مُخيم جِنين تاريخ من النضال من الإنتداب إلى الاحتلال

التصنيفات : |
ديسمبر 3, 2021 10:30 ص

*سنان حسن

لا يكاد يمرّ يوم من أيام فلسطين تحت الاحتلال الإسرائيلي إلا ولأبناء جِنين ومُخيمها نصيب من الأخبار الواردة عن كفاحهم وصمودهم وبطولاتهم ومقاومتهم لهذا المحتل الغاصب، حيث شكّل المُخيم منذ انتفاضة الأقصى أيقونة في النضال والكفاح وبات العدو يحسب ألف حساب قبل أن يتّخذ قراراً بالدخول إليه لاعتقال مقاوم أو ناشط من بيته، ولعلّ ما قاله أحد الصحفيين “الإسرائيليين” بُعيد مجزرة 2002 الشهيرة ما يؤكد ذلك: “ما الحمض النووي الذي يميز أبناء مُخيم جِنين عن باقي المناطق”.

فما قصة هذا المُخيم الصامد.. وكيف استطاع أبناؤه تحويله إلى عاصمة للمقاومة في الضفة الغربية.. ولماذا يتهيّب العدو عشّ الدبابير عند الحديث عن اقتحامه..  ماذا عن أبطال المُخيم، هل سيكون لهم شرف إطلاق شرارة الإنتفاضة الثالثة؟.

اللجوء الأول

كغيرهم، من أبناء فلسطين، الذين هُجّروا من منازلهم وبلداتهم وبيّاراتهم، إختار القادمون من 66 قرية من الكرمل وجبلها _قضاء جِنين_ ليكون مأواهم هرباً من عصابات الهاغاناه وجرائمها، حيث استأجرت وكالة الغوث والجيش الأردني أرضاً مُطلة على سهل ابن عامر بالقرب من محطة القطارات التركية القديمة لتكون مُخيماً لهم، وقامت بتجهيزه بالخِيم وما إلى ذلك من مقومات الحياة، بمساحة حوالي 372 دونما، اتّسعت إلى حوالي 473 دونماً لاحقا.

أما عدد السكان فبلغ عام 1967 حوالي 7.019 نسمة، وفي عام 1995 ارتفع العدد إلى حوالي 17,447 نسمة، وفي عام 2005 أصبح 25,447 نسمة. ويُعدّ ثاني أكبر مُخيم في الضفة الغربية، بعد مخيم بلاطة، ويسكنه حالياً ما يقارب 27 ألف نسمة.

جِنين مُلهمة فلسطين

تُعدّ جِنين وقراها وبلداتها “المُلهِمة” لباقي مدن وبلدات الضفة في الكفاح والنضال ضد المحتل الإنكليزي، وتالياً المغتصِب الإسرائيلي، حيث قطن فيها المجاهد السوري عزّ الدين القسّام الذي قدِم من مدينة جبلة إلى فلسطين للدفاع عنها، فقد نفّذ العمليات ضد المحتل الإنكليزي منطلقاً من جبال جِنين وكرومها ومتنقلاً بين برقين ويعبد وكفر قود.. قبل أن يستشهد هو ورفاقه بعد محاصرتهم من قبل الإنكليز في بلدة نزلة الشيخ زيد، وكانت حينها جِنين أيضاً معقلاً مهماً لثورة 1936.

ويوجد في بلدة قباطيا نصب تذكاري لشهداء الجيش العراقي الذين قاتلوا في جيش الإنقاذ عام 1948، والأمر ذاته كان في الإنتفاضتين الأولى والثانية حيث نفّذ أبطال المُخيم العديد من العمليات الإستشهادية في عمق مدن الكيان الغاصب مُخلّفة مئات القتلى والجرحى في صفوفه، الأمر الذي حوّل مُخيم جِنين إلى برميل بارود بوجه المحتل الإسرائيلي وقواته الأمنية.

مجزرة مُروّعة

في آذار من العام 2002، نفّذ عبد الباسط عودة عملية إستشهادية في فندق بارك في نتانيا غرب طولكرم أدّت إلى مقتل 38 إسرائيلياً وجرح 134 أخر، الأمر الذي دفع حينها رئيس وزراء العدو المجرم أرييل شارون إلى إطلاق عملية “السور الواقي” ضد المقاومين الفلسطينيين في الضفة الغربية، وبالتحديد مثلث الرعب جِنين وطولكرم ونابلس، حيث كان لمُخيم جِنين النصيب الأكبر من المواجهة، وأيضاً النصيب الأكبر من الشهداء والأسرى والمهجرين من المُخيم، بعد معركة بطولية خاضها أبناء المُخيم دفاعاً عن وطنهم فلسطين الذي اختزله المُخيم بأبنائه ومقاوميه، وجعلوا العالم يشاهد وحشية العدو وضعفه وخوفه من عشرات الفدائيين، الذين سطّروا بأسلحتهم البدائية أروع البطولات والمعارك في مواجهة جيش مُدجّج بكل أصناف العِتاد العسكري المتطور.

لم يوفّر المجرم شارون ووزير حربه شاؤول موفاز على مدى 11 يوماً وسيلة ممكنة إلا واستخدماها لتدمير المُخيم على رؤوس قاطنيه، من طائرات مروحية ودبابات ومدفعية ووحدات خاصة. وفي النهاية، هدّد بقصف جِنين بطائرات أف 16 قبل أن يتمّ القبول بواسطة وحل مشكلة المقاومين في البقعة الأخيرة المحاصرة من المُخيم، فكانت الحصيلة النهائية إرتقاء 63 شهيداً بينهم 23 مقاوماً أبرزهم: القائدان محمود الطوالبة وأبو جندل، إضافة إلى جرح وتشريد العشرات من أهالي المُخيم وأسر العشرات من أبطال المُخيم الذين أصبحوا لاحقاً قادة الحركة الأسيرة في سجون الاحتلال، وتدمير 455 منزلاً تدميراً كاملا، و800 منزلا تدميراً جزئيا.

في المقابل، إعترف العدو الإسرائيلي بمقتل 23 جندياً إضافة لإصابة ما يقارب 150 من جنوده بجروح متفاوتة وأعطاب وتدمير عدد من الآليات العسكرية.

لجوء ثاني

بعد المجزرة التي ارتكبها شارون في مُخيم جِنين وما حصل خلالها من تدمير ممنهج للمُخيم وبيوته، ورفض السماح للطواقم والبعثات الدولية، وخاصة الطبية والإنسانية، دخول المُخيم لإجلاء الضحايا والشهداء الذين دُفن بعضهم تحت أنقاض المنازل؛ جمع جنود الاحتلال الأهالي في الساحات واعتقلوا الشبان والرجال وشرّدوا النساء والأطفال والمسنين وأرغموهم على مشاهدة أبنائهم وأزواجهم يخضعون للتفتيش العاري والإعتقال، بينما شُرّدوا إلى ما بعد المجزرة ولأكثر من عامين، إلى مدينة جِنين والبلدات المجاورة، في منظر أعاد إليهم صور النكبة وهم يُجبرون على الخروج بين الدبابات والجنود رافعين الرايات البيضاء، بعدما دُمرت كل مقومات حياتهم واعتُقل كل رجالهم، وبعضهم نجا من الموت بأعجوبة..

جريمة نازية 

ما حاولت قوات الاحتلال الإسرائيلي إخفاءه عن العالم عبر التعتيم الإعلامي، الذي حاولت فرضه على عملية اقتحام المُخيم، كشفته معاينات الشخصيات التي زارت المُخيم بعد فكّ الحصار، والتي جزمت بأنّ ما حصل يرقى إلى جرائم حرب.

قال خوسيه ساراماگو (الروائي البرتغالي الحائز على جائزة نوبل للأدب)، أثناء زيارته لفلسطين خلال الإنتفاضة الثانية: “هناك أشياء تمّ فعلها من الجانب الإسرائيلي تحمل نفس أعمال النازي في معسكر أوشفيتس.. إنّها أمور لا تُغتفر يتعرض لها الشعب الفلسطيني”.

بدوره، قال خوان غويتسولو (الكاتب والمستشرق الإسباني) والمناصر للقضية الفلسطينية: “كيف يُفسّر حقّ الدفاع عن النفس بأنّه إرهاب، والإرهاب دفاع عن النفس!! إنّي أستطيع أن أُعدّد دولاً تمارس الإرهاب، و”إسرائيل” هي إحدى هذه الدول ويجب أن لا نساوي بين القاتل والضحية”.

أمام هذه الشهادات والكثير غيرها، جاء تقرير الأمم المتحدة الذي أعدّه كوفي أنان، بناءً على قرار الجمعية العامة في 7 أيار 2002 وفريق تقصّي الحقائق، مُجحفاً بحقّ أهل المُخيم وبطولاتهم حيث ساوت فيه اللجنة بين بطش قوات العدو المهاجمة والمقاومين الذين دافعوا عن المُخيم.

في العقل الإسرائيلي

لطالما شكّلت المُخيمات الفلسطينية في الداخل والخارج، عقدة مزمنة للقيادات الإسرائيلية حيث سعت بكل طاقاتها لأن تستهدفها وتلاحق الناشطين والقيادات فيها. ولعل ما جرى في لبنان وسوريا مؤخراً ما يؤكد ذلك، إذ يقول المتطرف الصهيوني بني آلون (رئيس حركة موليديت التي أسّسها المجرم رحبعام زئيفي صاحب نظرية الترانسفير والتطهير العرقي): “إنّ كل عملية عسكرية لا تنتهي بتفكيك مُخيمات اللاجئين الفلسطينيين ستكون على الدوام قد انتهت بشكل مبكر جداً”، من هنا نستطيع فهم ما جرى في مُخيم جِنين من وحشية تفوق كل التصور “حتى يتمكن من تدمير المُخيم”.. وأي رمزية له في وجدان الفلسطينيين.. ولكن هل نجح؟ بالتأكيد لا.

توارث الراية

فأثناء معركة سيف القدس الأخيرة، والتي انتصرت فيها المقاومة في غزة.. للأقصى وسكان حي الشيخ جرّاح، سجّل مُخيم جِنين إمتيازاً غير مسبوق منذ الإنتفاضة الثانية، حيث عقدت فصائل المقاومة من مُخيم جِنين مؤتمراً صحفياً حذّرت فيه العدو الإسرائيلي أنّ الزمن تغيّر وأنّ ما بعد سيف القدس لن يكون كما قبلها، ودعت غرفة العمليات المشتركة في المُخيم أجهزة أمن السلطة برفع اليد عن المقاومة وترك المقاومين يقاتلون الاحتلال الإسرائيلي، مشيرين إلى أنّهم لا يطلبون منهم أي عون أو سند.. ومتوعدة الاحتلال في حال أقدم على اجتياح المُخيم إذ صرّحت: “إنّ في المُخيم أشبالاً يحبون الموت كما تحبون الحياة”.

ولكنّ النقطة الأهم في كل ما جرى، أنّ من توعّد وهدّد واستُشهد لاحقاً في جِنين وبرقين هم من أبناء أبطال هذا المخيم، الذين ارتقوا شهداء خلال معركة المخيم في الـ2002 أو أُسروا بعدها، ما يعني أنّ جذوة الكفاح ومقاومة الاحتلال مستمرة رغم كل ما قام به العدو من إجرام.

ولعلّ ما قاله “شاعر فلسطين الأول” سميح القاسم يختصر قصة مخيم جِنين:

“ربما تسلبني آخر شبر من ترابي،

ربما تُطعم للسجن شبابي،

ربما تسطو على ميراث جدي،

من أثاث.. وأوان.. وخواب،

ربما تُحرق أشعاري وكتبي،

ربما تُطعم لحمي للكلاب،

ربما تبقى على قريتنا كابوسَ رعب..

 يا عدوَّ الشمس.. لكن.. لن أساوم،

وإلى آخر نبض في عروقي.. سأقاوم”.

*كاتب سوري


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , ,