عن الدور الفلسطيني في الحروب الأهلية اللبنانية: القصة الكاملة!

التصنيفات : |
أبريل 13, 2022 10:26 ص

*وفيق هوّاري

ما زالت تداعيات الحروب تُلقي بظلالها الثقيلة على كاهل المقيمين على الأراضي اللبنانية، نشهد مزيداً من الإنقسامات بين المكونات الإجتماعية، مزيداً من الإنهيارات الإقتصادية والمالية، تحلّل السلطات والإدارات، البلد يسير إلى فوضى مناطقية ضمن الكيان الواحد، وما زال النقاش يدور حول الأسباب التي أدّت إلى تلك الحروب المتوالية. البعض يُعيد الحروب إلى العوامل الداخلية المتصارعة، والبعض يردّها الى العوامل الخارجية المتدخلة. لم يُحسم النقاش، ولم نصل إلى قواسم مشتركة بين المقيمين لتجنّب الإنزلاق نحو حروب أخرى قد تطال الكيان.

قسمٌ من اللبنانيين ما زال حتى اللحظة يُحمّل اللاجئين الفلسطينيين تبعات الحروب الأهلية ويتهمهم بإشعال فتيلها من أجل استبدال البلد بالوطن السليب، وقسمٌ آخر يُحمّل عوامل إقليمية ودولية مسؤولية تفجير الحروب.

وما زالت وجهات النظر تتوالى في هذا المجال من دون الوصول إلى تحليل ونتائج مشتركة.

يبدو أنّ العامليْن الداخلي والخارجي لعبا دوراً للوصول إلى الحروب المسلحة، وأنّ البنية الإجتماعية في الكيانات الوطنية القائمة في المنطقة تساعد في اندلاع الحروب.

لكن، وفي اعتقاد الكثيرين، أنّ شطب العامل الفلسطيني من الوجود وتهجيره من المنطقة كان العامل الأساس في الحروب الأهلية المتنقلة.

كيف نقضي على السلاح الفلسطيني الذي يتعاظم يوما بعد يوم؟، الجواب الذي توصّل إليه العدو وحلفاؤه، هو تعميق الإنقسامات داخل الكيانات المحيطة وجعل العامل الفلسطيني عنصراً أساسياً في الإنقسام.

لنعود إلى البداية، بعد هزيمة حزيران/يونيو ١٩٦٧، واحتلال العدو الصهيوني كامل الأراضي الفلسطينية، بالإضافة إلى الجولان وشبه جزيرة سيناء، كان الرد الفلسطيني شبه جاهز، الأنظمة العربية لم تستطع أن تعيدَ فلسطين، بل خسرت أكثر، لذلك رأت النخبة الفلسطينية أن تُمسك بيدها القضية، وأن تستخدمَ جميع الوسائل النضالية لاستعادة الوطن والحقوق. توسَّع عمل المقاومة في مختلف المجالات، وازدادت العمليات العسكرية داخل الأراضي المحتلة، حاول العدو الإسرائيلي وضع حد لها وإيقافها، وخير نموذج لذلك كانت معركة الكرامة التي حصلت في ٢١ آذار/مارس ١٩٦٨، التي تكبّد فيها العدو الإسرائيلي خسائر كبيرة.

بعدها تحوّل النقاش عندهم إلى مكان آخر، يأتي السؤال الأساس: كيف نقضي على السلاح الفلسطيني الذي يتعاظم يوما بعد يوم؟، الجواب الذي توصّل إليه العدو وحلفاؤه، هو تعميق الإنقسامات داخل الكيانات المحيطة وجعل العامل الفلسطيني عنصراً أساسياً في الإنقسام.

التجربة الأردنية

بعد تعميق الإنقسام بين المكونات الإجتماعية وغرق الفصائل الفلسطينية في مواجهات مع الجيش الأردني، بدأت الحرب الداخلية في الأردن في أيلول/سبتمبر ١٩٧٠ وصولاً إلى تموز/يوليو ١٩٧١، وانتهت المعارك إلى إنهاء الوجود الفلسطيني المسلح إنطلاقاً من الأردن، وإلى حظر عمل الفصائل الفلسطينية. وبالتالي، تمّ تحقيق الهدف الإسرائيلي بوقف العمل الفلسطيني المسلح عند أكبر جبهة محيطة بها.

التجربة السورية

بعد هزيمة حزيران/يونيو ١٩٦٧، مارست المقاومة الفلسطينية تعاوناً وتنسيقاً مع الحكم السوري عند القيام بأي عمل عسكري أو سياسي إنطلاقاً من سوريا. لكنّ النزاع الحزبي السوري الذي أوصل الرئيس حافظ الأسد إلى السلطة كان له ثمن مع الغرب يقضي بإلغاء البندقية الفلسطينية، لكنّ النظام السوري لم يلغِ البندقية الفلسطينية، لكنّه أمسك بها وضبطها، وجعلها بنداً من بنود سياسته في المنطقة ومفاوضاته مع الغرب حول دوره الإقليمي. وهذا ما أدّى إلى النزاع الفلسطيني – السوري الذي كان شعاره “القرار الوطني الفلسطيني المستقل”.

التجربة اللبنانية

لم يكن الكيان اللبناني منذ تاسيسه عام ١٩٢٠، كياناً موحَّدا، بل كان عبارة عن مجموعات إجتماعية طائفية متفرقة، تاريخ العلاقة في ما بينها تاريخ نزاع حول الحصة والدور المُناط بكلٍّ منها، وعند احتدام النزاع، كان شدّ العصب المذهبي والطائفي هو السلاح الأكثر فتكاً لتحقيق انتصار طرف على آخر.

تتباين مواقف كل مجموعة من أي قضية حسب علاقة القضية بالمجموعة نفسها.

بعد إنشاء الكيان وضمّ الأقضية الأربعة إلى جبل لبنان، أنشأ الإنتداب الفرنسي صيغة جديدة من صيغ النظام الطائفي تقوم على إمتيازات واسعة للمارونية السياسية مع شريك سُنِّي صغير. وتلا ذلك نزاعات واسعة شهدها لبنان، كانت تنتهي في كل مرة بتعديل بسيط في الشراكة الطائفية. وصولاً إلى أحداث ١٩٥٨ التي أدّت إلى تفاهم جديد تحت شعار “لا غالب ولا مغلوب” وبرعاية مصرية وأمريكية.

بعد ذلك، كان هناك حركة شعبية تنمو خارج الأُطر الطائفية لرسم صورة وطن ديمقراطي لا طائفي، عماد هذه الحركة كان اليسار اللبناني، الذي رفع شعار التخلص من الإمتيازات المارونية، من دون أن يشيرَ الى أنّ المشكلة الأساسية هي النظام الطائفي نفسه. وهذا ما أفسح في المجال لأحزاب السلطة يومذاك لشدّ العصب الطائفي تحت حجة أنّهم يريدون إنهاء وجود المسيحيين ودورهم.

من الجهة الفلسطينية، وصل إلى لبنان عام ١٩٤٨ أكثر من ١٠٠ ألف لاجىء فلسطيني، وخلال أعوام قليلة جرى منح الجنسية اللبنانية للفلسطينيين أصحاب رؤوس الاأوال التي دُمجت في الإقتصاد اللبناني، في حين وُزّع الفقراء منهم في مناطق مختلفة لاستخدامهم يداً عاملة في قطاعات مختلفة وخصوصاً الزراعة والبناء.

بعد عام ١٩٦٧، بدأ الوجود الفلسطيني المسلح بالظهور، وتمّ تثبيته في “إتفاق القاهرة”، كل ذلك وسط الإنقسام اللبناني الطائفي الداخلي العميق، وقد استفاد العامل الخارجي من هذا الإنقسام للترويج لخطة سياسية تقوم على أنّ الفلسطينيين يسعون للسيطرة على لبنان، وبناء وطن بديل، وقد انحازت الأحزاب اليمينية والمسيحية إلى هذا الشعار المرفوع، وأعطوا لمعركتهم مهام السيادة والإستقلال ومنع التوطين، في حين رأى اليسار اللبناني والإسلام السياسي من ورائه أنّ معركة الدفاع عن المقاومة الفلسطينية هي محطة على طريق التغيير في لبنان. ازداد الإنقسام حدة وبدأ التسلح يطال الكثير من الناس، وباشرت الأحزاب اليمينية المسيحية بالعمل على تكوين مجموعاتها المسلحة حتى تقف بوجه الوجود الفلسطيني المسلح، وتسعى لاقتلاعه أُسوة بالأردن وكأنّها جاهلة بأنّها تُنفّذ مشروعاً إسرائيلياً وأمريكيا.

بعد انتهاء الوجود الفلسطيني المسلح في الأردن، وصلت قوات فلسطينية كبيرة إلى لبنان، الذي تحوّل إلى القاعدة الأساسية لعملهم المقاوم ومقراً لهيكليتهم القيادية والتنظيمية.

إختلط الحابل بالنابل، مطالب سياسية لبنانية تناشد بإصلاح النظام، ومطالب وطنية تدعو للدفاع عن الجنوب، ومطالب متضاربة حول الوجود الفلسطيني المسلح. بالمقابل، عمليات عسكرية إسرائيلية واسعة وكلها لشدّ العصب بهدف إنهاء الوجود الفلسطيني المسلح.

إنّ التسوية بخصوص السلاح الفلسطيني لم تكن واردة في الخطة الإسرائيلية والأمريكية، وهذا ما دفع “إسرائيل” للقيام باجتياح لبنان واحتلاله عام ١٩٨٢، والإصرار على ترحيل المسلحين الفلسطينيين، وبعدها إرتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا.

الحرب واقعة لا محالة

فكانت بوسطة عين الرمانة، وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير، بعدها بسنوات بدأت أسئلة عدة  تطرح نفسها، أبرزها: هل كان ممكناً تجنُّب الحرب الأهلية؟

ليأتيَ الجواب أبسط من السؤال نفسه: لم يكن ممكناً تجنُّبها، إذا كان الخلاف والإنقسام الداخلي يمكن الوصول إلى تسوية بخصوصه، فإنّ التسوية بخصوص السلاح الفلسطيني لم تكن واردة في الخطة الإسرائيلية والأمريكية، وهذا ما دفع “إسرائيل” للقيام باجتياح لبنان واحتلاله عام ١٩٨٢، والإصرار على ترحيل المسلحين الفلسطينيين، وبعدها إرتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا. وإذا كان السلاح الفلسطيني المتبقّي قد لعب دوراً في مقاتلة الاحتلال الإسرائيلي، إلى جانب المقاومة الوطنية اللبنانية، فإنّ حرب المخيّمات كانت وسيلة تهدف إلى الإمساك بالبندقية الفلسطينية واستخدامها في النزاعات الإقليمية واللبنانية الداخلية.

بعد إتفاق الطائف، وإعادة تركيب النظام السياسي اللبناني وفق سياسة تعكس موازين القوى بعد الحروب المتتالية، فإنّ الوجود الفلسطيني والسلاح الفلسطيني الموجود في مخيّمات محاصرة كان يُستخدم في النزاعات اللبنانية والإقليمية، وخصوصاً بعد عام ٢٠٠٠، وقد حاولت نُخب فلسطينية قراءة ما حصل لكنّ معظم القراءات لم يتجاوز نقد التجاوزات التي ارتكبتها القوى الفلسطينية المسلحة بحقّ أطراف لبنانية مختلفة. وجرى مد اليد إلى معظم القوى التي حملت السلاح ومنها الوجود الفلسطيني المسلح، وكان أبرزها لقاء المصالحة الكتائبية – الفلسطينية، في بيت الكتائب المركزي، والذي انعقد تحت عنوان: “لقاء المصارحة والمصالحة” في ذكرى ١٣ نيسان/أبريل ٢٠٠٨.

تضمّنت الكلمات التي تُليت يومها، جملة مواقف سياسية تؤشّر إلى تجاوز المرحلة السابقة، وأهمية بناء خطوات إيجابية نحو علاقات لبنانية – فلسطينية طبيعية.

لكنّ من دقّق في الكلمات التي أُلقيت، فإنّ الكلمة الفلسطينية التي ألقاها السفير الفلسطيني آنذاك عباس زكي، تضمنت نقداً للممارسات الفلسطينية خلال الحروب الأهلية، في حين أنّ كلمة رئيس الكتائب آنذاك أمين الجميل تضمنت نقداً لتجاوزات إرتكبتها الكتائب ضد لبنانيين وفلسطينيين وأنّ هذه التجاوزات أتت خلال الحرب التي قام بها حزب الكتائب دفاعاً عن سيادة لبنان واستقلاله حسب تعبير الجميل.

الإعتذار

أي أنّ القراءة لدى الطرفين لم تصل إلى مستوى نقد الأهداف الفعلية التي استهدفتها الحروب.

وكان السفير عباس زكي وقّع إعلان فلسطين في لبنان بتاريخ ٧ تموز/يوليو ٢٠٠٨ وأعلنه من مقر السفارة في بيروت. وقد تضمن الإعلان عدة مواقف ودعوات، أبرزها:

-أثقل الوجود الفلسطيني على لبنان، مما رتّب عليه أعباءً فوق طاقته واحتماله، وفوق نصيبه من واجب المساهمة في نصرة القضية الفلسطينية.

-الدعوة الى تنقية الذاكرة.

-الإعتذار عن أي ضرر أُلحق بلبنان، عن وعي أو عن غير وعي.

-ليس الإعتذار مشروطاً بإعتذار مقابل.

-تخلّي دولة لبنان عن مسؤوليتها وإيكالها إلى الأونروا التي تشهد موازنتها ودورها تراجعا.

-فاقم ما سنّته الدولة اللبنانية من قوانين مُجحفة (الإقامة، التملك، التنقل والعمل) الغُبن اللاحق باللاجئين، تذرّعاً بقاعدة المعاملة بالمثل.

-الدعوة إلى معالجة سريعة لهذه الملفات، بمعزل عن أي بعد سياسي أو أمني.

وعلى الرغم من أية ملاحظات قد تُطرح على هذا الإعلان، فإنّ ذلك لا يقلل من أهميته وأهمية الخطوة التي قدّمتها القيادة الفلسطينية، لكنّ القوى اللبنانية المختلفة ما زالت عند رأيها حول الحروب، دون الإقدام على قراءة موضوعية تنطلق من موقع الإنتماء الوطني.

واذا كانت الحروب حتى عام ١٩٨٢ قد استهدفت السلاح الفلسطيني الذي كان يُستخدم ضد العدو الصهيوني، فإنّ بعضه قد استُخدم بعد حرب المخيّمات من قِبل أطراف لبنانية في نزاعاتها الداخلية، من دون أي اهتمام فعلي بالحقوق الإنسانية والإجتماعية للفلسطينيين.

*كاتب لبناني


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , , ,