ترابط ساحات الفعل الفلسطيني، واقع نافذ بقرار المقاومة

التصنيفات : |
أبريل 22, 2022 6:45 ص

*أحمد الطناني – غزة:

لم يكن خافياً على أحد التطورات المتلاحقة في تصاعد حالة الإشتباك الفلسطيني مع الاحتلال الصهيوني على امتداد فلسطين التاريخية، والذي تطور بشكل كبير خلال الأسابيع الأخيرة بعد موجة العمليات البطولية التي نفّذها فدائيون فلسطينيون من الأراضي المحتلة عام 1948 والضفة الغربية، وتصاعد حالة المقاومة المسلحة في شمال الضفة المحتلة وبشكل خاص في محافظة جنين.

تصاعد الفعل الميداني مترافقاً مع إسناد المقاومة

هذا الإشتباك المتصاعد ترافق مع تصاعد محاولات المتطرفين الصهاينة في جماعات الهيكل وغيرها من الجماعات اليمينية المتطرفة للحشد لاقتحامات متتالية في المسجد الأقصى، إرتكزت فيه دعواتهم على تنفيذ “ذبح القرابين” في ساحات المسجد الأقصى، في أكبر انتهاك وتهويد للمسجد الأقصى من سنوات، وهو ما قُوبل بحشد فلسطيني كبير على كافة الأصعدة، بدءاً من الحشد الجماهيري وزحف المرابطين من كل المدن والقرى التي يمكنها الوصول للمسجد الأقصى سواء من الضفة المحتلة أو الداخل الفلسطيني، إلى جانب المقدسيين الصامدين.

على الصعيد الآخر، كانت الصورة الأبرز، الإجتماع الفصائلي الواسع في قطاع غزة بدعوة من فصائل المقاومة، للتباحث في سبل الرد والتصدي للإعتداءات الصهيونية المتصاعدة بحقّ الشعب الفلسطيني وبشكل خاص في القدس وجنين، والتصدي لمحاولة ذبح القرابين في المسجد الأقصى، حيث كان لافتاً الحضور الوطني الواسع لكل مكونات الطيف الفلسطيني للإجتماع، وتوجيهه لرسائل ساخنة أهمها الإنعقاد الدائم لغرفة العمليات المشتركة للأذرع العسكرية لفصائل المقاومة، وإعلان حالة التعبئة الشاملة في صفوف الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده دفاعاً عن القدس وجنين.

تزامناً مع الإجتماع الفصائلي في قطاع غزة، توالت التصريحات من رأس الهرم في كيان الاحتلال مؤكدة عدم السماح بذبح القرابين في المسجد الأقصى، وتأكيد شرطة الاحتلال على أخذ الإجراءات اللازمة لمنع تنفيذ هذه الدعوات، إضافة للحديث العلني من وزير حرب الكيان حول عدم الرغبة بتطور مواجهة مع المقاومة بقطاع غزة، وذلك في إطار سعي الكيان لاحتواء ونزع فتيل الإستنفار المقاوم في القطاع للمشاركة في التصدي للإعتداءات على القدس وأهلها ومقدساتها، حيث كان مشهد إنطلاق معركة “سيف القدس” في رمضان من العام السابق حاضراً في ذهن الجميع.

الرضوخ الدولي لنفاذ سياسة ترابط الساحات

لم يتوقف الحراك الفصائلي من قيادة قوى المقاومة في قطاع غزة عند عقد الإجتماع، بل تبعه عدة تحركات دبلوماسية شملت التواصل مع كل الأطراف ذات العلاقة والإتصالات المتلاحقة والمتبادلة، ما بين الوسيط المصري وقادة فصائل المقاومة، والتدخل القطري والأردني والمبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، والأمين العام لجامعة الدول العربية، شهدت هذه الإتصالات محاولات حثيثة لنزع فتيل التصعيد، وأخذ مطالب المقاومة من أجل تخفيف التوتر، وبشكل خاص بعد القمع الكبير لقوات الاحتلال للمصلين والمرابطين بالمسجد الأقصى صباح يوم الجمعة الماضي، واعتقال أكثر من 400 من المرابطين بالمسجد الأقصى.

لم تأتِ هذه الإتصالات من فراغ، ولا نتاج لرفاهية، أو إيجابية من غالبية الأطراف سالفة الذكر تجاه المقاومة على اختلاف فصائلها، بل هو نتاج أمر واقع بات الجميع يعلمه، أنّ خيار ترابط ساحات الفعل الفلسطيني هو خيار استراتيجي أخذته قوى المقاومة الفلسطينية، وليس شعاراً للإستهلاك الإعلامي، وهذا الخيار عُمّد بالفعل قبل القول، وهو ما أجبر الجميع، وفي المقدمة منهم الكيان الصهيوني على أخذ هذا الترابط بالحسبان في إرساله لرسائل التهدئة.

لم تكن رسائل التبريد المنقولة من الوسطاء لفصائل المقاومة كافية، فالسلوك الميداني للقوات الأمنية الصهيونية وجيش الاحتلال، وقطعان مستوطنيه في المسجد الأقصى الذي لم تتوقف إقتحاماته بقي حاضراً في خطاب وسلوك قيادة المقاومة، التي أكدت أنّ خيار المواجهة والتصدي للإعتداءات الصهيونية هو الخيار الوحيد المطروح على الطاولة، وأنّ مخططات التقسيم الزماني والمكاني التي يحاول الاحتلال تحويلها لأمر واقع، لن تمر أياً كان الثمن، وأنّ كل الساحات هي ساحات فعل ومواجهة للدفاع عن القدس، وفي هذا الإطار إنتقلت هذه التحذيرات من البيانات والتصريحات إلى صاروخ إستهدف غلاف غزة، تبعه إطلاق مضاد الطيران على الطائرات الصهيونية المُغيرة على القطاع، في رسائل بالنار حول جدية المقاومة في استخدام كل خياراتها.

كان الإجتماع الثاني لفصائل المقاومة في غزة، واضحاً وصريحا، المقاومة على أهبة الإستعداد ليس هذا الأسبوع، ولا هذا الشهر، بل على الدوام.. عيونها ترقب الاحتلال وبنادقها شاخصة جاهزة للدفاع عن شعبها، ليس في القدس وحده، بل القدس وجنين والنقب والناصرة ويافا وكل بقعة فلسطينية يتمادى فيها الاحتلال بعدوانه.

لم تنتقل المقاومة لمرحلة تثبيت إستراتيجية ترابط ساحات الفعل الفلسطيني بشكل غير مدروس وممنهج، بل هو حصيلة سنوات من العمل على صعيدين: الأول، صناعة الوعي. والثاني، تعزيز الحضور والفعل وأدواته

تدرّج المقاومة في تثبيت إستراتيجية (ترابط الساحات)

لم تنتقل المقاومة لمرحلة تثبيت إستراتيجية ترابط ساحات الفعل الفلسطيني بشكل غير مدروس وممنهج، بل هو حصيلة سنوات من العمل على صعيدين: الأول، صناعة الوعي. والثاني، تعزيز الحضور والفعل وأدواته، حيث بدأت أولى الخطوات الكبرى في تثبيت هذه الاستراتيجية باستعداد المقاومة للتدخل العسكري لمواجهة مخطط الضم الصهيوني الذي كان مفترض أن يتمّ بشكله الفج والصارخ في النصف الثاني من العام 2020 كجزء من صفقة القرن، إلا أنّ التخوف الصهيوني والتقدير الأمريكي في حينه لحجم الأثر الذي سيترتب على هذه الخطوة، دفعهم لتأجيلها.

كانت تجربة مواجهة مخطط الضم، هي بالون الإختبار العملي الأول حول إمكانية وجدوى هذه السياسة، إلا أنّ النموذج العملي الصارخ كان في معركة “سيف القدس” التي وضعت فيها المقاومة كل ترسانتها وقوتها في إطار الدفاع عن القدس في وجه الإنتهاكات الصهيونية المتصاعدة، ليتبع الفعل المقاوم، تصاعد الفعل الفلسطيني في كل أماكن تواجده، وتكامل أشكال هذا الفعل ما بين الشعبي والمسلح، حيث هبّت جماهير الشعب الفلسطيني في الداخل المحتل والضفة المحتلة إلى الشوارع والمواجهات الشعبية مع قوات الاحتلال في تكامل مع نيران المقاومة من قطاع غزة، والمبادرة المقاومة من جنوب لبنان وسوريا عبر الرشقات الصاروخية التي انطلقت من هناك لأول مرة، إضافة لموجة التفاعل الشعبي الواسع من اللاجئين الفلسطينيين المنتشرين في بقاع المعمورة الذين هبّوا للشوارع دعماً للمقاومة ونصرةً للقدس.

هذا المشهد الكبير الذي تبلور في معركة “سيف القدس” نقل إستراتيجية ترابط ساحات الفعل الفلسطيني من حيز التفكير والتنظير، إلى حيز التنفيذ الفعلي، وكانت نتائجها صادمة للصديق قبل العدو، فالشعب الفلسطيني الذي تعرّض لعقود من برامج التدجين وتعزيز الثقافة الإستسلامية والخيارات الفردية على حساب الموقف الجمعي الوطني، بقي هو الشعب الفلسطيني التوّاق للحرية الذي داس بأقدام شبابه على كل هذه البرامج مع أول مواجهة عبّرت عن قناعات أبنائه في كل أماكن تواجده، آمن فيها كل فلسطيني بقدرته على المساهمة في المقاومة ودوره في معركة التحرير الكبرى.

منذ معركة “سيف القدس” لم تهدأ الساحات الفلسطينية ولم يتوقف فعلها، بل هو في تصاعد وتفاعل رغم كل الإجراءات الصهيونية الساعية لتفكيك الآثار الوطنية التي ترتبت على المعركة، إلا أنّ شعلة الثورة والمقاومة قد عادت واشتعلت وتنامت في نفوس الآلاف من الشبان الفلسطينيين، وهو ما جعل العام المنصرم من أكثر الأعوام أهمية وقيمة منذ انتهاء إنتفاضة الأقصى، إذ أنّ المدّ الثوري الفلسطيني آخذ بالتصاعد والتوسع، ونقاط الإشتباك بزخمها وقوتها تعود إلى الواجهة، حيث بات مشهد الإشتباك مع الاحتلال هو مشهد يومي تشهده مدن الضفة المحتلة، والحراك الفلسطيني الرافض لمخططات (الأسرلة) والمدافع عن حقوق الشعب الفلسطيني والمتمسك بأرضه آخذ في التصاعد في الداخل المحتل، وكل هذا في تكامل مع الفعل المقاوم في قطاع غزة الذي تجنّد ليكون سيفاً ودرعاً لكل فعل فلسطيني في أي مكان في العالم.

ركزت الحكومة الصهيونية الحالية على تقديم المساعدات والتسهيلات المدنية “الإرتباط المدني” سعياً منها لتعزيز الهدوء دون تقديم أي تنازلات سياسية حقيقية، وربطت كل اجتماع لقيادات السلطة وبشكل خاص وزير الشؤون المدنية فيها برِزم جديدة من التسهيلات

حلول السلام الإقتصادية والرشاوى الصهيونية في مواجهة ترابط الساحات الفلسطينية

منذ تولّي حكومة “بينت- لابيد” الحالية مهامها الحكومية، تبنّت الحل الإقتصادي كوسيلة للتعامل مع الفلسطينيين، إذ تركزت هذه السياسة على تقديم مجموعة من التسهيلات الإقتصادية التي تساهم في تحسين المستوى المعيشي لبعض الشرائح، إلا أنّ هذه الحلول التي تُمثّل في واقع الأمر “رشاوى إقتصادية” لم تكن بعيدة عن جوهر محاربة فكرة ترابط الساحات الفلسطينية، إذ ارتكزت بشكل رئيسي على تقديم رِزم الحلول الإقتصادية لكل تجمع فلسطيني على حدى، بحيث تتحول هذه الحلول إلى مواد لابتزاز ومقايضة للمواقف الوطنية مقابل الإمتيازات.

ركزت الحكومة الصهيونية الحالية على تقديم المساعدات والتسهيلات المدنية “الإرتباط المدني” سعياً منها لتعزيز الهدوء دون تقديم أي تنازلات سياسية حقيقية، وربطت كل اجتماع لقيادات السلطة وبشكل خاص وزير الشؤون المدنية فيها برِزم جديدة من التسهيلات التي شملت زيادة بطاقات الـVIP لقيادات السلطة، إضافة لكشوفات لمّ الشمل للمواطنين، فهي تحاول أن تحاكي الإمتيازات الذاتية لتلك القيادات، إلى جانب تقديم تسهيلات مدنية للسكان تجعل التفكير في خيار المقاومة مكلف من حيث التخلي عن هذه الإمتيازات وغيرها.

هذه الطريقة ذاتها إستخدمها الاحتلال مع قطاع غزة، عبر زيادة أعداد العمال، والسماح باستمرار المنحة القطرية، والتلويح الدائم بالمزيد من التسهيلات طالما التزمت غزة بـ”الهدوء” وعدم التدخل في الساحات الأخرى، ووقف الخطاب “التحريضي” الذي يدعو لتصيعد المقاومة.

وفي ذات السياق، بنى التحالف الحكومي بين منصور عباس رئيس القائمة الموحدة، والإئتلاف الحكومي الحالي، والقائم على تقديم مجموعة كبيرة من التسهيلات الإقتصادية ومشاريع التطوير وتسوية الأوضاع للفلسطينيين في الداخل المحتل، مقابل استمرار وتصاعد مشاريع “الأسرلة” ودمجهم بالمجتمع الصهيوني، وفصلهم عن قضيتهم الفلسطينية.

لم تنجح كل هذه المحاولات الصهيونية لشراء “الصمت الفلسطيني” ومواجهة استراتيجية وحدة الساحات عبر سياسة تفتيت الساحات بالإمتيازات والرشاوى الإقتصادية، إذ أنّ الشعب الفلسطيني بقواه الحية قد أثبت بما لا يدع مجالاً للشك، أنّ كل هذه الإمتيازات لن يكون لها قيمة أمام أي ثابت من الثوابت الوطنية، وأنّ تكامل الفعل الفلسطيني في تصاعد وتوسّع، والإستراتيجية الجديدة تحوّلت إلى واقع نافذ، وكل جولة أو مواجهة أو تصعيد هي خطوة للأمام في تثبيت هذه المعادلة ومغادرة المربعات الضيقة والقضاء على فكرة الكانتونات الفلسطينية المتفرقة المنشغلة بخصوصياتها على حساب القضية الوطنية وبرنامجها الجامع.

*كاتب فلسطيني


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , , ,