عِبرة الحَصى

التصنيفات : |
ديسمبر 8, 2021 11:50 ص
الطالب الراحل مهران خليلية

*بسّام جميل

في زيارة لرئيس الوزراء الفرنسي السابق ليونيل جوسبان إلى جامعة بيرزيت عام 2000، سمعنا الصوت يدافع بالحجر.

الرمز.. حجر يُدلّل على ثورة الوطن بأكمله في انتفاضاته، فكانت الحَصى صوت طلبة الجامعة ليُعبّروا عن رفضهم لهذه الزيارة التي سبقتها تصريحات لرئيس الوزراء، أدانت المقاومة اللبنانية في جنوب لبنان، ونعتتها بـ”الإرهابية”.

منذ أيام، في جامعة شقيقة، كان النزال حاسماً بالحجر والدم. الضحية: أخ، إبن، خال، عم. الخبر الحزين لم ينتهِ بعد، لتولد شرارة الغضب، وأيّ غضب!

لنأتيَ به، خبراً قصيراً على صفحاتنا، ولنَعبرَ به إلى أشلائنا اليومية، دون جدال أو نقاش، فالأمر كاد أن يصبح حدثاً يوازي يوميات حواجز الاحتلال، ولا مبالغة في ذلك، إذا ما أخذنا بعين الإعتبار، الأثر المترتب على هذه الأحداث التي تراكم الإنشقاق وتُعزز جاهلية القبيلة.

مهران خليلية

طالب الجامعة العربية الأميركية، ضحية صراع مناطقي، بحسب بعض وسائل الإعلام، وفي المشهد، إتهام لشاب يعمل كمُنسّق لحركة الشببية الطلابية التابعة لحركة فتح، إثر شجار بين الطلبة وحصيلة من الإصابات. فهل كان إشكالاً وليد اللحظة، أم أنّه نتاج تراكمات بدأت تتجذّر بعد الإنقلاب الذي قامت به حماس في غزة عام 2007؟

نعود إلى الوراء أكثر، لنتذكر أنّ العديد من الجامعات في فلسطين، ليست وليدة عصر السلطة الفلسطينية، بل سبقت ذلك بعشرات السنين، من حيث التأسيس الأول، قبل أن تصبح جامعات مرموقة، لا على مستوى فلسطين فحسب، بل على مستوى الشرق الأوسط والعالم، كما تمّ تصنيف بعضها عالميا، كجامعة بيرزيت.

إنّ منابر التحصيل العلمي ورفد الثورة والمجتمع، بأهم الكوادر المهنية والنضالية المقاومة، ليرتقيَ هذا الصف القائد بالجموع، تتحول إلى ساحات صراع، حزبي حيناً وعشائري أكثر الأحيان بتزكية من “الخصوم السياسيين”.

لعلّ في الأمر التباس ما، فلا يمكن لمثل هذه الصروح أن تنتجَ هذا التعصب من اللاشيء، لكنّ الأمور أوضح من أي اجتهاد حيادي يُنصف المشهد وضحاياه. نحن، وما سيكون عليه مستقبل هذا الوطن وشعبه.

في كل جامعات العالم، يتمّ تنشيط الرابطات الطلابية وإنتخاباتها، لتؤسس للوعي المجتمعي، والإشتباك في قضايا الإختصاص وانعكاساته على المجتمع. وبدورها، هذه المنافسة، تُهذّب أخلاقيات الطلبة بالنقد والنقد المضاد، على أساس رفع مستوى الخطاب والإشراك في عمليات التنوير الأكاديمي، ليصطفيَ منهم، بطبيعة الحال، من يستطيع أن يُمثّل مصالح الطلبة والصرح التعليمي. لا ننسى التمثيل السياسي لأطياف المجتمع من خلال ضمّ هؤلاء الطلبة من مختلف المناطق والتوجهات والطبقات الإجتماعية. بهذا، يتكون لدى هذه الجموع الفتية، مُقومات بُنيوية تؤهّلهم ليصبحوا كوادر فاعلة في مجالات اختصاصاتهم وفي خدمة مجتمعهم.

ما الخلل الذي أودى بنا إلى ما نحن عليه؟!

مرّ عقدان من الزمن، ونحن في صراع مستمر على محاصصة باهتة تحت نير احتلال أخذ يُحرّك المشهد دون أي تكلفة تضيره ومنظومته الأمنية، فالأشقاء واضحون في نقاط الخلاف والإختلاف، في التصنيف والإصطفاف، كأحزاب وعشائر، ليصبحَ الخلاف داخل العائلة الواحدة، بحسب التيار السياسي الذي ينتمي إليه أفرادها.. وداخل الفصيل والحزب الواحد. مدن وقرى، ثم عائلات تنشقّ على ذاتها، وتهدم البُنيان المجتمعي لأتفه الأسباب. ليس أقلها إستسهال العنف والسلاح المُتفلّت والمدعوم أمنياً بطبيعة الحال.

هل كان هذا ليحدثَ قبل الإنقلاب في غزة، وإندفاع المتصارعين الكبار (فتح وحماس) ومن يخضع لتأثيرهما في منظمة التحرير وخارجها؟!

بكل تأكيد، هذا ما حدث ويحدث، في بيئة تحكمها العشائرية على إمتداد فلسطين التاريخية، وليس فقط في الضفة والقطاع. أما المعالجات الأمنية، فقد عززت من هذه الظواهر ومنحتها الشرعية اللازمة لتتمّ مهمة التّشظي، المبارَكة من عدو يُهلّل لكل اقتتال وخلاف، فيسهل تصاعد خطاب التخوين ويجعل الساحات مفتوحة لتصفية الحسابات، حتى الخلافات الشخصية أخذت تتحول بسرعة مرعبة، إلى اصطفاف حزبي وعسكرة مشروعة، وبدأت تستهدف الصروح العلمية، وربما سنشهدها في دور العبادة، كلها مؤشرات خطيرة تضعنا أمام مشهدية حرب أهلية خاضعة لمصالح الاحتلال!

لنا، في ما يعايشه المجتمع الفلسطيني في فلسطين التاريخية، عبرة لمن أراد أن يقرأ سيرة نضال الفلسطينيين منذ النكبة حتى يومنا هذا، وبعد تحصيلهم لبعض الحقوق في دولة الأبارتهايد. وإذا اتّخذنا من المدن العربية مقياساً لنُحدد به مقدار التهميش الأمني في أي صراع فلسطيني – فلسطيني داخل هذه المدن، يصبح التورّط بالقضايا الأمنية الكبرى التي تُعنى بأمن هذا الكيان “اللقيط”.. أمراً محسوما.

نحن شعب يخضع لاحتلال مباشر، ويُمنح هامش ضيّق لإدارة ذاتية، ويُرمى بالشقاق بين مكوناته، ثم يُقدَّم له السلاح لتدمير البنية الإجتماعية وخلق الفتنة (حادثة الطالب مهران خليلية أسوأ مثال)، دون أن يكون قادراً على زعزعة أمن المُحتل.

بين الضفة المشرذمة والمدن العربية في الداخل المحتل، أوجه التشابه أكثر من أن نَحيدَ عنها، لنخلصَ إلى نتيجة واحدة: إقتلاع من سيبقى في نهاية هذه اللعبة الدموية وبأي ثمن. والعبرة في الخواتيم.

*كاتب فلسطيني


وسوم :
, , , , , , , , , , , , ,