القانون الدولي والحقّ الفلسطيني

التصنيفات : |
يناير 22, 2022 5:40 م

*منير شفيق

تشكّل تيار فلسطيني داخل منظمة التحرير الفلسطينية وقيادتها، ذهب إلى حد المساومة مع الكيان الصهيوني، والإستعداد للإعتراف بشرعية “دولته” ووجوده على أراضٍ فلسطينية تصل إلى 80 % من فلسطين، وذلك مقابل “دولة” (دويلة) على الباقي، حتى مجرداً من السيادة.

تحتاج هذه الظاهرة التي عبّرت عنها إتفاقية أوسلو، وما تلاها من إتفاقات، إلى تفسير وتحليل، لأنّ هذا التيار فرّط بمنطلقات فتح ومبادئ الميثاقين 1964 و1968 بإعترافه بالكيان الصهيوني، وبوجود سكانه الصهاينة المستوطنين غير الشرعيين، في ما فلسطين بكاملها حقّ حصري للشعب الفلسطيني. فكيف عادوا وقبلوا بهذه القسمة المُجحفة غاية الإجحاف، والمرفوضة كل الرفض من كل المبادئ والقيم والإعتبارات؟ ومع ذلك لم يتحقق من دويلتهم شيء، ولكنّهم ما زالوا مُصرّين على ما فعلوا، وعلى “حلّ الدولتين”.

ولعل من حسن الحظ أنّهم أبقوا نصف الشعب الفلسطيني خارج فلسطين بعيداً من هذه المشاركة، وأكثر من نصفه الآخر داخل فلسطين في معارضة لإتفاقية أوسلو وذيولها.

نبعت هذه الظاهرة الشاذة في مائة عام من تاريخ القضية الفلسطينية من قناعة تقول: “إنّ موازين القوى عالمياً وإقليمياً وعربياً وفلسطينياً لا تسمح بالتحرير، لا في مستقبل قريب أو بعيد، فلمَ لا ننقذ ما يمكن إنقاذه، فلا “نَخرج من المولد بلا حمص””؟

طبعاً هذه القناعة ذهبت بآخرين إلى اعتزال السياسة والإنكفاء على الذات بأشكال مختلفة. ولأنّ الإقدام على المساومة وخيانة المبادئ يحتاج إلى نمط من الشخصية، قابل للتردي والإنحطاط، حتى الوصول إلى التنسيق الأمني مع المحتل، فإنّ الحجة المستندة إلى موازين قوى غير مؤاتية إلى الحد الذي ذهب إليه أولئك.. لا تكفي وحدها للتفسير، إذ لا بد من أن تدخل في التفسير جملة من المخاطر السابقة، وجملة من الإغراءات الشخصية والعائلية كذلك: السلطة، المناصب، الوجاهة، المغانم، الفساد المالي..

بيد أنّ ثمة بُعداً في القضية الفلسطينية يجب أن يدركه العاملون في الحقل السياسي الفلسطيني، وهو المتعلق بإقامة الكيان الصهيوني بصورة غير شرعية، من وجهة نظر القانون الدولي. وهو مستند قانوني دولي لا تؤثر فيه موازين قوى مهما كانت مضادة، وبغض النظر عما يمكن أن يحظى به الكيان الصهيوني من إعترافات دبلوماسية دولية، فالقانون الدولي في تقرير الشرعية يعلو عليها جميعا.

يعتبر القانون الدولي أنّ صاحب الحقّ الحصري في تقرير مصير فلسطين هو الشعب الفلسطيني الذي كان يسكن البلاد عندما احتلها الإستعمار، وأصبحت من جملة المستعمرات في العالم، وبهذا يكون الشعب العربي الفلسطيني (من مسلمين ومسيحيين) هو صاحب ذلك الحق. هذا ويُعتبر القانون الدولي أنّ كل ما يقوم به الإستعمار، أثناء حكمه للبلد المستعمَر، من تغيير جغرافي أو ديمغرافي هو غير شرعي، ويجب أن يعود البلد إلى وضعه السابق.

ولهذا أخطأت هيئة الأمم المتحدة بإصدارها قرار تقسيم فلسطين الرقم 181 لعام 1947؛ لأنّها لا تملك حقّ تقسيم أي بلد إلى دولتين وتقرير مصيره، أو الإعتراف بما أحدثه الإستعمار من تغيير سكاني، وهذا ما يؤكده ميثاق هيئة الأمم أيضا. ومن ثم فإنّ هيئة الأمم غير قادرة، وغير مؤهلة قانوناً لإعطاء شرعية لتقسيم فلسطين، أو إقامة كيان يهودي إستيطاني فيها، وبغض النظر عن الحجم الذي اقتطعته منها.

وبالمناسبة، يجب عدم القبول بمصطلح “المجتمع الدولي” أو إعطائه صفة الشرعية لقراراته، لأنّه يمثل إغتصاباً وعدواناً على شعوب العالم ودوله، الأمر الذي ينطبق على الإعتراف الدبلوماسي بـ”دولة إسرائيل” من قِبل أية دولة حتى لو اجتمعت دول العالم كله على الإعتراف بها، إذ تظل غير شرعية ومخالفة للقانون الدولي.

إنّ الذي يستطيع أن يعطي الكيان الصهيوني أية شرعية على أرض فلسطين، أو يبقيه بلا شرعية، هو الشعب الفلسطيني، وذلك بسبب حقّه الحصري في تقرير مصيره بموجب القانون الدولي.

هذه النقطة يجب أن يدركها الشعب الفلسطيني أولا، كما يجب أن تدركها فصائل المقاومة وكل النخب، وكل من يتعاطى هذه القضية، الأمر الذي يعني إمتلاك أهم ورقة وأقواها في القضية الفلسطينية على المستوى الدولي.

لذلك، لو افترضنا جدلاً أنّ ميزان القوى كان مائلاً كل الميل في مصلحة الكيان الصهيوني، ولو افترضنا جدلاً – وهذا مُحال – أنّ موازين القوى ستثبت على حالها لمائة سنة قادمة، لمَ يحقّ لفلسطيني أن يضعف أمام ميزان القوى، وهو الذي بيده إبقاء “إسرائيل” ومن يعترف بها في وضعية المغتصِب اللاشرعي من وجهة نظر القانون الدولي.

طبعا، منذ الآن راح ميزان القوى يتطوّر بسرعة في غير مصلحة أمريكا والغرب والكيان الصهيوني، وطبعاً أيضاً ليس القانون الدولي هو الوحيد الذي له كلمة القول الفصل. فهنالك المبادئ والثوابت والدين والتاريخ والقِيَم العليا وحقّ الشعوب في التحرّر. ولكن يكفي الآن تسليط الضوء على هذا البُعد لأهميته على المستوى الدولي ومخاطبة الدول، ولدحض كل قرار “دولي” بالنسبة للقضية الفلسطينية يناقضه.

يترتب على هذا البُعد، والمقاومة في مرحلة الهجوم، أنّ الفلسطيني يستطيع أن يشعر بقوة إضافية إذا ما أدرك أنّه يمتلك الحقّ والشرعية وإبقاء الكيان الصهيوني في حالة اللاشرعية، فضلاً عن حالة الإقتلاعي الإحلالي العنصري، مرتكب جرائم الإبادة.

هنا يظهر تهافت قيادة م.ت.ف حين راحت تتوسّل الدول الغربية ودول العالم، للإعتراف بشرعيتها وبحقّها في إقامة دويلة على أقل من 20 % من فلسطين، في ما شعبها هو الذي يمتلك الشرعية، وهو ليس بحاجة إلى إعتراف الدول بتلك الشرعية التي يجب أن تُفرض فرضاً على الجميع من خلال إلزامهم بالقانون الدولي من جهة، ومن خلال الصلابة في التمسك بالحقّ الفلسطيني وعدالة القضية، والمضيّ في المقاومة والنضال حتى تتغير موازين القوى (كما نشهد الآن) وتفرض إرادة التحرير.

هذا الموقف هو الذي يجب أن يُترجم على الأرض، وأن يُجابه به العالم، وهو ما حصل بعد النكبة 1948/1949 وإتفاقات الهدنة. وقد لجأ ثلثا الشعب إلى الخيام واللجوء (بسبب سياسة الإقتلاع بالقوة والمجازر)، كما بعد أن فرض على الفلسطيني الصمود والصبر الطويل، وحُرم من أن يواصل كفاحه المسلح على أرض فلسطين حتى المنتصف الثاني من الستينيات. ولكن، نتيجة تلك المعادلة كانت بقاء ذلك الحقّ الفلسطيني بكل فلسطين محفوظا، وبقي الكيان الصهيوني مغتصِباً غير شرعي، وذلك بإنتظار اللحظة المناسبة التي تسمح بإمتشاق البندقية من جديد، وبدء جولة جديدة من الكفاح.

على أنّ الشعب الفلسطيني لم ينتظر لحظة مناسبة أخرى، بعد نكبة أو كارثة، إتفاق أوسلو، إذ واصل المقاومة بلا انقطاع، وبعزيمة أشد، وبظروف موازين قوى أكثر مؤاتاة، فقد إنتقلت البندقية من أيدٍ خذلتها إلى أيدٍ حمتها من جديد. وقد تجلى ذلك قبل أشهر بالإنتفاضة وسيف القدس 2021، والآتي أعظم بإذن الله.

*المصدر: عربي 21، 21/1/2022


وسوم :
, , , , , , , , , , , , ,