لو تحدّث “الإسرائيلي” العربية!

التصنيفات : |
مارس 1, 2022 10:07 ص

*وسام عبد الله

أن تلقيَ السلام على صديقك باللغة العربية أو الأجنبية، يُعتبر أمراً طبيعياً في علاقاتنا الإجتماعية، إنّما تبادل التحية باللغة العبرية، فهو حالة مختلفة كليا، لا تدخل ضمن صيرورة اللغة منذ الأزل، هي صراع وجودي لا ينتهي بتقبل الآخر الفلسطيني، لو فرضنا أنّ “الإسرائيليين” قرروا تعلّم اللغة العربية، هل يصبح المحتل “صديقا” لمجرد حديثه بلغتي؟. 

دور اللغة العبرية في تأسيس “إسرائيل”

قبل تأسيس الكيان الإسرائيلي، لم يفصل المفكرين اليهود بين فلسطين التاريخية واللغة في صياغة “هويتهم”، فالمكان هو نقطة إلتقاء في الشتات، واللغة وسيلة تواصلهم رغم إختلاف مجتمعاتهم ولغاتهم، وهي الحامل للإرث الثقافي والعصب الديني، وهذا ما يفسر إختيارها عن باقي اللغات التي يتحدث بها اليهود، مثل لغة “اليديشية” المعروفة بأنّها لغة “يهود الأشكناز” في أوروبا. وفي هذا الإختيار يكمن السؤال، هل اللغة العبرية الحالية هي لغة التوراة؟ أم أنّها تطورت وتبدلت، أو اختُرعت؟.

إعتبر باحثون يهود أنّ اللغة العبرية المُستخدمة حالياً في “إسرائيل”، هي ليست اللغة الأم، بل أُعيد صياغتها من خلال الإعتماد على مواد لغوية، مصطلحات وحروف وتعابير، من مختلف اللغات اليهودية، الكلاسيكية واليديشية واللادينو، وهي لغات بحد ذاتها تطورت ونشأت في بلدانٍ أوروبية. ولإحداث الفصل والقطع بين اليهودي المهاجر ولغته الأصلية، روّجت الحركة الصهيونية للغات القديمة مثل اليديشية، باعتبارها رمز المنفى والإضطهاد، بينما العبرية رمز “أرض الميعاد”. دليل هذا التباعد وكذبة ما سُمّي بإحياء اللغة العبرية، ما ذكرته صحيفة “هأرتس” أنّ “تلامذة المدارس لا يفهمون عبرية التوراة”.

معجم إلعازر بن يهودا

إنّ صياغة اللغة الجديدة، تتطلب كتابتها وتنظيمها، لذا أصدرت أكاديمية اللغة العبرية عام 1959 معجماً من سبعة عشر جزءا، إستكمالاً لعمل أبرز الدعاة اليهود لإنشاء لغة رسمية، وهو “إلعازر بن يهودا”، الذي يُعتبر من المؤسسين، وليس أوّلهم، لربط العبرية بالهوية وتأسيس الكيان. إستقر في فلسطين سنة 1881 وبدأ التدريس والعمل على إخراجها من عباءة الطقوس الدينية إلى الحياة اليومية، واستفاد من دور الإنتداب البريطاني لفرض العبرية كلغة رسمية، ليكمل عمله في كتابة معجم خاص بالعبرية.

إستُخدمت أساليب عديدة لتمكين اللغة في مجتمع لم تتطور فيه بطريقة طبيعية كباقي المجتمعات، إنّما تمّ فرضها عبر المدارس والمعاهد والإعلام والدوائر الرسمية، وأصبحت شرطاً للهجرة والتعامل في الحياة اليومية، وتمّ تطويع المنشورات الأدبية ما قبل وما بعد النكبة، ضمن سردية الاحتلال، وكانت العبرية جزءاً من التعبير بالمفردات، عن الحلم والشوق والحنين إلى “إسرائيل”. وامتد الاحتلال إلى اللغة، إذ عمد العدو إلى تغيير أسماء القرى والأحياء الفلسطينية واستبدالها بأسماء عبرية، مع الحرص على أن تؤخذ من التوارة، لإعطاء الصبغة الدينية للأرض والحرف.

قومية الدولة واللغتان

في قانون قومية الدولة الذي أقرّه الكنيست الإسرائيلي، تكون اللغة العبرية هي الأقوى وتستبعد بشكل قانوني اللغة العربية، حتى وإن ذكر في مواده أنّ “اللغة العربية لها مكانة خاصة في الدولة”. نحن هنا أمام تجلي واضح للصراع بين اللغتين العربية والعبرية، بين طرف يملك البعد الحضاري والثقافي والتاريخي متجاوزاً حدود فلسطين نحو العالم العربي لكنّه تحت الاحتلال، وطرف ثانٍ بلغةٍ مبتورة وثقافة وهمية لكنّه يملك الأدوات الأقوى إعلامياً والدعم الدولي.

تتجلّى الأزمة اللغوية لدى الفلسطينيين الموجودين في مناطق الاحتلال، أكثر من الضفة الغربية وغزة، فهناك التعامل الرسمي والحديث اليومي، والتعليم المدرسي مرتبط بشكل عضوي باللغة العبرية، لينعكس على الأجيال الشابة التي لم تسمع في صغرها عائلتها يتكلمون العربية. الإشكالية تكمن لدى الدعوات بدخول وتدريس اللغة العربية في المدارس الإسرائيلية كونهم، كما يعتبر دعاة هذه الفكرة، جزءاً من “الدولة اليهودية”. فلدى التيار الرافض للدعوة هواجسه، بأن يتمكن الفلسطينيون من لغتهم، لتعيد ربطهم بمحيطهم الطبيعي، والثاني وهو الأكثر خطورة بالنسبة لدولة عنصرية، بتشكيل نوع من “القبول” للآخر العربي، وهو ما يُدمر جوهر الفكرة الإسرائيلية من صلبها.    

إعرف عدوك.. أم تطبيع

إنّ تعلّم اللغة العبرية، من فلسطينيين أو من عرب، له طريقان: لكل منهما هدفه المختلف عن الأخر. طريق التعرف على العدو، بلغته هو، من خلال ترجمة منشوراته ودراساته، لمعرفة كيف يفكر وأين يتجه في سياساته ومخططاته. فنكون أمام سلاح مقاوم ضمن استراتيجية المواجهة الثقافية. أما الطريق الثاني وهو الأخطر: التطبيع.

يسعى “الإسرائيلي” بشكل مكثف إلى اختراق المجتمعات العربية من خلال إتفاقياتٍ ثقافية، خاصة مع الشعوب التي لا تتحدث اللغة العربية، مثل الكرد في العراق والأمازيغ في المغرب، فتواصل معهم وأسّس جمعيات بهدف تقسيم المجتمعات من داخلها، فكانت اللغة من أدوات العمل. يكفي النظر إلى ما بعد إتفاقيات السلام الموقعة مع الإمارات والبحرين، لمشهد إستخدام كلمة “سلام” باللغات العبرية والعربية والإنكليزية، تكريساً لفكرة التسامح اللغوي، ومنها الإنطلاق إلى الرحاب الثقافية الأوسع، من الموسيقى إلى الأدب، لنصل إلى جوهر الثقافة، وهو سلوك الإنسان مع ذاته ومع الآخر، أي قبول الدخول في مسار التطبيع للحياة اليومية وليس مجرد إتفاقيات تجارية.

*كاتب لبناني


وسوم :
, , , , , , , , , , ,