جبهة فلسطينية معارضة للتفرّد بمنظمة التحرير، ما بين الأولوية والمحاذير

التصنيفات : |
مارس 4, 2022 7:33 ص

*أحمد الطناني – غزة:

بعد مرور أقل من شهر على انعقاد الدورة الـ(31) للمجلس المركزي لمنظمة التحرير والتي شهدت مقاطعة واسعة من العديد من المكونات السياسية والشخصيات والتجمعات الفلسطينية، لا زالت الأطراف المعارضة الفاعلة سياسياً في الساحة الفلسطينية لم تأخذ زمام المبادرة والتقدم خطوة للأمام في إطار توحيد جهودها وخطابها وخطواتها لمواجهة حالة التفرد بالمنظمة وهيئاتها وقرارها.

إثر صدور البيان الختامي لدورة المجلس المركزي، ردت الفصائل الفلسطينية المعارضة الأبرز (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الجهاد الإسلامي في فلسطين، حركة المقاومة الإسلامية حماس) ببيان موحّد صدر عنهم، أكدوا فيه رفضهم لكل التعيينات التي أعلنها المجلس المركزي، سواءً على صعيد رئاسة المجلس الوطني ونوابه، أو بقية المناصب الأخرى داعياً الجميع إلى عدم التعامل مع هذه التعيينات واعتبارها لا تُمثل الشعب الفلسطيني، وتشكّل تجاوزاً لقرارات الإجماع الوطني، وقمعاً للإرادة الشعبية الفلسطينية، موجهاً دعوة للقيادة المتنفذة إلى التراجع فوراً عما وصفه بـ”النهج المتفرد والمهيمن على المؤسسة والقرار الوطني”، والتقدم نحو وحدة وطنية حقيقية تقوم على الشراكة الوطنية الكاملة، وعلى تنفيذ مخرجات وقرارات الإجماع الوطني.

اللافت في البيان نقطتان أساسيتان: الأولى، أنّه صدر بشكل موحّد عن الفصائل الثلاث الأبرز والأكثر وزناً سياسياً وجماهيرياً في معارضة نهج القيادة المتنفذة في منظمة التحرير.

أما الثانية، هي ما خُتم به البيان الذي نصّ على أنّ “الفصائل الموقّعة على هذا البيان ومعها مكونات سياسية ومدنية ومجتمعية وشخصيات وطنية في حالة تشاور مستمر للبحث في سبل النهوض بالحالة الوطنية، وتحقيق الوحدة والشراكة لإنجاز المصالحة، وترتيب البيت الفلسطيني ترتيباً شاملا، ودعوة كل فلسطيني وطني غيور إلى التحرك والمبادرة لنكون جميعاً يداً واحدة لحماية مشروعنا الوطني وفق استراتيجية وطنية شاملة”.

فتَح البيان، إضافة لحجم واتساع رقعة المعارضين لانعقاد المجلس المركزي ومسلسل التفرد والهيمنة والتهميش لمنظمة التحرير ومؤسساتها وأنظمتها، باب النقاش واسعاً حول السؤال المحوري: ماذا بعد؟

وهل آن الأوان ليأخذ الفاعلون السياسيون الفلسطينيون، المعارضون لهذا النهج، فصائل وتجمعات وأفراد، زمام المبادرة في تنظيم أنفسهم ضمن جبهة وطنية عريضة في مواجهة التفرد والهيمنة على البيت الوطني الجامع؟

إنّ فكرة تشكيل جبهة وطنية عريضة معارضة لنهج التفرد والهيمنة على منظمة التحرير ليست وليدة اللحظة ولا نتاج مقتصر على بيان القوى الثلاث، وليست رد فعل فقط على انعقاد المجلس المركزي بشكله الحالي، بل هي قديمة جديدة، خضعت للنقاش في العديد من المحطات، ولكنّ اللحظة التاريخية الراهنة هي من الأكثر نضجاً وجهوزية لمثل هذه المبادرة التي يمكن أن تشكّل رافعة وطنية مهمة في إطار توحيد الجهود وتنظيمها لاستعادة البيت الوطني الجامع، والتصدي لمسلسل التنازلات والتفرد والهيمنة الذي تمارسه القيادة الحالية للمنظمة، والتي ما انفكت تأخذ خطوات تساهم في تعزيز تهميش المنظمة لصالح السلطة الناتجة عن إتفاق أوسلو الذي مسخ القضية الفلسطينية، والذي تجاوزه الزمن والواقع ولم يبقَ منه فعلياً سوى هياكل متهالكة لسلطة متمسكة بدورها الأمني، كوكيل للاحتلال في ملاحقة المقاومة وقمع الحريات وتقزيم المنظمة والقضية الفلسطينية عبر خطوات متلاحقة، لن يكون آخرها إعتبار المنظمة كأحد دوائر (الدولة) السلطة بقرار بقانون من رئيسها (تمّ تعديله بعد موجة واسعة من المعارضة).

تجارب تاريخية سابقة بتشكيل ائتلافات معارضة للقيادة المتنفذة

لم تخلُ المحطات والمراحل المفصلية في تاريخ المنظمة وبشكل خاص تلك التي ذهبت فيها القيادة المتنفذة باتجاه مسلسل التنازلات في المواقف والبرامج جنوحاً نحو البحث عن نافذة للتفاوض وقبول خيارات التسوية، من التحركات لقوى المعارضة والتي دأبت في حينه على تشكيل ائتلافات للرفص والتصدي لهذه السياسات في العديد من المحطات.

كان أول هذه المحطات على أثر إقرار البرنامج المرحلي في المجلس الوطني الفلسطيني، وفي ضوء معارضة واسعة من الشعب الفلسطيني لما فيه من تساوق مع مشاريع التسوية غير العادلة، حيث تداعت أربعة فصائل وشكّلت (جبهة القوى الفلسطينية الرافضة للحلول الإستسلامية- جبهة الرفض) والتي استمرت في معارضة خيارات التسوية والتنازل حتى إعلان (الجبهة القومية للصمود والتصدي) كرد على إتفاق “كامب ديفيد” وتوقيع إتفاق بين القوى الفلسطينية عُرف بإسم “وثيقة طرابلس” ينصّ على رفض نهج التسوية ويؤكد على أنّه لا تفاوض مع الاحتلال والتأكيد على ربط الهدف المرحلي بالاستراتيجي.

تلى هذا التشكيل، وفي خضم الإنقسام الحاد بالمواقف بعد خروج منظمة التحرير وقيادتها من لبنان في العام 1982، وكردٍّ على نهج القيادة المتنفذة بالتقرب من الدول الغربية وتبنّي خطاب يميل إلى التسوية، تشكيل (جبهة الإنقاذ الوطني الفلسطيني) في العام 1984 بمشاركة 6 قوى فلسطينية من فصائل العمل الوطني أخذت على عاتقها مهمة التصدي لهذا النهج وعدم الإكتفاء برفضه بل تحركت سياسياً وجماهيرياً لإسقاطه، وهو ما تمّ في دورة المجلس الوطني في الجزائر، حيث تمّ إلغاء إتفاق عمان ورفض قراري مجلس الأمن 242 و338، وبناءً عليه إنتهى العمل بصيغة جبهة الإنقاذ الوطني.

وعلى أثر إتفاق أوسلو، فقد تشّكل (تحالف القوى الفلسطيني – تحالف القوى العشر) والذي ضمّ 10 قوى وفصائل فلسطينية بما يشمل حركتي حماس والجهاد، لم يستمر التحالف كثيراً في العمل حيث انسحبت منه الجبهتين الشعبية والديمقراطية، وصولاً لاندلاع إنتفاضة الأقصى وتوحّد الكل الفلسطيني في ميدان الإنتفاضة والقيادة الموحدة على اعتبار أنّ الإنتفاضة وقوى شعبنا قد تجاوزت أوسلو، والمرحلة تقتضي التوحّد في مواجهة الاحتلال.

صحيح، ومن باب التقييم والنقد، فإنّ المحاولات المذكورة لم تحقق أي اختراق إستراتيجي في ميل القيادة المتنفذة نحو نهج التسوية، إلا أنّها رفعت الصوت الرافض والمعارض لهذا النهج وعطّلته لسنوات، ولم تمنحه الشرعية، ولم ينتهِ أياً منها بدون كبح ولو جزئي لهذا النهج، مع الأخذ بعين الإعتبار أنّ الظرف الإقليمي والدولي لم يكن مؤاتياً لإيقافه بشكل جذري.

جبهة معارضة فلسطينية عريضة ضرورة وطنية

يحظى الموقف الرافض للتفرد والهيمنة اليوم بتأييد شريحة واسعة وفي مقدمتها المقاطعين لاجتماع المجلس المركزي والمتمثلين في كلاً من الجبهة الشعبية، والمبادرة، والجبهة الشعبية – القيادة العامة، والصاعقة، وأوساط واسعة من فتح (ناصر القدوة ومن معه في الملتقى الوطني الديمقراطي)، وتيار كبير في الجبهة الديمقراطية، وحزب الشعب الذي شارك في الجلسة الإفتتاحية وانسحب، والتحالف الشعبي للتغيير، والحملة الوطنية لإنقاذ منظمة التحرير، وعدد مميز من المستقلين، منهم حنان عشراوي، وحسن خريشة، وفيحاء عبد الهادي، ومحسن أبو رمضان، وأحمد عزم، إضافة إلى ريما نزال وغيرهم ممن قاطعوا دون إعلان، إضافة للرفض السياسي من التنظيمات الفلسطينية الغير ممثَّلة بالمنظمة، وبشكل خاص حركتي حماس والجهاد الإسلامي.

تقاطع موقف القوى والتشكيلات الرافضة لهذا النهج مع العديد من الكُتاب وأصحاب الرأي في المشهد السياسي الفلسطيني الذين قدّموا إسهاماتهم في العديد من وسائل الإعلام المكتوبة والمقروءة والمسموعة، مطالبين بضرورة عدم الإكتفاء بالموقف المعارض واستثمار التظاهرة السياسية الصاخبة التي صاحبت إنعقاد المجلس المركزي بصيغته الحالية، مؤكدين على ضرورة توحيد وتعزيز هذه الجهود في إطار جبهة وطنية أو ائتلاف وطني عريض يشمل كل هذه الفواعل السياسية.

المحاذير والفرص

بالرغم من أنّ الفكرة من حيث المبدأ والعنوان هي فكرة تحظى بتأييد واسع، إلا أنّه يعتريها العديد من المحاذير السياسية التي قد يشكّل عدم تلافيها وإيجاد أجوبة لها عوامل تفجُّر لهذه الجبهة المعارضة حتى قبل إنطلاقها، حيث يمثّل الإنقسام ووجود حركة حماس، كقطب سياسي خارج المنظمة، نقطة حساسة لعدد من المعارضين لنهج التفرد والموجودين داخل المنظمة، وهو ما يتطلب الإتفاق مسبقاً على برنامج وأهداف هذه الجبهة العريضة بما يُؤمّن الأجوبة اللازمة على أي تساؤل أو عملية شيطنة قد تنتج عند البدء بخطوات عملية في إطار تشكيل هذه الجبهة الوطنية العريضة، وهو ما يتطلب توحيد الهدف في رفض السلوك المتفرد والمهيمن على المنظمة، واعتبار قرارات التوافق الوطني ومخرجات بيروت هي الأساس في الدعوة لمجلس وطني توحيدي يمثّل كل الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده وعلى اختلاف توجهاته ومرجعياته السياسية.

لا يمثّل العائق السياسي المحذار الوحيد الذي قد يقف عقبة أمام نجاح هذه الجبهة الواسعة، فالحرص على التمثيل لكل أبناء الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده يجب أن يشكّل أولوية، وبشكل خاص في تعزيز تمثيل وحضور الشتات والفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948، وهم الذين تجاوزتهم القيادة المتنفذة وليسوا ضمن (رعايا سلطة أوسلو)، ووجودهم يمنح رافعة أساسية ونقطة تفوّق لصالح نجاح هذه الجبهة الواسعة في تقديم نموذج منظمة التحرير التي نريد، والتي يجب أن تشكّل بيتاً لكل الفلسطينيين.

يجب على التمثيل أن يشمل أيضاً مراعاة حضور الشباب والمرأة والقطاعات المهنية والنخب وأهالي الشهداء والأسرى، كمكوّن أساسي حاضر وموجود ضمن أي جبهة وطنية معارضة للنهج الذي أقصى وهمّش كل هذه الشرائح بل وانتهك حقوقها، فكلما اتسعت صفوف الجبهة كلما كانت فرص نجاحها أكبر وأوسع.

من الضروري والمهم، الإتفاق مسبقاً على أنّ هذه الجبهة المعارضة إنطلقت لتستعيد منظمة التحرير كبيتٍ وطني جامع ومظلة وطنية لـ”الكل” الوطني الفلسطيني، وليست بديلاً بل ومن غير المقبول الحديث عن البديل بأي شكلٍ من الأشكال ولا في أي سياق كان.

تمثّل اللحظة التاريخية الراهنة فرصة مواتية لإنجاح هذه الفكرة ونقلها من حيز التنظير لحيز التنفيذ. فالمعارضة لا تقتصر على قوى بعينها بل على شريحة واسعة داخل الوطن وخارجه، وحتى القوى المشاركة بالمجلس المركزي ومؤسسات المنظمة الحالية تشهد معارضة داخلية رافضة لنهج التفرد والهيمنة، إضافة للرفض الوطني والشعبي لكل ما يجري من ترتيبات تأتي في سياق التجهيز لما بعد الرئيس “محمود عباس” بما يشمل تعزيز وجود حاشيته على سدة الحكم في السلطة والمنظمة، يُضاف إلى كل ذلك الرفض الشعبي الواسع لكل أشكال انتهاك الحريات المتصاعدة التي لم تبدأ بإلغاء الإنتخابات، ولم تنتهِ باغتيال المعارض الفلسطيني نزار بنات وتوسيع دوائر الإعتقالات السياسية.

كل هذه الظروف، مضافاً إليها ما يمكن توصيفه بالـ”النضج السياسي” لدى فصائل وقوى المعارضة التي أصبح خطابها يتّسم بالإنضباط الواعي لأهمية عدم الإنجرار لخطابات الطعن في شرعية تمثيل المنظمة أو طرح بديل عنها، وتكامل الخطاب الواعي الداعي لأهمية الحفاظ على منظمة التحرير كوطن معنوي لكل الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده.

لقد رأى الشعب الفلسطيني والعالم أجمع خلال معركة “سيف القدس” حجم الطاقات الموجودة لدى هذا الشعب، حيث مثّل تكامل فعله في كل أماكن تواجده مع أدواته النضالية والكفاحية إنتصاراً معنوياً وسياسياً لكل الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، فمشهد الجماهير الفلسطينية على امتداد الوطن والشتات، والفعل الكفاحي للمقاومة ولأبناء شعبنا المنتفضين في الضفة والداخل المحتليْن شكّلا لوحة غابت لوقت طويل بفعل الإنقسام والتفرد اللذين يمر بهما شعبنا الفلسطيني ومؤسساته، ولو كان هناك منظمة فاعلة موحَّدة تقود شعبنا لأحسنت إستثمار هذه التضحيات والبطولات لصالح شعبنا وقضيته.

الظروف مهيأة والضرورة الوطنية والحاجة الشعبية تصبّ في إطار التقاط زمام المبادرة والبدء العملي في التداعي والتفاعل بين القوى الفلسطينية الفاعلة والتجمعات والشخصيات الوطنية من أجل تحويل هذه الفكرة لواقع، يحمل هدفاً واحداً ألا وهو إستعادة شعبنا لممثله الشرعي والوحيد وتوحيد الصف الوطني الفلسطيني في إطار التأكيد على أنّنا في مرحلة تحرّر وطني تتطلب توحيد كل الجهود لمواجهة الاحتلال ومخططاته التصفوية.

*كاتب فلسطيني


وسوم :
, , , , , , , , , , ,