قُرىً نموذجية!

التصنيفات : |
مارس 15, 2022 8:58 ص

*بسّام جميل

لم تكن الخِيام رمزاً فحسب، بل ربما هي لعنة ستظلّ ترافق ظلال المشهد في شرقنا العربي، فأي ملفٍ إنسانيٍّ يمكن له أن ينتهي، ولا تزال هناك أوتاد تُضرب في الأرض حولنا كل يوم؟!

تستمر حملات الإغاثة بجمع ما استطاعت من مساعداتٍ لدعم  العائلات من النازحين واللاجئين في الشمال السوري، رافعة الآمال عالياً بخططها الطموحة لاستبدال الخِيام بمساكن أكثر حضارية  لتحتضنَ ما استطاعت من هذا الشتات. بيدَ أنّ السؤال الذي يجب أن يُطرح هو: “على أي أساس يمكن لمثل هذه الآمال أن تُستأنفَ دون تلقّيها ضربات حاسمة عاجلاً أم آجلا، في ظلّ أجواء الحرب المستمرة منذ عشر سنوات، دون أي مؤشّر على إنتهائها في القادم من الأيام؟”.

بناءُ قرية نموذجية في مناطق لا تزال تتعرّض للقصف وتعيش اضطراباتٍ مستمرة بين الفصائل المقاتلة من المعارضة السورية وقصف روسي يتبعه خروقات النظام السوري، يُضاف إليه الواقع المعيشي المأساوي للعائلات التي تعيش في الخيام.

هل تستطيع القرى النموذجية أن تصمدَ في فقاعة أمنية وهمية لتردَّ عنها القصف المحتمل وعبث أسياد الحرب وأدواتهم في كل الجغرافية السورية، أم أنّها ساحتهم العصية على امتداد الشمال السوري، حيث لا تزال رائحة الدماء تفوح بشكل يومي؟

ستمرّ سنوات أو ربما شهور قليلة في إعادة بناء الأحياء قبل أن يتكرّر مجدداً السيناريو الذي نعجز من خلاله عن ترميم أرواح الضحايا وإن استطعنا أن نبنيَ ونساومَ على الجدران!

يُعيد المشهد تذكيرنا بما يحصل منذ سنوات في غزة، حيث يبقى التهديد مستمراً وقابلاً لأن يتحوّل لحربٍ مفتوحة يعتمد فيها الصهاينة على سياسة الأرض المحروقة، ليعيدوا بها هدم ما تمّ إنشاؤه أو إعادة ترميمه إثر الحرب القريبة التي لم تنتهِ بعد. يصبح الواقع عبثيا، فما يحصل من إنجازات خلال سنوات كمحاولاتِ تعويضٍ معنوي ومادي، يستحيل بين ليلة وضحاها إلى ركام.

ستمرّ سنوات أو ربما شهور قليلة في إعادة بناء الأحياء قبل أن يتكرّر مجدداً السيناريو الذي نعجز من خلاله عن ترميم أرواح الضحايا وإن استطعنا أن نبنيَ ونساومَ على الجدران!

إذا، ما الجدوى من ادّعاءات المنظمات التي تسعى لإنهاء الملف الإنساني بتقديم أبنية قابلة للهدم وآمال كاذبة لن تُنجّي مستهلكيها من الخراب؟!

لا يهم كم عدد الحصص الموزّعة من الغذاء، ولا يهم مقدار الوقود الذي سينقذ البعض في الشتاءات القارصة، ولا تلك الدعوات التي تجمع أموالاً من هنا وهناك. في أفضل الأحوال، سيحصل العاملون في قطاع الإغاثة على رواتبهم الجيدة، وبعد مدة قصيرة من العمل في الميدان، سيتمّ تبديلهم بموظفين جدد، لينالَ الأقدم حصة الراحة التي يستحق، في مكان آخر، أو خلف مكتب بعيد عن هذا الواقع اللاإنساني، لكنّ اللاجئين لا ينالون هذه الفرصة من الإستراحات، ولا يعودون إلى العالم الرمادي المتحضّر.

هناك من نسيَ عشرات العائلات الفلسطينية التي أُجبرت على مغادرة مخيّم اليرموك وسواه من المناطق السورية، ليجدَ نفسه في مشهدية الخِيام مجدداً دون أن تصلَه المساعدات المرجوّة من أبناء وطنه، أو من المسؤولين عنه

حملات تُطلق من داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكعادتهم، لا يوفّر أبناؤها أي جهد لبذل العطاء، فتبدأ الهِبات المجتمعية في الوسط العربي لجمع المال وشراء ما يلزم. أخيراً، تتكاتف الجهود مع حملات أخرى يقوم بها اللاجئون الفلسطينيون في أوروبا، لمنح الأخوة السوريين فرصة الثبات والصمود على أرضهم، وتقديم اليسير من التعويض الذي يستحقونه، فتُبدّل الخِيام بالأبنية. مباركةٌ هذه الجهود، لكن هناك من نسيَ عشرات العائلات الفلسطينية التي أُجبرت على مغادرة مخيّم اليرموك وسواه من المناطق السورية، ليجدَ نفسه في مشهدية الخِيام مجدداً دون أن تصلَه المساعدات المرجوّة من أبناء وطنه، أو من المسؤولين عنه، كالأونروا ومنظمة التحرير، والكثير ممن يتشدّق بأبوّته الشرعية في التمثيل السياسي الذي لا طائل منه.

مخيّمات دير بلوط والمحمدية والبل والصداقة، تجمع العائلات الفلسطينية في الخِيام وتُقصيها عن العدالة تحت ظلال هذا البؤس، لا عن قصدٍ ربما، لكنّه تجاهل يدفعنا لنطرح الأسئلة، ونبحث عن بيّنة ما وسط هذا الضباب.

تُناشد العائلات دون أن تجدَ من يسعفها أو يحفظَ ماء وجهها من مذلة العوز، دون أي حلٍّ يلوح في الأفق القريب. لا العودة إلى فلسطين ممكنة ولا حتى إلى اليرموك الذي بات بعيداً عن التمنّي، لتصبحَ الحكاية ساخرةً تمدّ لسانها، كشارع تتفرّع منه الأزقة في قرى نموذجية، لا تأمن نبْتها ولا السماء ومطرها الناريّ المُهادن!.

*كاتب فلسطيني


وسوم :
, , , , , , , , , ,