الإسرائيلي”، لمنع ترداد السؤال لدى عامة المستوطنين، حول صدق رواية المحتل عن الأرض الخالية من الشعب (يبلغ عدد القرى المدمرة في زمن النكبة وحدها، أكثر من 400 قرية خلّفت هجرة حوالي 750 ألف فلسطيني).

إنّ التدمير المُمنهج، لاحتلال المكان، وإحلال أناسٍ غرباء فيه، ومنع عودة المهجّرين إليه، يتطلب إعادة تسمية الأماكن بلغة مختلفة ومنحها هوية جديدة. لذا، فإنّ لجنة “التسميات الحكومية في “إسرائيل”” مهمتها تسمية المستوطنات والقرى والشوارع والمعابر وغيرها من المناطق الجغرافية، وتضمّ في عضويتها خبراء في الآثار والتاريخ وعسكريين ومختصّين باللغة العبرية. بحيث تصبح أسماء المدن والقرى الفلسطينية، إمتداداً للتاريخ الديني التوراتي واللغوي (العبرية)، لصناعة الوهم بأنّ هذه الأرض، أرض فلسطين هي إمتداد لتاريخهم، منذ “السبي البابلي” وحتى الآن.

تبني حكومة الاحتلال سياستها على قاعدة الإستيلاء على الأراضي، وتحويلها إلى مستوطنات، وما يُفسّر استمرار هذه العملية منذ ما قبل النكبة حتى اليوم، من مصادرة الأملاك ورفض تصاريح البناء إلى منع التنقل وتضييق الخناق من خلال المعابر.. هو القلق الوجودي لدى العدو من الديمغرافيا الفلسطينية، وليس فقط الخوف من التعداد السكاني المجرد، فهذا الإزدياد المضطرد في عديد الشعب الفلسطيني يعني أجيالاً تتوالى في الدفاع عن القضية. 

*كاتب لبناني

(1) هي منظمة تابعة لحكومة الكيان، تدير المحميات الطبيعية والمتنزّهات في فلسطين المحتلة والجولان المحتل وتعمل على تطبيق قوانين الحياة البرية من منطلقها.


وسوم :
, , , , , , , , , , ,