فراشات وطائرات ورقية: التحليق والطيران في أدب الأطفال الفلسطيني المُصوَّر

التصنيفات : |
ديسمبر 16, 2021 2:14 م

*لؤي وتد

خلال بحث سابق عن صور جدار الفصل والضم وتمثيله في أدب الأطفال الفلسطيني، لاحظت ظاهرة متكررة باستمرار في طريقة التعامل مع الجدار؛ ففي الكثير من قصص الأدب الفلسطيني، الصادر في جميع أنحاء فلسطين، يكون التعامل مع الجدار بصفته صلبا، واقعياً وثابتا، حتى في النصوص الخيالية، لكنّه جدار قابل للعبور والإختراق. ويكون إختراق وعبور الجدار  في هذه النصوص في معظم الأحيان بواسطة الطيران أو التحليق.

وتظهر في وجه الجدار والحواجز، القامعة لحرية الفلسطيني في التنقل بين مختلف أجزاء فلسطين، مخلوقات ووحوش خرافية وأسطورية قادرة على الطيران؛ تنانين، وبيغاسوسات (أحصنة مجنحة)، وجنيّات، تظهر كثيراً في هذا النوع من الكتب، أداةً وطريقةً شرعية لعبور الجدار واختراقه. لكنّ الموضوع لم يكن محصوراً بالمخلوقات الميثولوجية؛ فقد ظهر في هذه الكتب أيضاً الكثير من الطائرات الورقية والفراش.

عندها بدأتُ بجمع هذا النوع من الأدب؛ أولا، أدب خيالي سياسي يذكر الجدار الفاصل، ثم أدب يذكر مخلوقات طائرة متعددة، من مخلوقات ميثولوجية وحتى طائرات ورقية وفراش، لكنّني لم أتطرق إلى القصص التي تذكر العصافير، حصريا، كون معظمها لم يتمركز في الطيران فكرةً أو ثيمة، بل في العلاقات الإجتماعية بين الطيور؛ وفي نهاية المطاف إخترت 10 نصوص من مجموع 72 كتاباً تتطرق إلى الطيران أو التحليق، صادرة في العشرين عاماً الأخيرة. أربعة من الكتب المختارة صدرت داخل حدود ما يُعرف بـ”الخط الأخضر”، تحديداً في كفر قرع والناصرة، والستة الأُخرى صادرة في الضفة الغربية، تحديداً في بيت لحم ورام الله. بعد قراءة ثيماتية تحليلية للنصوص، إستخلصت ثلاث ثيمات مركزية ظهرت متكررة، في معظمها.

التحرّر الجندري والجغرافي والتكنولوجي

الثيمة الأولى والإطار المركزي المشترك  للكتب كافة، كان التطرق إلى قضية الحرية والتحرر؛ قضية كان التعامل معها في سياقات عديدة، يعود تصنيفها في النهاية إلى ثلاثة أنواع:

التحرّر الجندري من الذكورية والأبوية، حيث تظهر وجهات نسوية ربطت بين السياسي والجندري – الإجتماعي بصورة مبدئية. في هذه الثيمة، نجد نقداً داخليا، يتمثل في نقد النزعات الذكورية والأبوية في المجتمع الفلسطيني عموما. أحد أبرز الأمثلة لهذا النوع من النقد يظهر في كتاب “التاء المربوطة تطير” (إبتسام بركات وحسني رضوان، 2011)، والذي ينادي بتحرير أحرف اللغة العربية أداةً لتحرير المتحدثين بها. ينادي الكتاب بتحرير التاء المربوطة: “فُكّي قيدي يا زهرة، أحلم أن أصبح تاءً حرةً! يصير زهراً كثيراً وليس فقط زهرة!”. كذلك كتاب “فراشة الناصرة” (نبيلة إسبنيولي وعبد الله قواريق، 2020)، الذي يحكي قصة إبنة الناصرة الشاعرة الفلسطينية مي زيادة. يدّعي الكتاب أنّ لغة زيادة وشعرها مكّناها من التحليق في سماء المنطقة العربية لتتغلب على القيود، رغم سيرة حياتها المركبة. كلا الكتابين يعرضان تحرُر الأنثى بواسطة الحوار النقدي مع اللغة العربية، وتوظيفها لغةَ مكان متحرّرة من القيود.

التحرّر الثاني هو التحرّر الجغرافي أو السياسي – الحدودي؛ نجد فيه نقداَ لاذعاً وحاداً للحدود الإسرائيلية القامعة بصورة خاصة، وللحدود الدولية بصورة عامة. هنا نجد أنّ النقد يتمركز في الإعتراض على جدار الفصل والضم، وعلى قمعه حرية تنقُّل الطفل الفلسطيني. في بعض الكتب نجد الحدود والقمع يؤثّران بشكل مباشر في أحلام وآفاق الطفل الفلسطيني ويحدّانها؛ لذلك نجد في معظم الكتب تطرُّقاً إلى السماء ملجأً مجازياً وفعلياً للهروب أو التسامي فوق الحدود. الطيران والتحليق في السماء، فوق الحدود، يصبح الأداة المركزية للتحرّر من القيود.

في “التاء المربوطة تطير” نجد التاء، لحظة تحرّرها، تطير في السماء مع العصافير، ونرى تحتها في الرسومات الكثير من المباني والمعالم المألوفة التي تميز المنطقة العربية، كأنّ الحدود بينها تلاشت، حيث تجاورت الأهرام وقبّة الصخرة وأبراج الكويت. أما في “فراشة الناصرة”، فنجدها تحلّق كذلك فوق دول المنطقةالعربية والدول الأفريقية المختلفة، بعد أن حصلت على أجنحة.

مي زيادة نفسها إبنة لأب لبناني وأم فلسطينية، تلقّت دراستها في الناصرة ولبنان، ثم انتقلت إلى القاهرة مع عائلتها؛ أي أنّ سيرتها الشخصية تكشف ذات الأفكار المعروضة في رسومات الكتاب. توفيت زيادة سنة 1941، أي قبل النكبة الفلسطينية، وهو ما يكشف للأطفال القرّاء صورة معينة للعالم قبل النكبة.

كتاب آخر يعرض هذا النوع من التحرّر هو كتاب “زهر الحنّون” (عزّة يونس العزّة ويوسف كتلو، 2012)، فيه تحمل الفراشات الطفلة ليلى وتطير بها فوق جدار الفصل والضم، لتزور مرج ابن عامر والكرمل وحيفا، وغيرها من الأراضي والمدن الفلسطينية “خلف الجدار”. 

التحرّر الثالث المذكور في الكتب، هو التحرّر التكنولوجي، وهنا لا بد من ذكر أنّ التحرّر ليس من التكنولوجيا بتعريفاتها كافة، إنّما بصورة خاصة من التكنولوجيا الطائرة المسلحة،المتمثلة في الطائرات الحربية. فخشية الطائرات وتمثيلها في صورة الوحوش العاتية تتكرر في الكتب، ومن خلالها يُعرض نقد لاذع لمنظومة الاحتلال والجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية.

في “الطائرة” (زكريا محمد وبشّار الحروب، 2003)، يرى الصبي أمجد طائرة أباتشي تقصف منزلاً بجوار بيته، وفي الليل يحلم أمجد بذات طائرة الأباتشي تطارده. يحاول الهروب والإختباء بالقرب من الجدار، في المنزل، حتى أنّه يقفز في بئر، لكن أين ما يذهب تجده الطائرة وتهدده. وفي نهاية الكتاب يستيقظ أمجد ويقرر صنع طائرة ورقية. تحليق الطائرة الورقية فوق طائرة الأباتشي يجعل أمجد يشعر بأنّه تمكن من التغلب عليها. وفي كتاب “دُوم دُم دُم” (كوثر سعيد ومنار نيرات، 2016)، يعيش آدم في بلد جميل، لكنّه قلق للغاية على بلده بسبب الحرب. في أحد الأيام، يستيقظ آدم على مشهد طائرات مقاتلة تقصف بلده، لكن فجأة يظهر أمامه حصان مجنّح أحادي القرن ذو شعر ملوّن. يأخذ هذا الحصان المجنّح آدم في رحلة عبر المدينة، ويستعمل القرن الذي في رأسه لإطلاق أشعة تحوّل القنابل التي تطلقها الطائرات إلى أزهار تقع على الأرض ولا تسبب أي ضرر.

يمكننا الملاحظة أنّ “الطائرة” تشير بصورة مباشرة إلى سلاح الطيران الإسرائيلي، وأنّ الطائرة الورقية تحمل ألوان العَلَم الفلسطيني، وهو ما يُظهِر أنّ الكتاب موجّه مباشرة لنقد الاحتلال.

بينما الكتاب الثاني “دُوم دُم دُم” يتعامل مع الموضوع بصورة مركّبة أكثر، فلا يذكر أنّ الطائرات “إسرائيلية” في أي مكان من الكتاب، حتى أنّ البطل آدم يحمل إسماً عاماً جدا، لا يدل بتاتاً على هويته الثقافية. قد يكون هذا التجريد لميزات الحالة الفلسطينية في القصة أنّ الكتاب صادر داخل حدود ما يُعرف بـ”الخط الأخضر”، في كفر قرع. على الرغم من هذا، فإنّني أذكر أنّ الأشعة التي يطلقها الحصان المجنّح من قرنه، تتغير من صفحة إلى أُخرى، إذ تبدأ أشعةً بيضاء، ثم خضراء، وفي النهاية تكون حمراء؛ لذلك يمكننا الإدعاء أنّ في هذا رمزية معينة لألوان العَلَم الفلسطيني.

القومية الفلسطينية

الثيمة الثانية هي القومية والوطنية. تتمثل هذه الثيمة في صورتين مركزيتين، هي الوطنية الفلسطينية ومفهوم العروبة. وكما ذكرت، الوطنية الفلسطينية تظهر في معظم الكتب من خلال تطرُّق مباشر وواضح إلى عَلَم فلسطين، من خلال شرح ألوانه، أو استعمالها في تمثيل حل العقدة في القصة، إذ نجد في العديد من الكتب أنّ العَلَم هو الحل؛ فمثلاً في “الطائرة”، وجدنا أنّ الطائرة الورقية التي تتغلب على الأباتشي تحمل ألوان العَلَم الفلسطيني، وكذلك الطائرات التي يُطيّرها الأطفال في كتاب “في فضاء واحد” (مريم حمد وإنصاف الحاج ياسين، 2008).

لكن أكثر من ذلك، نجد العَلَم نفسه بطلًا في كتاب “قصة عَلَم” (عبيدة بلحة ومنار نعيرات، 2017)، والذي يروي قصة عَلَم شفّاف ينطلق في رحلة مع حصان أسود يمكنه الطيران من دون أجنحة، يصلان إلى حقل من شقائق النعمان يحاصره الشوك من جميع الجهات، ويمنع عنه الماء. يساعد العَلَم والحصان شقائق النعمان على التغلب على الأشواك، وشقائق النعمان تشكر العَلَم وتعطيه لونها الأحمر. هكذا يحدث مع الألوان الأُخرى، إذ يساعد العلَم وصديقه الحصان أشجار النخيل الخضراء والحمام الأبيض، ويحصل على لون من كلّ منها. وفي النهاية، يأخذ كذلك اللون الأسود من الحصان، ويتحول العَلَم الشفّاف إلى العَلَم الفلسطيني. وتذكر الصفحة الأخيرة أن هذا العَلَم وهذه الألوان رمز للوطن، وأنها تميّز أعلام بلاد كثيرة، وفي الرسومات نجد أعلام دول المنطقةالعربية كافة، متصلة بعَلَم فلسطين.

كما ذكرتُ سابقا، فإلى جانب الوطنية الفلسطينية، نجد كذلك تطرُّقاً إلى مفهوم العروبة، شاهدناه جلياً في ثيمة التحرّر، عند التطرُّق إلى التحرّر الجغرافي، في “التاء المربوطة تطير”، وفي “فراشة الناصرة”، وغيرها، حيث تُعرض، بوضوح، مقولة إنّ المنطقةالعربية وطن واحد، وإنّ أدب الأطفال ليس فيه ثمة مكان للتفرقة بين دولة عربية وأُخرى بأي نوع من الحدود.

الخلاص الأسطوري

أمّا الثيمة الأخيرة التي أريد التطرُّق إليها، هي ثيمة “الخلاص” أو “الحل”، وهي مذكورة في الكتب كافة التي تطرقتُ إليها في الدراسة، إذ نجد فيها جميعاً محاولة لإقتراح حل معين. بعض الحلول خيالي، وبعضها واقعي مُتخَيّل، لكنّها تتمحور جميعها حول ثلاثة إمكانيات: تربية فراش، وبناء طائرات ورقية والطيران مع مخلوقات أسطورية.

ذكرنا الفراش في “زهر الحنّون” وفي “فراشة الناصرة”، كونه يتمكن من الطيران فوق الجدار ويتميز بقدرته على تجاهُل الحدود وتخطّيها بسهولة. لكن، وتمثيلاً للتطرُّق إلى تربية الفراش في أدب الأطفال، إخترت أن ألجأ إلى كتاب إسرائيلي بالذات، كونه غنياً بالإشكاليات التي تُظهِر الفرق المبدئي بين أدب الأطفال الفلسطيني والإسرائيلي. إسم الكتاب “فراشات الأمل” (تاليا غانئيل غوياه ويولان ميتسغر، ترجمة رندة زريق صبّاغ، 2012)، وصدر في نسخة ثنائية اللغة (عبرية وعربية)، وشمل بالفعل الكثير من الفراشات في هذه الكتب.

يحكي الكتاب قصة الطفل أمير الذي يجد الجدار صدفة، ويحاول أن يفهم ماذا في الطرف الآخر، حتى يسمع أصوات أطفال يلعبون؛ يحدّثهم ويلعب معهم، ثم يربي معهم فراشات عبر ثقب في الجدار. في نهاية الكتاب، يكتشف أنّ صديقه في الطرف الآخر يُدعى كذلك أمير. هذا الكتاب مثال لكتاب إسرائيلي يتضمن مختلف الإشكاليات الواضحة في الرواية الإسرائيلية بشأن الجدار. مشكلة الكتاب المركزية ادّعاؤه أنّ كلا الجانبين متساويان، وأنّ هذه المساواة تسمح للأطفال بطمس الإختلافات بينهم والتغلب عليها بسهولة، ليصبحوا أصدقاء؛ فأمير الإسرائيلي قد يكون أعز صديق لأمير الفلسطيني، لأنّ كليهما طفل. المثير في هذا الكتاب أنّه يستخدم الفراشات أيضا! بعبارة أخرى، قد يأتي إستخدام الفراشات في حجّة سياسية أيضاً من الجانب الإسرائيلي. ومع ذلك، ثمة فرق كبير بين الحجّتين، والذي يزداد حدّة كلما قرأنا المزيد من أدب الأطفال الفلسطينيين، والذي لن تجده أبداً يساوي بين الطرفين؛ ففي النهاية، لأحدهم طائرة أباتشي وللآخر طائرة ورقية.

تؤدي الطائرات الورقية دوراً مشابهاً جداً للفراشات في الأدب الفلسطيني، لكن يمكن أن نضيف أنّ الطائرة الورقية ستكون دائماً من صنع بطل الرواية في القصة؛ لذلك، فإنّ القصص التي تظهر فيها الطائرات الورقية، ستتلقى تفسيراً ناشطاً وناقداً أكثر من القصص التي تظهر فيها الفراشات. الطائرة الورقية تمنح الطفل دوراً فردانياً في النضال، وصريحاً وفعالاً في تحقيق أحلامه، وتحريره من حدود الواقع الذي فُرضَ- عليه.

وآخر إمكانية مذكورة للخلاص، هي إمكانية استخدام الخيال والحيوانات الأسطورية للتعامل مع الواقع. كما ذكرت، فقد تظهر الحيوانات الأسطورية والعجائبية المختلفة في الكتب، وتساعد أبطال الكتاب على التعامل مع الواقع.

الخيول الطائرة، الجنيّات بالملابس التقليدية الفلسطينية، حتى الطيور ذات أجنحة الفراش، مذكورة في جميع الكتب المشمولة في الدراسة. لكن للإجابة عن سؤال سبب إستخدام الحيوانات الأسطورية ومساهمتها، أود أن أطرح سؤالاً أوسع، وهو عن سبب إستعمال الطيران والتحليق! لماذا الطيران فوق الجدار؟ لماذا بالذات إستخدام السماء ملجأ؟

من ناحية عملية -من الواقع الذي نعيشه في فلسطين- نعلم جميعاً بأنّ حفر الأنفاق حلّ أكثر واقعية من الطيران؛ فلماذا يُقدّم أدب الأطفال الطيران بإستمرار، متجاهلاً الحلّ الموجود بالفعل. أعتقد أنّ هذه هي النقطة بالضبط؛ إنّ أدب الأطفال لم يأتِ ليُقدّم حلولا، أو يحلّ النزاع. يسعى أدب الأطفال لإطلاق عنان الخيال لمواجهة الواقع الصعب الذي يواجهه الطفل. يريد أدب الأطفال الفلسطيني أن يكشف الأطفال على أكبر قدر ممكن من الخيال والحيوانات الأسطورية من أجل إثارة خيالهم، حتى لا يطغى عليهم الواقع القاسي. خيال الأطفال وحرية تفكيرهم ستمنحهم فرصة للتحرّر من هذا الواقع.

في كتاب هدى الشوّا “تنّين بيت لحم”، يتحرّر فكر خضر فقط بعد أن يحلّق على ظهر التنّين ويرى جغرافيا البلاد كاملة، لا تحدّها قيود. وفي كتاب وليد دقّة للفتيان طحكاية سرّ الزيتط، يصف نقاشاً شيقاً للغاية لهذه القضية تحديدا، ويجادل في أنّه حتى لو كان لدينا كل القوى السحرية والخيال في العالم، فهذه ليست الطريقة التي يجب أن نكافح بها؛ ليس عن طريق الحيل، نضالنا نضال تربوي وصراع فكري.

إنّ تحرير العقل هو الذي يجعله يزدهر! وأعتقد أنّ هذه هي بالضبط الفكرة من إستعمال كلّ هذا التحليق والطيران في أدب الأطفال المُصوَّر؛ أي إنّ سرّ الطيران الأسطوري – يكمن في شعار “مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي” في حملة تشجيع القراءة في المجتمع الفلسطيني لسنة 2018: لا بد من خيال واسع لعالم ضيّق.

*نُشر في مؤسسة الدراسات الفلسطينية بتاريخ 15/12/2021


وسوم :
, , , , , , , , , , , ,