في الذكرى الخامسة لاستشهاده: عن باسل الأعرج مفكراً تحررياً

التصنيفات : |
مارس 7, 2022 8:46 ص

*عبد الرحمن جاسم

في المحصّلة، إنّها معركة وجود بين الصهاينة وبيننا: ليس نحنُ الفلسطينيون فحسب، بل نحنُ المظلومون، المستضعفون من جهة، والدول الإستعمارية وحضارتها “الإمبراطورية” من جهةٍ أخرى؛ هذا ما يخلص إليه الثائر الفلسطيني، الشهيد المشتبك باسل الأعرج في غير مقالٍ وأكثر من مقابلة. إنّه يكتب بشكلٍ مباشرٍ ودون لبس: “من لا يضع فلسطين كقضيته المركزية ولا يضع العدو الصهيوني كتناقض رئيسي، سأنبئكم بأنّه سيضل الطريق وسيضر القضايا التي ينحاز لها وسيضر قضيته، من سيفهم أنّ الأمر من باب أنّي فلسطيني فهو مخطئ تماما، الأمر من باب دروس التاريخ والتجارب السابقة وتقدير الموقف وتحليل الوضع الإجتماعي والسياسي والإقتصادي في الإقليم، فلا تحلموا بعالم سعيد مادامت “إسرائيل” موجودة مهما فعلتم من أقصى شرقكم إلى أقصى غربكم، الذهاب لحل التناقضات الداخلية وترك التناقض الرئيسي يعني نهر دم لا نهائي بدون حسم وتفكيك القوى وحروب تدمير ذاتية، لكنّ الذهاب إلى الصراع مع العدو سيقوم بحل أغلب تناقضاتنا الداخلية في خندق المواجهة”.

ويميّز باسل بأنّ “الموضوع ليس فلسطينياً فحسب”: “تقنيا، تمّ تعريف وضع الفلسطينيين في الميثاق الوطني على أنّهم: “المواطنون العرب الذين كانوا يقيمون إقامة عادية في فلسطين حتى عام 1947، سواء من أُخرج منها أو بقي فيها، وكل من وُلد لأبٍ عربي فلسطيني بعد هذا التاريخ داخل فلسطين أو خارجها هو فلسطيني”، وأجد نفسي مباشرة امام تناقض غريب، فحسب هذا التعريف يصبح الجندي الذي يخدم في جيش العدو فلسطينياً أما الشباب اللبناني والإيراني والسوداني والمصري الذين يُهرّبون السلاح إلى غزة ليسوا فلسطينين، وتقنيا، فإنّ الإنتماء والفزعة يجب أن يكونا للأول وليس للثاني .كيف يمكن أن أستسيغ أن يجمعني إنتماء مع شخص يُقرّ بأنّ أولاده أغلى من فلسطين وأنّه سيعترف بأي شيء لحماية أبنائه، في حين أم البطل أحمد الدقامسة التي صرخت في ابنها في المحكمة “إرفع راسك” أنّها ليست فلسطينية”.

سبل المو اجهة

وفي مقالته الأشهر لربما “عش نيصاً وقاتل كالبرغوث” والتي اختار لها عنواناً مذهلا، يجمع فيه بين التفصيل الدقيق لمعرفةٍ بالأرض وجغرافيتها، وبين طرق السؤال، والأهمية الفكرية. إنّ استحضار مثال كالبرغوث في معركةٍ “عسكرية” هو استحضارٌ ذكيٌ للغاية، فالبرغوث بحسب ما يقول باسل: “والبرغوث حشرة صغيرة من اللاجناحيات تنتمي لرتبة Siphonaptera متطفلة على عائل أو مضيف والذي غالبا ما يكون من الثديات، ويبلغ طوله من 1 إلى 4 ملم، يتحرك بشكل قفزات من خلال زوجين من الأرجل الخلفية الطويلة، ويلدغ البرغوث معيله لدغات تتحول إلى بقع حمراء مرتفعة قليلاً ومثيرة للحكة. يملك البرغوث استراتيجية قتالية وتكتيك وتقنيات مذهلة فهو يخزّ ويقفز ثم يعاود الوخز ويتجنب بذكاء شديد اليد أو القدم الساعية إلى سحقه، إنّه لا يستهدف قتل خصمه (بمعنى قتل كامل منظومة العدو الكلب مثلا) بل إنهاكه والحصول على غذائه منه، وإزعاجه وإثارته ومنعه من الراحة وإتلاف أعصابه ومعنوياته، ولتحقيق ذلك لا بدّ من الزمن اللازم للتكاثر، إنّ ما يبدأ وكأنّه عدوى موضعية سيصبح وباءً شاملاً عن طريق التكاثر وتقارب المناطق المهاجمة واندماجها.

ويشرح روبرت تابر (الصحافي والباحث الأمريكي) الأمر على هذا النحو: “ومن الناحية العملية فإنّ الكلب (المضيف أو المعيل) لا يموت بسبب فقر الدم بل لأنّه يضعف باستمرار بسبب انتشاره إذا استعملنا المصطلحات العسكرية، وبسبب عدم شعبيته إذا استعملنا المصطلحات السياسية، وبسبب زيادة الكلفة إذا استعملنا المصطلحات الإقتصادية، وفي النهاية فإنّه لا يعود قادراً على الدفاع عن نفسه، وفي هذه الفترة يكون البرغوث قد تكاثر وتحول إلى وباء بفضل مجموعة طويلة من انتصارات صغيرة استطاع فيها كل واحد أن يمتصّ قطرة من الدم”.

 إذاً نحن –منطقيا- أمام كائنٍ أضعف يقاتل/يهاجم كائناً أكبر وأقوى بهدف إضعافه وإخضاعه. في حقيقة الأمر، يستطيع البرغوث ذلك، لكنّ السؤال الأهم الذي يطرح ههنا، هل يمكن تطبيق ذات الفكرة/المبدأ على الأرض؟ بمعنى، هل يمكن قياس الأمر على “ثورةٍ معاصرة”؟

يستخدم باسل ذات التقنية في شرحه عن الثورة الصينية، وتحديداً تجربة ماو زي دونغ (أو كما تترجم شائعاً ماوتسي تونغ): “يقول ماوتسي تونغ عندما يتقدّم العدو فإننا نتراجع، وعندما يخيّم نناوش، وعندما يتعب نهاجم، وعندما يتراجع نطارده، ويقوم تنظير ماوتسي تونغ لحرب العصابات على ما يشبه “حرب البرغوث”. حلَّ ماوتسي تونغ معضلة سؤال: كيف تستطيع أمة غير صناعية أن تنتصر على أمة صناعية؟ حيث يرى إنجلز أنّ الأمم القادرة على توفير رأس مال أكثر هي قادرة على هزيمة أعدائها، بمعنى أنّ القوة الإقتصادية هي التي تستطيع أن تحسم المعارك لأنّها قادرة على توفير رأس المال اللازم لصنع السلاح. وكان حل ماوتسي تونغ بأن قام بالتشديد على العناصر غير المحسوسة، فالدول القوية صاحبة الجيوش النظامية تُركز عادة على الأمور المحسوسة والأسلحة والشؤون الإدراية وعدد الجنود، أما ماو فقد شدد على: الزمن والمجال والإرادة كما يقول كاتزنباخ، وبالعودة لقول ماوتسي تونغ سابقاً فإنّه يتجنب المعركة متخلياً عن الأرض ويكون بهذا قد قايض المجال بالزمن واستعمل الزمن لخلق الارادة وذلك هو جوهر حرب العصابات. وعلى سبيل التشابه فإنّ العصابات تقوم بحربها تماماً مثل البرغوث ويعاني العدو القوي النظامي نفس السلبيات ونقاط الضعف التي يعاني منها المضيف أو المعيل، في حالة البرغوث، مساحة كبيرة للدفاع عنها، عدو شديد الصغر ومنتشر في كل مكان وسريع الحركة بحيث يصعب القبض عليه فإن دامت المعركة ما يكفي من الزمن فإنّ المضيف لا بد أن يسقط في ساحة المعركة بسبب الإجهاد وفقر الدم، دون أن يجد ما يهاجمه”.

التحشيد والجمع

في الإطار عينه، يؤكد باسل على دور “التحشيد” والجمع و”الصنعة” في تجميع وتراكم الخبرات بمواجهة عدوٍ قادرٍ على البطش بوحشيةٍ بالغة. يدرس الشهيد المشتبك حرفة “الثورة” ويقسّمها على منطقين رئيسيين: المؤمنين بالكفاح المسلّح، وأصحاب “أفكار اللاعنف”. يقارب الأعرج كلا الطرفين بمنطقٍ واحدٍ: كلٌ يقاتلُ في مكانه، بالقدر الذي يستطيعه ضمن المنطق الذي يقدر عليه. لا أحد خارج الصراع، كما لا أحد مستثنى. الكل يعمل بهدف كسب “العقول والقلوب بعد تحديد الأهدف والإستعداد”، مشيراً بالحرف: “هي من المراحل الأكثر أهمية لإنجاح أو فشل أية حركات، إذ أنّ التحرر لا يتمّ إلا من خلال النخب قليلة العدد، ومن هنا تأتي الحاجة إلى جماهير توفر للحركة الدعم والأفراد والموارد والإستمرارية، ولذا، فإنّ عملية إقناع الجمهور بالثورة وكسب تأييد ودعم ومشاركة المجتمع لا يتمّ بسهولة، وعليه، فأن يستخدم القادة عوامل وتقنيات في توظيف الجماهير مثل: الطاعة والإقناع والعدوى والتكرار والتاكيد والنرجسيات الجماعية وتأليفها واختلاقها وتوظيف الدين في التحرك واللجوء إلى التبرير والعوامل النفسية الأخرى في إقناع الجمهور”. هذا الكلام المباشر كان للمؤمنين بفكرة “الكفاح الثوري المسلّح”. أما “مُنظّري اللاعنف”، فهو يتناولهم بشكلٍ آخر، يناسب “تحشيداتهم” و”مناصرتهم” و”منطق قتالهم الخاص”. فيشير الأعرج إلى أنَّ المُنظّر الأمريكي جين شارب، والثائر الهندي المهاتما غاندي يُعدّان من أهم مُنظّري هذا النوع من الأفكار، وكلاهما إتّكآ على نظرية العالم النفسي جان ماري موللر التي تقول: “وفي نفس الوقت يكون هناك بناء للقدرات والتطوير الذاتي مثل مدراس بديلة ومؤسسات بديلة وإعداد للكوادر، وطرق التدخل وتوزيع الأدوار أثناء التدخل وهنا يحصل القمع من قبل الطرف الآخر فتتوسع قاعدتهم الجماهيرية ويكسبون الرأي العام. وهذا يكوّن الرأي العام المحلي أو الرأي العام الوطني أو الرأي العام الدولي حسب طبيعة الصراع.

دور المرأة

يستدرك الأعرج دور المرأة المهم في الصراع، وكيف أنّ تحييدها وإبعادها عن الصراع يجعل الصراع أضعف. إنّه يرسم دور المرأة في المقاومة، لا كمجرّد فعل بسيطٍ فحسب، بل أيضاً كفعل ذو أثرٍ تكتوني (Tectonic Effect)، مشيراً في مقالة “لا تكن مع الاحتلال ضدّهن”: “لذلك عندما تقوم فتاة ما بصفع ذلك الجندي أو تتجرأ على فعل لا يتجرأ الذكر عليه، يقوم الذكر بقياس ذلك على نفسه وعدم قدرته على الفعل ذاته، ويقارن خضوعه أمام ذلك الجندي بانتفاض تلك الفتاة فيشعر بالخزي”. وهذه الفكرة بحد ذاتها توضح وبشكلٍ كبير  الدور الرئيسي للمرأة، لا “كمشارك ثانوي” أو “هامشي” في الفعل “الصراعي المقاوم” بل “كصنو” و”ركن” رئيسي. فشخصيةً مثل “أم نضال فرحات” هل يمكن التعامل معها على أنّها “ثانوية”؟ أو “مهيبة خورشيد” مثلا؟

لطالما كانت المرأة الفلسطينية عبارة عن “جزء” لا يتجزأ من الفعل الثوري المقاوم، وليست “أيقونة” كما يحاول البعض تصويرها وتقديمها. إنّ وظيفة “المرأة” تتعدّى وظيفة القتال بالبنادق فحسب، إنّ دورها أكثر جوهرية ومصيرية: أن تقاتل داخل وخارج المنزل، وهو دورٌ شديد الأهمية ويمكن الحديث عنه مطوّلا.

خسارة معركة ليست آخر الدنيا

في إطارٍ متصل؛ يفهم باسل الأعرج، أنّ “التراجع” و”الهزائم” و”الإنتكاسات” في بعض الأحيان تحدث لحكمةٍ ما، وأنّها ضرورية للبناء عليها، والمراكمة، وأنّ الهزائم ليست نهاية الكون، ولا حتى “الشهادة”؛ مشيراً في مقالة: “الإنتفاضة دمّرتنا: عن هذه الإدعاءات أتحدث”: “في نهاية العشرينات وبداية الثلاثينات إنطلقت ثورة الكف الأسود في فلسطين، وتمّ إخضاعها تماماً والقضاء على عناصرها خلال 4 شهور، فقضوا ما بين شهيد وأسير وطريد. في تلك الفترة أيضاً إنطلقت في فيتنام محاولة للحزب الشيوعي لإطلاق ثورة، تمّ قمعها هي كذلك وتمّ إنهاء الحزب الشيوعي تقريبا. المهم في الأمر أنّه على إثر تلك الثورتين إنطلقت ثورات من أفضل ما قدّمته البشرية لنا: ثورة الكف الأسود التي كانت أحد أهم عوامل ثورة 1936 وثورة الحزب الشيوعي كانت أحد أهم عوامل الثورة الفيتنامية على الفرنسيين، إذ تعلمت القيادات من الأخطاء وقاسوا عليها وصوّبوا الخطأ. لم يزهد الناس وقتها في خيار الكفاح المسلح ولم يجترّوا الخطاب الإستعماري بأنّ الكفاح المسلح لا طائلة أو فائدة منه، بل راجعوا التجربة وحلّلوها وانطلقوا لثوراتٍ أخرى ليتفادوا أخطاءهم”. إذاً الهزيمة في معركة واحدة فحسب، في حد ذاتها ليست نهاية الكون ولا العالم، بل إنّ الهزيمة “الداخلية” وقبولها يعني خسارة “الحرب” بأكملها، وهو ما رفضه باسل بشكلٍ قاطع.

“نقاش” تقني فحسب

خلال الحرب على سوريا، لوحظ وبكثافة أنَّ الإعلام العربي لطالما أشار إلى أنَّ “الصهاينة أفضل بكثير من داعش” وأنّ “داعش” هي أسوأ شيء. هذا الأمر كان باسل الأعرج قد قاربه في نصٍ واضحٍ مباشر، وإن لم يتحدّث فيه عن “داعش” بل تحدّث عن مروياتٍ تقدُّم كيان الاحتلال الغاصب، بما هو ليس عليه: “هناك اعتقاد ينتشر كالنار في الهشيم أنّ الصهاينة “عدو حنون”، ويتمّ دعم وإسناد هذا الإعتقاد بمقارنة أعداد الضحايا وحجم الجرائم المرتكبة في الصراعات الداخلية الموجودة في المنطقة مع جرائم الصهاينة، لكنّ هذا الأمر لا يعني أنّ الصهاينة عدو حنون وخلوق، بل دليل على أنّ الصراع مع الصهاينة والحرب معها كلفته أقل من كلفة أي صراع آخر ممكن أن يشتعل في المنطقة.

نعم، الحرب مع الصهاينة أقل ثمناً من أي حرب أخرى، لا تغرّكم دعايتهم التجميلية”. هذا اللعب على “الفكرة” شبيهٌ باللعب على “التسميات” و”الكنى”؛ كما يحصل في موضوع التطبيع. يخلص الأعرج إليه كما يشير في مقالته: “لتفرغه من روحه.. حوِّله إلى تقني!”، والتي نشرها على مدوّنته: “الطيرواي –يقصد توفيق الطيراوي المسؤول الأمني الفلسطيني- مثلاً بكل بساطة يشرح أنّ التنسيق الأمني هو: “”إسرائيل” بتقلنا هاد بدّو يعمل عملية روحوا اعتقلوه بنروح بنعتقله ليش بتكبروا الأمر”؛ وكلامه صحيح ليش “بنكبر الأمر” ما دمنا نقيس الأمور بناحية تقنية، وتقنياً مش “هالشي الكبير” ما يفعلونه بالتنسيق الأمني ، لكن إن أعدت له السياسي هناك سترى بشكل أوضح الأمور .

لاحظوا مثلاً عندما نتمسّك بالتقني في نقاش التطبيع والمقاطعة كيف يتمّ تفريغ محتوى وروح المقاطعة، يصبح الأمر ببساطة “وشو يعني إذا ختموا على جواز سفري اليهود ؟؟”. هنا يوضح الباسل، بأنَّ النقاش “يتحوّر” كما في النقاش عن “شرور داعش والصهاينة”، فيصبح “نقاشاً تقنياً”، ويكمل :”الطرح التقني للمقاطعة هو ما أوصل إلى هذا، عندما يتمّ طرح السؤال فعلياً أقف مع ذاتي وأقول صحيح “شو هالمشكلة الكبيرة إذا ختموا على جوازه”، لكن عندما أعود للنظر للأمر بمنظوره الصحيح السياسي أجد الأمر يختلف تماما، لا يصبح الأمر وصفاً ممجوجاً (التطبيع) بل يتعدّاه إلى عمالة لايت”.

إذا، نحنُ أمام “تتفيه” النضال/الصراع وتسخيفه واللعب عليه “كلامياً” بحيث يصبح “الموضوع” شجاراً كالذي شهدناه –كما يشير باسل-: “كان يُقال أنّه عندما كانت القسطنطينية محاصرةً كان القساوسة يناقشون كم شيطان يستطيع أن يقف على رأس الإبرة، وهكذا دواليك من مقولات راجت، حتى في انهيار الأندلس وسقوط بغداد كانت المقولات هكذا أيضا. وفي عصر انهيار الخلافة العثمانية وما بعده لفترة طويلة سار الأمر أيضاً على نفس النهج، لغاية عدة سنوات سابقة كان أغلب الخطاب الإسلامي السلفي مثلا، يدور حول كيفية دخول الحمام وكيفية الطهارة، وكيف يقلّ أجرك لأنّك لا تجلس جلسة الرسول صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة. الإسلام تمّ تدمير مشروعه السياسي عبر تحويله إلى تقني بحت على حساب روحه!”.

*كاتب فلسطيني


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , ,