عن مفهوم الرأي وحريته: قراءة في فكر باسل الأعرج

التصنيفات : |
فبراير 7, 2022 10:38 ص

*عبد الرحمن جاسم

“وهل هناك أبلغ وأفصح من فعل الشهيد” هذه الكلمات المقتضبة هي جزءٌ من رسالة الشهيد باسل الأعرج الأخيرة التي تركها بعد رحيله في 6 آذار/مارس 2017، إثر مواجهة بطولية مع عدّة وحداتٍ قتالية من نخبة جيش العدو الصهيوني، قدِمت بغرض إغتياله (وحدات من “الدفيدوفان” الخاصة الشبيهة بفرق “SWAT” الأمريكية ومثيلاتها). ماذا كان المثقف الفلسطيني المشتبك القادم من قرية الولجة الفلسطينية، يريد من خلال جملةٍ كهذه؟

كان الأعرج مثقفاً واعيا، حتى في لحظات حياته الأشد دقّة، إذ كان مصراً وبشكلٍ واضح على التركيز على “الرفع” من مقام الشهيد، وتأصيله، إضافةً للإضاءة على أنّ الرأي المرتبط بالفعل المُضحّي، هو أساس أي إرثٍ شعبي يمكن “أسطرته”؛ أي تحويله لأسطورة بحسب كلام مرثيا إلياد المفكر الروماني، وبالتالي يستحق البقاء طويلاً في حضارةٍ مشرقيةٍ كحضارتنا. هو كان مُصراً على “إدراك” الوعي و”إشعاله” وترفيده كيفما استطاع.

يركز الأعرج في إحدى “بوستاته” الطويلة عبر الفيسبوك، وجهة نظرٍ مباشرة حول فكرة “الرأي” و”المسؤولية المباشرة للفرد” عن رأيه في أية قضيةٍ أكانت مركزية أو صغيرة قائلا: “إنّها فكرة المسؤولية الفردية تجاه الأفراد الآخرين والجماعة، فعلياً كل فعل، كل كلمة تقولها في هذا الظرف يجب أن تحسب نتائج ما تقوله أو تفعله، كيف أنّه ممكن لقولك وفعلك أن يكون دافعاً للفعل الثوري أو مثبطاً له، لذلك من الضرورة التأني والصبر والتفكير والتعلّم وأن نسمع أكثر مما نتكلم”.

هو يوضح أنّ الإنسان مسؤولٌ عن تصرفاته وأفعاله، وأنّه يُحاسب بناءاً على ذلك، في الوقت عينه هو يدرك مدى تأثير “السوشيال ميديا” كمدى مُحفّز و”فكرة الرأي” -مهما كان فرديا، آنياً أو شخصيا- على المدى الأوسع والأشمل.

“الشيطان فكرة” يقولها يوهان فون غوته الكاتب الألماني عبر بطله “فاوست” في المسرحية التي حملت ذات التسمية. الشيطان عينه يكمن في التفاصيل: يكفي فقط بذر فكرةٍ واحدةٍ حول أيٍ من المواضيع الرئيسية، كي يصبح الموضوع “مثارا” للنقاش.

ماذا عن سلاح المقاومة؟ ماذا عن جدواها؟ ماذا عن أهميتها؟ ماذا عن بقائها من عدمه؟

كل هذه الأمور، يكفي رأي واحد لتصبح مجالاً للنقاش. ألم يقل الشهيد غسان كنفاني جملته الشهيرة: “أخشى أن تصبح الخيانة في يوم من الأيام وجهة نظر”. أليس وجود شخصية مثل “أفيخاي أدرعي” دليلاً حسياً على مدى تأثير “النقاش” و”الرأي والرأي الآخر” في أمورٍ لا نقاش فيها؟

يوضح باسل أكثر من خلال ذات “البوست”؛ هو يقول أنّه أخذ من ماو تسي تونغ “من لا يعرف لا يتكلّم” وهي ليست دعوة للقمع أو فرض سلطة أو تقييم للبشر، بل هي دعوة لإكتساب المزيد من المعارف. إنّها إذاً حكمة ثنائية مهمة: الجانب الأول، ألا يتكلم من لا يعرف في أي شيء لا يعرفه. أما الثاني، فهي أن يسعى لأن يتثقّف، ويعرف، ويدرك أكثر وأكثر، حتى يصل للمرحلة التي يصبح فيها قادراً على أن يقول رأيه “المُحكم” في ذلك الموضوع من عدمه.

تأتي واحدة من أكبر المشاكل في المجتمعات العربية حاليا، أنّ من يعرف لا يتكلم في ما من لا يعرف يتكلّم وكثيرا، ويعطي رأيه في كل شي، وأي شيء. إذ يكفي زيارة واحدة لأي “نقاش” على الفيسبوك/التويتر كمثال، حتى يُفاجأ المشاهد بالكم الهائل من المعلومات المغلوطة، الغباء، السطحية، وقلة الأدب في آنٍ معا. في إطار إكمال ذات الفكرة من مقالة باسل، يرفع الشهيد الفلسطيني الحدود أكثر، ويضع كل “فلسطيني مقاوم” أمام الإشكالية المطلقة عينها: “كل فلسطيني على ثغر من ثغور فلسطين فإياك أن تؤتى من قبلك، لا تسمح لأن تكون أنت الثغرة في البنيان المرصوص”.

وفي مقالته “لا تكن مع الاحتلال ضدهم” (نُشرت في 8/3/2017)؛ يشرح كيف أنّ هذه الآراء المتناثرة في مواقع التواصل الإجتماعي، تساهم في إذكاء المعركة لا مع المحتل، بل ضد النشطاء الفلسطينيين وضد الاحتلال والفساد السياسي، الذين ساوى الأعرج بينهما: “تقرأ في الفيسبوك، التويتر، في الصحف، ومواقع الإنترنت والمدونات، بالفصحى أو العاميّة الممتلئة بالأخطاء الإملائية، وبالحروف الإنجليزية أحيانا. في الإعلان التجاري عند حاجز قلنديا، في ثورة البناء العقاري في قلب مدنٍ ممسوخة، في لوحة إعلان (بالعبرية) لمرآب تصليح السيارات، في قائمة الطعام في مطعمك المفضل وفي عينيّ مسؤول مُصاب بعُقدة ستوكهولم. أحاديث وأقوال، تلميحات وكتابات، كلها تسخر وتُحقّر وتبخّس عمل وشخوص النشطاء ضد الاحتلال والفساد السياسي”.

الولاء للجلّاد

يشرح الأعرج في تلك المقالة مستنداً إلى كتاب الباحث المصري الدكتور محمد حجازي “سيكولوجية الإنسان المقهور”، تفاصيل، كيف أنّ هذه المجتمعات الشرقية، والمجتمع الفلسطيني حكما، الواقع تحت احتلالٍ “متوحش” تنشأ لديهم “علاقة إزدراء ضمنيّة للذات والآخر (داخل المجتمع) فتصبّ على غيرهم من أفراد المجتمع، حيث يعكسون العار والمأساة ضمن منهجية. عندما يُجاهر المقهور بمقولات مُسيئة لغيره من الواقعين تحت القهر ذاته، إنّما هو يعبّر عن مدى شعوره بالضعف والدونية والذنب، وذلك من أجل الحصول على توازن نفسي والتخلص مما يحيط به من توترٍ وإنفعال”. هذا المقهور الممارس لهذا النوع من “التوحش”؛ الغائب في ذات الدائرة من العنف -فهذا العنف يُمارس بدوره عليه- يمر بعدة مراحل، أولها مرحلة الرضوخ والقهر، مطبّقاً “عدوانية” تجاه من هم أضعف منه ليلحقها بالمرحلة الثانية وهي الإضطهاد، وفيها يمارس بحثه عمّن يُحمّله وزر تلك “الحالة التي يعيش بها من قهر”، ويبتعد لأسبابٍ متعددة عن العدو الحقيقي (الاحتلال الصهيوني)، فيوجِّه هذا اللوم -وبكامل طاقته- تجاه من يستطيعه. تارةً تصبح المقاومة، ومن يمارسها، ومن يعتنقها، ومن يفكّر بها. هنا يتبلور هذا الإضطهاد، فيصبح “رأياً” –كمثال- على السوشيال ميديا عن المقاومة، أو عن المقاومين، أو الناشطين: وتصبح المقاومة فعلاً هدّاما، قاتلا، مرفوضا. أو حتى لربما تصبح “السخرية” من المقاومين، من أفعالهم، أو أشكالهم، أو منطقهم، وصولاً حتى “تكفير” و”تشويه” أي فعل ضد الاحتلال حتى يصبح هذا الاحتلال “قدرا” لا مساس به. ويوضح الأعرج: “هنا، يُخلق وعي زائف”، ويعرّفه: “أما الوعي الزائف، فهو أن تكون أفكار الإنسان ووجهات نظره ومفاهيمه غير متطابقة مع الواقع، أو غير واقعيّة وتقتصر على جانبٍ معيّن”. وهذا ما يقوده للفكرة عينها وإن بشكلٍ أعمق.

العسكر المؤدلج

يغوص بعدها باسل أعمق في ذات الفكرة؛ ويظهر كيف أنّ “تأطير الرأي” و”توجيهه” ليسا بالضرورة مرتبطين بالفرد بحد عينه، بل أيضاً بالمجتمع ومؤسساته. هو يقارب الرأي؛ من خلال شرح فكرة: أي رأيٍ يُراد له التمظهر؟ فالرأي الذي يخالف رأي الأمريكي والصهيوني هو مرفوض من قبل المؤسسات والجهات الممولة و”من لفّ لفيفهم”، ويعطي مثالاً من خلال مقالته “شهيد الشرف العسكري” (والتي نشرها في 31/1/2016) إلى أنّ هناك رهاناً على خلق: “فلسطيني جديد ينتمي للمؤسسة العسكرية (في إشارة للمؤسسة العسكرية الفلسطينية التي يشرف عليها جيش الاحتلال الصهيوني) قد صُقل وعيه بما يناسب سياسات “بناء الأمة” في الخطة الأمريكية، وليتمَّ عبر هذا إعادة تأويل عدد كبير من المصطلحات والمفاهيم، وترافق أيضاً مع مفهوم “الإحترافية” التي سعوا إلى زرعها في وعي هؤلاء العناصر ليُفقِدوا العسكرية الفلسطينية الثورية أهم عناصرها، ألا وهي الجانب السياسي في الشخصية العسكرية، لأنّه من المفروض أن يكون العسكري، في أي ثورة، يحمل حمولة أيديولوجية وإنخراطاً بالشأن السياسي، قادراً على تعويض الفرق في القوة بينه وبين عدوه”.

إنّه نوع من إيضاح، أنّه في البداية، يُخلق “رأي” إنهزامي يثير نقاشاً حول البديهيات. يتمّ حماية هذا الرأي عبر مؤسسات “رسمية” تُدار بشكلٍ إحترافيٍ وحرفي من قبل “الأمريكي/الصهيوني”. هذا يخلق في ما بعد -أو بذات اللحظة سيان- خطاباً مباشراً للأجهزة الأمنية الفلسطينية من نوع: “نحن لا نتدخّل بالسياسة”، ليصبح الثائر -الفلسطيني- مثل أي عسكري نظامي آخر في هذا العالم، كذلك تمّ العمل على إعادة صياغة العقيدة العسكرية الفلسطينية وما لم يستطيعوا إلغاءه قاموا بتأويله، وقد كان من شروط هذه العملية لأي مُنتمٍ جديد للأجهزة أن لا يكون يحمل تاريخاً نضالياً سابقا”.

الدَنيّة ولا المنيّة

أصل المقال، كتبه الأعرج في مديح ما فعله الإستشهادي أمجد السكّري؛ الرقيب أول في الشرطة الفلسطينية، الذي كان قد أطلق النار (في العام 2016) على حاجز بيت إيل العسكري الصهيوني بالقرب من رام الله، أصاب ثلاثة عناصر من جنود الاحتلال وقتها؛ وإستُشهد بعدها في المواجهة عينها. ما أراد باسل قوله في تلك المقالة أنّ أمجد: “لم يكن هو أول عناصر الأجهزة الأمنية الذي يقوم بعملية عسكرية ضد الاحتلال، فقد سبقه أبطال ممّن لم  يُعطوا الدَنيّة في شرفهم العسكري وصانوا الأمانة”.

هنا، إعتبر الأعرج بأنّه لا رأي ولا رأي آخر في هذا الأمر، إنّه أمر مباشر لا يحتمل الخيارات. “في ظل كل هذه العملية من القصف الذهني المتتالي خرج بعض منتسبي الأجهزة ممن رفضوا هذا، ليكون دليلاً على مناعة أي منظومة، ولتحمل دلالة مهمة أخرى، ألا وهي أنّ أي أداة قمع تحمل في داخلها بذوراً ثورية ستدفع بالناس إلى التمرد”. فالرصاص الذي أطلقه أمجد السكّري لم يكن إلا سهماً موجهاً لكل فكرة “الإنزياح” أمام المنظومة الفكرية للآراء الإنهزامية ومشاريعها: “لم تكن رصاصات أمجد لتخترق فقط أجساد جنود العدو فقط، بل جاءت لتستقرَّ أيضاً في رأس عملية التنسيق الأمني ومشروع دايتون، لتلحقَ برصاصات سبقتها إلى هناك وبرصاصات ستلحقها أيضا”.

هذا الشرح بأكمله في هذا المقطع، هو تفسير للنقطة الأخيرة من مقاله السابق، إذ يشرح الأعرج أنّ المرحلة الثالثة في حياة الإنسان المقهور هي “الثورة”، وهو ما فعله أمجد السكّري، ويفعله، وسيفعله كثيرٌ من زملائه المقاومين.

وصيّة الشهيد

في المحصّلة، يدرك باسل الأعرج، طبيعة المجتمع الفلسطيني وكل ما يحدث بداخله، ويستودع مجموعةً من النصائح، التي يعتبرها مادةً للتفكير، قبل الولوج في أي “سلوك” إنهزامي:

“1- حرّر عقلك من كل هذه العُقد التي سبق ذكرها.

2- راعِ ثقافة المجتمع ولا تعاديها.

3- تعامل مع المحيط بواقعية وحاول المحافظة على الإتزان الإنفعالي.

4- عرِّفهم حقوقهم وواجباتهم.

5- عرِّفهم قدراتهم الذاتية، وتقدير الفروقات الفردية.

6- لا تناقشهم، فقصور الفكر الجدلي سيد الموقف، بل استخدم أسلوب سقراط في الطرح والسؤال.

7- حوِّل كل ذلك الغضب باتجاه الاحتلال.

8- لا تبالغ بالشكوى والتذمر.

9- لا تصبح مغناطيس للأفكار السيئة لأنّك ستفسر كل ما يحدث بطريقة سلبية.

10- ساهم في تغيير هذه القناعات والقضاء على الوعي الزائف”.

*كاتب فلسطيني

المصادر:

https://web.archive.org/web/20170720204625/https://www.qudsn.ps/article/84246

https://web.archive.org/web/20170720223331/https://www.qudsn.ps/article/113819


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , , , , , , ,