أين خسرنا ولماذا؟ قراءة في أنثولوجيا الأغنية الفلسطينية (الجزء الثاني): ما بعد التيه 

التصنيفات : |
أبريل 16, 2022 7:07 ص

*عبد الرحمن جاسم

نام “الفن/الغناء” الفلسطيني بعد مرحلة الخروج الفلسطيني من لبنان في العام 1982، ولولا بضع محاولاتٍ من بعض الزجّالين الشعبيين، كالمغني الفلسطيني المعروف أبو عرب لكان من الممكن القول بأنَّ الغناء الفلسطيني في تلك المرحلة “إختفى” بشكلٍ كامل. لم تكن هناك سوى بعض المحاولات القليلة والتي يمكن عدّها على الأصابع؛ ولو شابها أنّها كانت ذات طابع “محلّي” في معظم الأحيان. ظهرت تجارب مثل فرقة صابرين المقدسية في ثمانينيات القرن الماضي، ومغنيتها الرئيسية كاميليا جبران والتي نشطت في الداخل الفلسطيني المحتل؛ لتدشّن الطريق أمام تجارب المؤديات اللواتي غنّين التراث الفلسطيني وعُرفن به مثل ريم البنّا، سناء موسى، تيريز سليمان وسواهن ممن عُرفن أكثر مع بداية الألفية خارج فلسطين عبر مواقع التواصل الإجتماعي أكثر من “الميديا” الكلاسيكية التي لم تكن تستسيغ كثيراً فكرة  أي صوتٍ فلسطيني.

كانت إشكالية الفن الفلسطيني إبان مرحلة التيه، والتوصيف دقيق لناحية أنّ إيجاد مكان أو أرضية فلسطينية تمكّنه من صناعة عمل “فني” فلسطيني بحت هو الأساس، من هنا كان التوصيف. هذا الأمر لم يكن ممكناً في ثمانينيات القرن الماضي في لبنان، إذ أنّ الحروب المتواصلة (حرب المخيّمات وسواها) جعلت من الصعب للغاية إيجاد أرضية مناسبة لخلق تجربة فنية مختلفة، واحتاج الأمر لعشر سنواتٍ وأكثر حتى تخرج تجربة من رحم مخيّمات العائدين في لبنان، كونه البلد الذي يحتضن مخيّماتٍ ذات تأثير فضلاً عن حرية فنية متسعة فظهرت تجربة “راب” فلسطينية مئة بالمئة مع فرقة كتيبة خمسة والتي سنتحدّث عنها لاحقا.

في الداخل الفلسطيني كان الأمر مختلفا، إذ أنّ التجارب كانت تحدث، وإن لم يكن يصل صداها إلا قليلاً للعالم العربي أو للعالم عموما، وكان مجرّد خروج “شريط” أو “قرص مُدمج”(سي دي) من الداخل الفلسطيني للخارج يقابَل بالحفاوة وبنوع من النوستالجيا والمقاومة.

وللملاحظة والدقة: لا يسعنا في هذا المقال البحثي القصير -بجزئه الثاني- أن نقدّم جميع تجارب الفِرق الفنية الفلسطينية، بل هي محاولة لتقديم بعض من صورة ولو أنّها ستكون قاصرة بالتأكيد أو “ظالمة” لأنّها لن تتحدث عن الجميع، لذلك سنحاول أن نمرَّ على تجارب نجدها مؤثرة أكثر من غيرها؛ لذلك آثرنا أن نتحدّث عن تجربتين بحد ذاتهما: “كتيبة خمسة” كتجربة غير كلاسيكية، مع فنٍ شبابي حديث لمؤدين من مخيّمات العائدين في لبنان و”صابرين” كفرقة كلاسيكية (أو شبه كلاسيكية) من الداخل الفلسطيني المحتل.

الداخل الفلسطيني: “صابرين” نموذجاً

تلاتين نجمة تهوي على وادي السرو

نص العمر يهوي

وتغيرت الأيام واتبدلت الأحلام

واتكسرت سروة

من أغنية تلاتين نجمة (شعر حسين البرغوثي – غناء فرقة صابرين)

يمكن النظر إلى فرقة صابرين، باعتبارها واحدة من أهم تجارب الداخل الفلسطيني الفنية وهي من القليلة التي تستمر حتى اللحظة في أنشطتها. الفرقة التي أنشأها الملحن والمؤدي الفلسطيني سعيد مراد والتي سرعان ما ضمّ إليها الشابين خالد وكاميليا جبران في العام 1981 (كاميليا انضمت في العام 1982)؛ لتنطلق بعدها الفرقة في ألبومات قوية تمازج فيها الجاز بالموسيقى الشرقية بالقصائد لكبار الشعراء الفلسطينين كمحمود درويش، سميح القاسم، حسين البرغوثي وسواهم.

تميزت الفرقة بثلاث نقاط جعلتها تتبوأ مكانة رئيسية في عالم الغناء الفلسطيني -في الداخل أو في الخارج- الأولى، هي شعر حسين البرغوثي الذي عرّفت الفرقة العالم العربي عليه. الميزة الثانية، هي صوت كاميليا جبران المتقن، المميز والخاص. أما الثالثة، فهي التجريبية الموسيقية التي عنونت لغة الفرقة الموسيقية، فجرّبت كثيرا، وجعلت الطريق ممهدا، ومؤسساً لجميع من أتوا بعدها من الفرق الفنية الفلسطينية وفتحت الطريق أمامهم ليقبلهم جمهورٌ فلسطيني/عربي.

وعبر ألبومات مثل “جاي الحمام” (1994) استطاعت أن تكسر نمطية الأغنية الفلسطينية والتي نظلمها إن قلنا بأنّها كانت نمطية تقليدية خصوصاً كما أشرنا في المقال السابق مع أعمال “فرقة العاشقين”. لكن توقُّف الأغنية الفلسطينية لسنوات عن التطور، جعل الأمر إشكالياً إلى حدٍ كبير، العامل الذي ساعد تجربة صابرين بأن تكون واحدة من أهم التجارب الغنائية الفلسطينية. قدّمت الفرقة كما أشرنا قصائد بلغةٍ محكية فضلاً عن اللغة الفصحى، فقدموا أغنية “رام الله 1989” والتي يمكن إعتبارها من أكثر الأغنيات الفلسطينية حزنا، إذ يحضر فيها “الحزن الوجودي” الذي يشبه “القدر المطبق”. وتقول كلماتها:

مرات بمشي لحالي بنص الليل،

والليل مثل النهر

وايدي في جيبي يا بصفر يا بدخن،

هيك من كثر القهر

كل المدينة مسكرة فش حدا غير الفضا والجيش

أعطت كلمات البرغوثي التمايز الكبير للفرقة، إذ أنّها قدّمت كلمات محكية فلسطينية ذات منطق “فلسفي/وجودي” مرتفع، وهذا يحسب للفرقة كثيرا؛ فبرغم عمق الكلام كان بسيطا، مباشرا، سهل الإستيعاب والفهم. في الإطار عينه، قدّمت الفرقة الأغنية العاطفية والتي دمغتها على الطريقة الفلسطينية فأدّت كاميليا جبران قصيدة عبد اللطيف عقل “حب على الطريقة الفلسطينية” والتي كُتبت بالفصحى:

أعيشك في المحل، تيناً وزيتاً

وألبس عريك ثوباً معطّراً

وأبني خرائب عينيك بيتاً

وأهواك حيا، وأحياك ميتاً

وإن جعت أقتات زعتر

هذه الصور المباشرة للأسير الفلسطيني والعاشق والذي تمازجت فيها الثنائية المعشوقة /الأنثى، والمعشوقة فلسطين، جعلت من هذه الأغنية/القصيدة واحدةً من أكثر الأغنيات سماعاً وشهرةً للفرقة. فالنسيج المتقن للأغنية قرّب مفهوم “الحب والمقاومة” معا، مما جعل الحب مرادفاً للصلابة والإستمرارية. الحب الذي عادت الفرقة وطرقته في ألبومها الثالث “جاي الحمام” من خلال أغنية “رسالة من مبعد”، التي كتبها وبالفصحى هذه المرّة حسين البرغوثي:

عيناك غابة زنبق

تحت الغروب

وأمامك أهذي وأعرق

وأقول الوداع

نلتقي في ذات يوم

ويداك أمطار على ورد على جبل يطل على شباكنا

 بنفس الوقت قدّمت الفرقة في ألبومها الأول “دخان البراكين” رسالتها على غرار فرقة العاشقين، فكما غنّى العاشقون في أغنيتهم “الكلام المباح”: بأن “الكلام المباح ليس مباحاً ونغنّيه، فالأغاني سلاح”، أشارت “صابرين” إلى أنَّ:

بعض الأغاني صرخة لا تطرب

فإذا استفزتكم أغاني إغضبوا

يا منشئين على خرائب منزلي

تحت الخرائب نقمة تتقلب

إن كان جذعي للفؤوس ضحية

جذري إله في الثرى يتأهب

(غناء “صابرين” والشعر لسميح القاسم)

ولم تكتفِ الفرقة بذلك بل إنّها في ألبومها الرابع “على فين” بغناء قصيدة “سجر البن” للشاعر اللبناني طلال حيدر، والتي غنّاها كذلك مارسيل خليفة، وإن أضفوا عليها لونهم الخاص، ولغتهم الموسيقية وقدرات كاميليا جبران الأدائية المرتفعة:

بيني وبينك سجر البن

وحب الهال وزهر النوم

بيني وبينك تسع جبال

وعرب وصحرا وغيبة يوم

هذا المزيج المدهش من الأغنية الحديثة والتي تقارب الألم والصراع الفلسطيني مع الاحتلال جعل فرقة “صابرين” تجربة خاصة وفاتحةً مهمة للغناء الفلسطيني المتنوّع.

الراب الفلسطيني: “كتيبة خمسة” نموذجا

الجمعيات/هدول مصاري الوطن

الجمعيات/اللي بحطوهن بيشيلوهن

الجمعيات “..” هادا الزمن

الجمعيات/ولك الناس عم بتموت

من أغنية الجمعيات لكتيبة خمسة (كتابة المجموعة)

أتى الراب الفلسطيني كمحاولة شبابية/شعبية راهنة/معاصرة للتواصل بين شبابٍ فلسطيني لم يجدوا أمامهم من “بنيةٍ” فنية سوى بعض الأغنيات القديمة الكلاسيكية النمط واللغة، والتي واجهوا صعوبةً في التواصل معها. إرتبطت معظم التجارب القديمة/السابقة -إلى حدٍ كبير- بلغةٍ موسيقية شبه كلاسيكية، من هنا رأى معظم الشباب الفلسطيني أنّها تشبه “التجربة القديمة” للتنظيمات الفلسطينية، فتعاملوا معها بقدرٍ من الإحترام، وإن لم يشعروا بأنّها تشبههم، وفضلوا الخروج من عباءتها.

تأتي تجربة فرقة “كتيبة خمسة” واحدة من أهم التجارب المحلّية القادمة من مخيّمات العائدين الفلسطينية في لبنان. الفرقة القادمة من مخيّم برج البراجنة للعائدين الفلسطينين، ظهرت في أواخر تسعينيات القرن الماضي حينما اجتمع خمسة مؤدين شباب هم: أسلوب، مولوتوف، جزّار، شاهد عيان وعبد الجبّار ليقدّموا ألبومهم الأول “أهلاً فيك أخوي بالمخيّمات”. جاءت هذه التجربة -كمثل تجربة “صابرين”- فاتحةً قوية ومهمة للشباب الفلسطيني ليقارب من خلال الراب مشاكل مجتمعه بعيداً عن “التغريب” و”التسطيح” و”التسخيف” التي عانت منه كثيرٌ من تجارب الراب العربية قبل “الكتيبة”. لم تكن “كتيبة خمسة” فرقة الراب الوحيدة التي ظهرت في تلك المرحلة، فكان هناك في الداخل الفلسطيني عدّة تجارب مثل MWR وفرقة “الدام” وسواهم، لكن ظلّت تجاربها داخلية، لأسباب كثيرة أبرزها عدم تقبّل وسائل الإعلام الكلاسيكية نهائياً غناء الراب. وبالعودة لـ”كتيبة خمسة”، وعلى الرغم من تأثر الفرقة بتجارب راب عربية وعالمية، إلا أنّها أصرت أن تقارب القضايا المحلية دون أي محاباة أو مجاملة، وما كانت أغنية “الجمعيات” إلا بمثابة صرخة قوية ضد الجمعيات أو الـNGO’s العاملة في الوسط الفلسطيني والتي تستغل جوع الناس وحرمانهم لتسرقهم، بحسب ما تقوله الفرقة في أغنيتها. كذلك قدّمت الفرقة أغنية “أهلا فيك أخوي بالمخيّمات” والتي كانت سمة ألبومهم الأول قائلين:

لشباب زهقوا الحياة عمال بيعبوا فراغات

ولحيط صامد بالمخيّم هادا للذكريات

وآخر قرش بيجي بتسرقه الجمعيات

غيروا المكاتب بس عشكل التنظيمات

لوقت بنشوف كل شي عم يتدمر بنحارب عشانه

صورة الزعيم بتضلها صامدة لحالها

واللحمة ما بتتوزع إلا للبيحملوا لافتات

وبعدهن عم يتضحكوا علينا صحاب البدلات

خلصت الأغاني الوطنية خلص دقوا البيت

كانت هذه الأغنية رسماً واقعياً لجيل جديد من الفلسطينين والعرب الشباب الذين لم يعرفوا إلا حياة المخيّم القاسية الأقرب إلى “السجن” الذي تمارس فيه “الجمعيات” لعبتها، حيث تصبح هي بديلاً “للتنظيمات” ويصبح كل ما يناضل نحوه الشعب الفلسطيني مسروقاً من قبل “أصحاب البدلات”. مثّلت الأغنية لغةً مختلفةً سواء لناحية الكتابة أو لناحية الموسيقى البسيطة مع “كورس” على عادة أغاني الراب يسهل حفظه والغناء معه:

“أهلا فيك أخوي بالمخيّمات/أهلا

أهلا فيك أخوي بالمخيّمات/أهلا”

لم تكتفِ الفرقة بأن تقارب مشاكل الشارع الفلسطيني/اللبناني بل تعدّته أيضاً إلى مشاكل الوطن العربي، فتحدّثت عن الغزو الأمريكي للعراق من خلال أغنية “العراق” والتي لايمكن نسيان مقطع “مولوتوف” منها:

أزاز القنينة خرقة تياب  وشوية بنزين

لا للديمقراطية تحيا العراق وفلسطين

في إشارة للديمقراطية الأمريكية الزائفة التي أتت على ظهر الدبابات لاحتلال العراق لا لتحريره. كما ظهر كورس أغنية “ليلة الحصاد” الذي حمل رسائل عالمية:

الفلاحين الحصّادين المقاتلين العمّال

العائدين إلى أرضهن بإذن الله يقال

الفنانين المنسيين بأرضهن ميتين

إلهن ولإلهن يوم الحصاد ناطرين

كذلك في الألبوم، هناك أغنية كانت الفرقة قد كتبتها بعد عدوان العام 2006 الصهيوني على لبنان، حينما دُمّرت ضاحية بيروت الجنوبية، هذه الأغنية شهدت كذلك تعاون الفرقة مع شاعر يكتب بالفصحى هو عبد الرحمن جاسم، واستخدمت الفرقة كلمات قصديته لصناعة كورسها:

أرى، أنت، حلماً لا ليس لي

هذا جعل الفرقة “حدثاً” ضاجاً وحقق لها شهرةً لا بأس بها، مما مكّنها من إنتاج ألبومها الثاني “الطريق واحد مرسوم” والذي شهد إرتفاع مستواها عن السابق موسيقيا، أدائيا، وكذلك من حيث الصنعة الموسيقية. فاستخدم أسلوب صانع الموسيقى الرئيسي في الفرقة، خطابات لمناضلين فلسطينيين معروفين مثل “الحكيم” جورج حبش (الأمين العام للجبهة الشعبية) في “مقدّمة” الألبوم (intro)

بنفس الوقت لم تنسَ الفرقة معاناة المخيّمات، فقاربت هذه المرّة واحدة من أكبر قضايا المجتمع الفلسطيني الحالي، وهي العلاقة مع “الأونروا” فقّدمت أغنية “نكهة صهيونية”:

نكهة صهيونية

أونروا

نكهة صهيوني بالمدارس/نكهة صهيونية

أونروا

نكهة صهيونية بالعيادة/نكهة صهيونية

أونروا

نكهة صهيونية بالوكالة/نكهة صهيونية

https://www.reverbnation.com/katibe5كتيبه/song/10699699–

في نفس الوقت لم تنسَ الفرقة أن تقارب الشأن اليومي المُعاش، فقدّمت أغنية “تشرق صواريخ”. كانت “تشرق صواريخ” ردة فعل الفرقة ورؤيتها إبان العدوان الصهيوني على قطاع غزّة والذي أسفر عن مئات الجرحى والشهداء في تلك المرحلة:

شباب جاهزة

أغصان يابسة

ساعات لابسة

عبوات ناسفة

معش في فايدة

ترابي بيعرفني

إرثي أسقيه

هنا قاربت الفرقة شعور المقاومة لدى الشارع الفلسطيني بمواجهة عدو مجرمٍ لا يرحم. كانت اللغة في الأغنية مباشرة، لا لبس فيها، الكلمات التي استُخدمت كانت تمتلك لغة المحكي المضاف إليه الغضب الشديد مع موسيقى وترية حزينة في الخلفية لتعطيَ الإنطباع المشرقي الحزين بطريقة وجدية خاصة. لاحقا، ومع تعثّر الوضع اللبناني الإقتصادي والإجتماعي هاجر معظم أعضاء الفرقة إلى الغرب. بعضهم ذهب إلى بريطانيا وبعضهم الآخر إلى فرنسا، ولكن يستمر نشاطهم، وإن تفرّد أسلوب بأنّه لا يزال هو الأكثر نشاطاً بينهم ويُحسب له أنّ لغته الفنية لا تزال تحمل الكثير من التطور الموسيقي والإدائي.

*كاتب فلسطيني


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , , ,