لِنبدأْ بالمُمكن

التصنيفات : |
ديسمبر 25, 2021 11:57 ص

*بسّام جميل

فُطر الإنسان على النسيان، رغم أنّها نعمة كبيرة لتَجاوُز الكثير من المآسي، لكنّها في قضية اللجوء الفلسطيني نديمة النكبة.

ننسى النِعم التي تدخل حيّز التعوّد في حياتنا، حتى نفقدها، ليحلَّ الإحساس بالخسارة محلّها، ونبدأ رحلة البحث عن الآخرين، أولئك الذين يعبرون ذات النفق، نواسي أنفسنا بهم ونساوي خساراتنا بخساراتهم.

عشر سنوات على اللجوء الجديد لفلسطينيي سوريا، وقبله، من تغريبة إلى أخرى، هنا وهناك، واللاجئون الفلسطينيون الذين حُشروا في عنق الزجاجة، نالت منهم حظوظهم فدخلوا هذا النفق، وهم يدركون بحكم التغريبة المستمرة أنّ اجتيازه ليس سهلا، ويحتاج لدعم هائل من جهات عدة، لكنّه يصبح عسيراً دون صمود العالقين في دوامته.

صحيح أنّ الهمّ المشترك للاجئين هو تأمين أدوات العيش.. خبز وسقف وما تيسّر من الأمل. لكنّ هذا الواقع كان مقصودا، ليستمرَّ اللاجئ في السعي خلف التفاصيل التي يجب أن تتوفر له بديهياً لا أن ينشغل بها، إذا ما أخذنا بالحسبان أنّ اللجوء الفلسطيني يُشكّل عصب القضية، كونه جزءاً من النضال لتحرير الأرض والإنسان. شعار لم يكن يوماً بهذا القدر من الوهن، رغم أحقّيته.

في ظلّ عدم وجود أي غطاء حقيقي لما يُسمّى بـ”الشتات الفلسطيني”، تصبح الحاجة مُلحّة أكثر، ليس للتعاطف الإفتراضي، رغم ضرورته، بل لوحدة المسعى لقيام كيان قادر على الإستجابة لكل هذه المتطلبات. يعتبر البعض أنّ منظمة التحرير قادرة على ذلك إذا ما مُنحت الفرصة لاستعادتها. لكنّ الجميع يعلم أنّ الصراع داخل البيت الواحد، وسياسة الإلغاء كما المنافسة الكاذبة، لنيل مكاسب مالية ونفوذ أكبر لخدمة مصالح الاحتلال، يجعلون من الأمر ضرباً من الخيال.

هل نستطيع أن نعتمد جزئياً على ما يُسمّى بـ”منظمات المجتمع المدني” دون أن نطيع أوامر المُموّلين وتوجُّهات البعض منهم نحو تطبيع ناعم أو تأزيم متراكم؟

إنّ مصير مجموعة أفراد داخل منظومة إجتماعية يُلقي بظلاله على باقي الجماعة، الذين ولسبب ما، يظنّون أنّ بالإمكان التضحية بالبعض مقابل نجاة البقية. هنا، لا نتحدث عن أخلاقيات الطبقة الحاكمة، بل عن ناموس كوني، فالقطيع المُتشرذم مصيره التشتُّت.. كلٌّ في وادٍ وهذا عُرف صراع الغاب!

إنّ مصير اللاجئين لا يعني فقط، خسارة هائلة للقضية الفلسطينية على الصعيد السياسي، بل على الصعيد الوجودي أيضا، وما حقّقته السلطة الفلسطينية بإهمال هذا الملف (إلا دعائياً على منصات التطبيل) يجعل من الصعب بمكان، القدرة على إستعادة مكانتهم على الخارطة النضالية، ليصبحوا كما تشاء السلطة وغيرها من ذوي التأثير والنفوذ، على استعداد لإبقاء الوضع على ما هو عليه، إلى أن ينتهي هذا الوجود: “اللاجئون في شتاتهم”، إما بتصفية القضية عن طريق التوطين أو الإنخراط قسراً في أتون الصراعات الداخلية للدول المضيفة في “شرقنا السعيد”.

تستمر الأنظمة العربية بالضغط نحو تسمين ملف اللاجئين إذا ما اقتضت الحاجة لذلك، وِفق مصالحها الذاتية، فيُصار إلى التضحية بهذا الملف، أو إبقائه ورقة ضغط في يد العدو والصديق على حد سواء، ويبدو من المؤكّد أنّ هاوية الفصائل الفلسطينية قد تعلّمت الدرس لتمارس هذا الفكر بتعالي أحياناً وبشكل يُثبت تفوُّقها على كل الأنظمة التي مارست الإبتزاز ولا تزال، بإسم هؤلاء المستضعفين.

قبل إتفاقية أوسلو، كان اللاجئ يُسمّى عربياً بـ”الفدائي”، حيث أنّ معظم القوات المشاركة في المعارك منذ إنطلاق الثورة الفلسطينية بعد النكبة، هم لاجئون، وكانت ساحات لجوئهم هي ذاتها ساحات إنطلاق الكفاح المسلح. ولا ننسى أنّ المقاومة الفلسطينية في الداخل المُحتل والمُحرر”غزة” تَعدّ اللاجئين عِماد قواتها العسكرية والأمنية.

يُقدّم لنا، العقد الثاني من الألفية الجديدة، العودة إلى نقطة لا يمكن اعتبارها نقطة الصفر، فالمُقاربة بين الشهور الأولى للتهجير قبل وبعد النكبة، لا يمكن مقارنتها بالوضح الحالي، فنجد، ورغم حاجة اللاجئين إلى كل المساعدات الممكنة، والتي هي بمعظمها طارئة للغاية، أنّنا نعلم اليوم ما لم يعلمه أجدادنا على طريق المآساة، التي لا تزال مستمرة ويتمّ تزكية بؤسها علينا كل يوم.

قد يبدو القرار الأخير الذي أقدمت عليه “الأونروا” بقطع الجزء الأكبر من المعونات المالية لللاجئين الفلسطينيين النازحين من سوريا إلى لبنان، غير مفاجئ، عبر التمهيد لهذا القرار من خلال تخفيض هذه المساعدات  لعدة مرات خلال السنوات الأخيرة، لكنّه هذه المرة يُقدّم تحذيراً مُبطّنا، بمساعي هذه المنظمة لإنهاء عملها بشكل كامل، لتكفّ عن لعب دور الممثل البارع والشاهد على نكبة فلسطين ولاجئيها. مع كل ما يُحيطنا من ظروف سياسية وتوجهات الدول الكبرى، لنزع الثقة عن المنظمة وبالتالي قطع التمويل عنها بالكامل.

لعلّ إنتظار قرار سياسي من الأمم المتحدة دُعابة سخيفة، ولعلّ توقُّع الحسم في مفاوضات سلمية غباءٌ متّصل، ليبقى لنا أن نستعيد بحضورنا مجددا، عقلية “الفدائي” التي تمّ تفريغها لتصبح صناديق المعونات بديلاً عنها. أدعوكم إلى القتال الحقيقي وبكل أشكاله من السلمي إلى المُسلّح.. أو القبول بالخراب القادم.

لنبدأ بالمُمكن.

*كاتب فلسطيني


وسوم :
, , , , , , , , , , , ,