فلسطين كضحية لأطماع “ساسة الصدفة”

التصنيفات : |
أبريل 2, 2022 8:36 ص

*أحمد حسن

ثمة مقولة هامة تتردد بين متابعي حركة التاريخ المتدفقة نحو الأمام، مفادها أنّ هذا الأخير “لا تُحرّكه الصدفة”، وهي مقولة تساعدنا في فهم التزامن الواضح بين تحركات بعض “ساسة الصدفة” المأزومين داخلياً وخارجيا.

بعد أسبوعين على إنطلاق العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، أعلن الرئيس الأوكراني فلودويمير زيلينسكي رغبته بإجراء المفاوضات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حول إنهاء الحرب بينهما في القدس، قبله بأيام قليلة كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد استقبل رئيس الكيان الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ بإحتفالية مشهودة، قبلهما كان مجلس الوزراء الفرنسي قد قام بحلّ “رابطة فلسطين ستنتصر” تلبيةً لطلب الرئيس إيمانويل ماكرون على ما أعلن وزير الداخلية، جيرالد دارمانين، وقبل ذلك، مرة جديدة، وفي 24 شباط/فبراير الماضي، كان رئيس هذا المجلس، “جان كاستكس”، ونيابة عن ماكرون أيضاً يعلن، في حفل العشاء الـ36 للمجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا، أنّ القدس هي العاصمة الأبدية لـ”إسرائيل”، وإذا كان “الحلّ” يضرب جوهر القيم الإنسانية -والفرنسية ضمنها- التي تتناول حرية التعبير، فإنّ “الإعتراف” يُضيف إلى ما سبق، إزدراءً بيّناً بالقرارات الأممية ذات الصلة والتي وافقت عليها فرنسا ذاتها في وقت سابق.

وإذا كانت حالة أردوغان واضحة اليوم، وهو يتخبّط بين روسيا وأمريكا محاولاً الهروب عبر التعلّق بذيل الصهيونية العالمية نازعاً عنه رداء فلسطين وقضيتها، فإنّ زيلينسكي، المأزوم هذه الأيام، يحاول، التعلّق أكثر بذيل الصهيونية عبر تقديم خدمة هامة جداً للكيان بإقتراحه القدس مكاناً للتفاوض

وإذا كانت حالة أردوغان واضحة اليوم، وهو يتخبّط بين روسيا وأمريكا محاولاً الهروب عبر التعلّق بذيل الصهيونية العالمية نازعاً عنه رداء فلسطين وقضيتها، فإنّ زيلينسكي، المأزوم هذه الأيام، يحاول، التعلّق أكثر بذيل الصهيونية عبر تقديم خدمة هامة جداً للكيان بإقتراحه القدس مكاناً للتفاوض في أهم أزمة دولية في العالم اليوم برعاية إسرائيلية خالصة، وهو ما يمنح هذه المدينة المقدسة بعداً إسرائيلياً نهائياً في الذهن العالمي كعاصمة أبدية لـ”إسرائيل” الراعية للسلام العالمي!.

بدوره، فإنّ “كاستكس” الذي ربط مجدداً بين العداء للصهيونية والعداء للسامية -خالطاً بذلك بين العداء لعرق محدّد وهو أمر مُدان بطبيعة الحال، والعداء لمشروع إستعماري، إستيطاني، إحلالي، وهو أمر مطلوب وفق مبادئ فرنسا الأنوار ذاتها- قام، في الإجتماع ذاته، بعرض ما تقوم به حكومته في هذا المجال، وهو على ما يبدو من عرضه جهد كبير ومتسع يكاد يطال كل من ينافح ولو بالكلمة عن أحقية القضية الفلسطينية سياسياً أو أخلاقيا، من السياسة إلى الإعلام إلى الإجتماع إلى الإقتصاد، وحتى إلى المدارس “للمحافظة على وعي الأطفال في فرنسا”، كما قال، وهي حملة لا يمكن تشبيهها، من حيث إتساعها وضراوتها إلا بحملات صيد الساحرات القديمة وفق المفهوم والتقليد الأوروبي المعروف.

لكن ما هي جريمة “الرابطة” التي دفعت رأس الهرم الفرنسي للدخول في هذا السعار المنافي لكل تاريخها العلماني ولأسس ثورتها المعروفة؟

أثبتت فرنسا الأنوار، وغيرها من دول الغرب الحرّ الديمقراطي أنّ حرية التعبير المقدسة تنتهي، حتى في بلدانهم ولمواطنيهم، حينما يصل الأمر إلى “إسرائيل”، التي أحاطها الغرب بجدار كاتم من التحريم الديني والدنيوي والقوانين القاسية والمُجحفة بحُجة معاداة السامية

إنّها وببساطة تامة، الإصرار على الدفاع عن القرارات الأممية التي تتحدث عن حقّ الفلسطينيين الثابت بالعودة إلى أرضهم، والمطالبة بتحريرها وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لها، وهذا على ما يبدو الكفر البوّاح في عُرف فرنسا الماكرونية ويستدعي حلّ الرابطة بتهمة تأجيج “الكراهية والعنف والتمييز”!.

وإذا كنّا نستطيع بالطبع وضع هذا “الحلّ” وذاك “الإعتراف” في سياق الإعتداء على الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني، وهي كذلك بكل تأكيد، إلا أنّ هذا، كما أثبتت التجارب السابقة، لا يُفيد في شيء، فللمرة الألف كما يُقال، أثبتت فرنسا الأنوار، وغيرها من دول الغرب الحرّ الديمقراطي أنّ حرية التعبير المقدسة تنتهي، حتى في بلدانهم ولمواطنيهم، حينما يصل الأمر إلى “إسرائيل”، التي أحاطها الغرب بجدار كاتم من التحريم الديني والدنيوي والقوانين القاسية والمُجحفة بحُجة معاداة السامية بعد أن ربط لمرة أخيرة بين العهد القديم والجديد دينيا، وبين “وجودها” ودورها كمخفر متقدّم لمشروعها الإستعماري البغيض دنيويا، وذلك في الحقيقة ما منح الصهيونية العالمية تلك القوة التي تجعلها تتحكّم بقادة وشعوب ومصائر.

وهنا تحديداً يمكن لنا أن نقرأ في هذا التزامن والتكامل بين قراري “الحلّ” و”الإعتراف” الكثير، فذلك يفضح، في ما يفضحه، رهان “ماكرون”، كأي زعيم غربي من “ساسة الصدفة”، على الصهيونية العالمية لدعمه في إنتخاباته الرئاسية المقبلة كما في مخطّطاته الرامية إلى تتويجه زعيماً سياسياً لأوروبا التي تواجه اليوم المعضلة الأوكرانية في شرقها.

بيد أنّ الأمر لا يقتصر، كما أسلفنا، على فرنسا، ونكتفي هنا بأمثلة من التاريخ القريب جدا، فقبل ذلك كانت ألمانيا، التي تبحث اليوم عن دور عالمي وبالتالي تُحاول المزايدة في التقرّب للصهيونية العالمية

وبهذا المعنى نفهم كيف أنّ الرجل الذي بدا مهموماً في الصور التي وزّعها له قصر الإليزيه مما يُسمّيه العدوان الروسي على أوكرانيا داعياً للمقاومة هناك حتى زوال “الاحتلال”، يساهم في الآن بترسيخ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين عبر “إسكات كل حركة التضامن مع فلسطين، ومواصلة دعمهم غير المشروط لـ”إسرائيل” واستعمار فلسطين دونما مساءلة”، كما قالت الرابطة ذاتها.

بيد أنّ الأمر لا يقتصر، كما أسلفنا، على فرنسا، ونكتفي هنا بأمثلة من التاريخ القريب جدا، فقبل ذلك كانت ألمانيا -التي تبحث اليوم عن دور عالمي وبالتالي تُحاول المزايدة في التقرّب للصهيونية العالمية- عبر قناتها الأشهر الناطقة بالعربية، “دويتشه فيله”، قد جنّدت “حملة صليبية” لطرد الإعلامين العاملين فيها والمتضامنين، ولو بكلمة إنسانية في وقت سابق من تاريخهم، مع فلسطين وقضيتها، وكذلك كان الحال مع الكاتب الفلسطيني خالد بركات، “الذي جرى منع نشاطه السياسي والثقافي ثم إبعاده من ألمانيا”، وقبله “المناضلة الفلسطينيّة والأسيرة المحررة رسميّة عودة التي أُبعدت من برلين، ومُنعت من المشاركة في مهرجان جماهيري بمناسبة يوم المرأة العالمي في آذار/مارس عام 2019″، وبالطبع، وكعادتها، كانت الولايات المتحدة سبّاقة في هذا المجال حيث “أُبعدت المناضلة عودة من الولايات المتحدة وصادرت أوراقها الأمريكية”، وهذا غيض من فيض حملة “المكارثية الجديدة” التي تشنّها واشنطن منذ عقود ضد أي تعبير أو تمثيل سياسي أو إقتصادي أو إعلامي أو حتى رياضي، لا يؤمن ويسوّق لحلّها الإستسلامي الكامل لفلسطين.

خلاصة القول، هذا موسم صيد الساحرات في أوروبا، بحثاً عن مجد وموقع سياسي لـ”كهنة” معبد المال الأوروبيين، وضحيته الكبرى هي فلسطين، ليُثبت، وللمرة الألف أيضا، صحة مقولة “ما حكّ جلدك مثل ظفرك”، فهذا هو الحلّ الوحيد، ورهانه، الوحيد أيضا، هو على أولئك “الصامدين”.. فقط لا غير.

*كاتب سوري


وسوم :
, , , , , , , , , , , , ,