مخيّم نهر البارد: الأدوار المتوازية بين التدمير وإعادة الإعمار (الجزء الأول)

التصنيفات : |
مايو 20, 2022 9:54 ص

*وفيق هوّاري – صمود:

خمسة عشر عاماً مرت على حرب مخيّم نهر البارد، التي اندلعت في العشرين من أيار/مايو ٢٠٠٧، بين الجيش اللبناني وتنظيم فتح الإسلام، الحرب التي شهد خلالها لبنان واحدة من أعنف المعارك العسكرية منذ انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية وتوقيع إتفاق الطائف.

سقط جرّاء الحرب في مخيّم نهر البارد ١٥٨ قتيلاً من الجيش اللبناني، وأكثر من عشرين مدنيا لبنانيا، إضافة إلى تهجير نحو ٢٥٠ عائلة لبنانية كانت تقيم في جوار المخيّم. أما المقيمون في المخيّم، فهُجّروا جميعا، وبلغ عددهم نحو ٣٣ ألف شخص، وسقط ٣٠ مدنياً فلسطينيا، كما قُتل ٢٢٦ مسلحاً من فتح الإسلام. وترافق اندلاع الإشتباكات مع توتر سياسي لبناني داخلي بصدد دور كل جهة لبنانية في توتير الأجواء التي أدّت إلى المأساة.

ديموغرافيا المخيّم

يقع المخيّم ما بين بلدة بحنين، بلدة المحمرة وبلدة ببنين في شمال مدينة طرابلس، عند الخط الساحلي الذي يصل لبنان بسوريا شمالا.

لم تطله الحروب الأهلية اللبنانية، لكنّه نال نصيبه من الاعتداءات الإسرائيلية تاريخيا.

كان مخيّم نهر البارد سوقاً إقتصادية حيوية لمنطقة الشمال اللبناني، وخصوصاً لتميّزه بالإستقرار النسبي قياساً بالمخيّمات الأخرى. وحسب الإحصائيات المتوفرة، فقد ضمّ المخيّم، قبل حربه، ١٧٤ مؤسسة تجارية و١٠٣١ محالاً صغيرا، وحوى ٢٢ مؤسسة إجتماعية و١٣ نادياً رياضياً و٨ روضات للأطفال، و٨ مدارس تغطي جميع مراحل التعليم ما قبل المرحلة الجامعية.

كان أمن المخيّم بيد الأجهزة الأمنية اللبنانية، حتى توقيع إتفاقية القاهرة، حينها تولّت الفصائل الفلسطينية هذه المهمة.

أُنشئ المخيّم المذكور من قِبل إتحاد جمعيات الصليب الأحمر عام ١٩٤٩، وسكان المخيّم هم من اللاجئين الذين أُقفلت بوجههم الحدود السورية عام ١٩٤٨، بحجة أنّ أعداداً كبيرة دخلت سابقاً الى سوريا. وكان بعض سكانه قد لجأ إلى المعسكر الفرنسي، قرب بحيرة القرعون في البقاع، وتمّ نقلهم لاحقاً إلى المخيّم، وضمّ أيضاً عائلات فلسطينية سكنت في منطقة خان العسكر في طرابلس.

تعود أصول سكان المخيّم إلى منطقة الجليل والساحل الشمالي في فلسطين، خصوصاً قرى سعسع، صفورية، الدامون، جاحولا، السموعي، البروة، الصفصاف، لوبيا، عمقا، الشيخ داوود والغابسية. وسكن أهل كل بلدة في حارة أُطلق عليها اسم بلدتهم، وكان وجهاء كل بلدة يلعبون دور زعيم البلدة في الحي، ويتولّون توزيع المساعدات على الأهالي، أما أمن المخيّم فكان بيد الأجهزة الأمنية اللبنانية، حتى توقيع إتفاقية القاهرة، حينها تولّت الفصائل الفلسطينية هذه المهمة.

جغرافيا المخيّم

بعد تزايد عدد السكان وهجرة الكثيرين منهم إلى دول الخليج، اشترى العديد من أهالي المخيّم عقارات محاذية للمخيّم بداعي السكن وذلك قبل نيسان/أبريل ٢٠٠١، تاريخ صدور قانون التملّك اللبناني الجديد الذي منع اللاجئ الفلسطيني من حقّ التملّك.

كانت مساحة المخيّم الأصلية لا تتجاوز ٢ كلم مربع، لكنّها وصلت إلى نحو ٣ كلم مربع بعد شراء العقارات، وهذه المساحات الجديدة عُرفت بإسم المخيّم الجديد.

بعد بدء الحرب الأهلية اللبنانية عام ١٩٧٥، لجأ إلى “نهر البارد” فلسطينيون من مخيّمات أخرى، وخصوصاً من تل الزعتر وسكنوا في حيّ أُطلق عليه إسم “حيّ المهجّرين”.

سُبل العيش

إحتلّ المخيّم مكانة إقتصادية مهمة وتحوّل إلى سوق شمالي مركزي، يؤمّه الناس من مختلف المناطق الشمالية لتصريف إنتاجهم، وشراء احتياجاتهم، وحسب دراسة لمنظمة العمل الدولية فإنّ ٦٣% من عمّال المخيّم كانوا يعملون خارجه وفي مهنٍ مختلفة.

حُمّل أهل مخيّم نهر البارد مسؤولية ما قام به تنظيم فتح الإسلام الذي كان يضمّ أقلية من التابعية الفلسطينية.

جاءت حرب “نهر البارد” لتدمّرَ دوره الإقتصادي وتساعد على انهياره كسوقٍ تجاري أساسي في الشمال اللبناني، وحُمّل أهله مسؤولية ما قام به تنظيم فتح الإسلام الذي كان يضمّ أقلية من التابعية الفلسطينية.

ألف باء “فتح الإسلام”

يقول إعلامي فلسطيني كان يتابع حركة تنظيم فتح الإسلام:

“عند نشوء تنظيم فتح الإسلام، أعلنت وسائل الإعلام أنّه مجموعة فلسطينية منشقّة عن حركة فتح – الإنتفاضة، لكنّ الواقع ليس كذلك، لأنّ زعيمه شاكر العبسي كان إسلامياً متطرفاً ومطلوباً لأكثر من جهة، فقد كان معتقلاً في الأردن وفي سوريا، ويبدو أنّه قبل الإفراج عنه من قِبل السلطات السورية مع مجموعته التي لا تتجاوز الـ٦٠ شخصاً من مختلف الجنسيات العربية، ممن كانوا قد قاتلوا في العراق، قبل وصولهم إلى لبنان لإعلان إمارة إسلامية تتخذ من المخيّمات الفلسطينية وما يمكن السيطرة عليه من الأراضي اللبنانية المجاورة.. مقرّاً لها، مع إلصاق التهمة بالفلسطينيين، ما يُفسح المجال أمام السلطات السورية للتلاعب بالمكونات اللبنانية والفلسطينية”.

وحول تمركز مجموعات التنظيم في “نهر البارد”، يوضح الإعلامي الفلسطيني: “تمركزت المجموعة في المخيّم بعد انكشاف خطتها من داخل تنظيم فتح – الإنتفاضة، واعتراف مسؤول الأخير أبو خالد العملة بمعظم المعلومات المتعلقة بفتح الإسلام، وذلك بعد مطاردة قوى الأمن اللبناني، والأمن الفلسطيني لعناصر فتح الإسلام في مخيّمات الجليل، برج البراجنة والبداوي. ما دفعهم للتجمع في مخيّم نهر البارد وإعلان وجودهم من خلال احتلال مكاتب فتح –  الإنتفاضة”.

لا يمكن فصل العامل الداخلي عن العامل الخارجي، وإذا كان الخارج يسعى لاستخدام الساحة اللبنانية، إلا أنّ بُنية فتح الإسلام الأساسية هي بُنية لبنانية

إعلامي لبناني تابع موضوع فتح الإسلام، يقول:

“لا يمكن فصل العامل الداخلي عن العامل الخارجي، وإذا كان الخارج يسعى لاستخدام الساحة اللبنانية، إلا أنّ بُنية فتح الإسلام الأساسية هي بُنية لبنانية، ونذكر هنا مجموعة سير الضنية التي اشتبكت مع الجيش اللبناني عام ٢٠٠٠، وكان مشروعها إقامة إمارة إسلامية في الشمال، وتقاطعت المصالح مع آخرين من جنسيات مختلفة، وخصوصاً أنّ المجموعات الإسلامية المتطرفة لا تقيم وزناً للإنتماء الوطني. وكان من الطبيعي نشوء مثل هذه المجموعة بعد عودة العديد من أنصار هذا الإتجاه المتطرف من أفغانستان، والدليل على ذلك بالعودة إلى قتلى فتح الإسلام ونسبة اللبنانيين منهم، ونسبة من تمّ اعتقالهم بعد نهاية الحرب. ونذكر في هذا المجال أبو جعفر القدور الذي قُتل خلال فراره وكان عنصراً أساسياً في التنظيم إلى جانب آخر من آل جوهر ما زال فارّاً حتى اللحظة. ويعود السبب الأساس لهذه الظاهرة إلى غياب شروط التنمية في منطقة الشمال وندرة فرص العمل، وأنّ استقرار التنظيم في نهر البارد يعود لسبب جوهري، هو أنّ المنطقة خارج سيطرة السلطات اللبنانية”.

ناشط فلسطيني آخر يصف تنظيم فتح الإسلام بأنّه: “حالة أبعد من حدود لبنان، وأكبر من مخيّم، لأنّ فتح الإسلام بتكوينه وفكره لا يعترف بحدود ولا بأوطان. ولأنّ الحدود مغلقة بوجهه لجأ التنظيم إلى الخاصرة الرخوة، إنّها حالة تخريبية وظاهرة سوداء تعمل وفق قاعدة إلغاء الآخر، إنّها مشروع فتنة”.

ويروي الناشط الفلسطيني ما عايشه خلال وجود تنظيم فتح الإسلام في نهر البارد، لكنّه يبدأ برسم صورة عن زعيمه شاكر العبسي: “بدأ شاكر العبسي حياته في حركة فتح، وتلقّى تدريبات في الجزائر، وكان يحلم أن يكون مثل تشي غيفارا، وبعد الجزائر تدرّب كضابط طيار في صحراء ليبيا، حيث وجد نفسه بعيداً عن فلسطين، فعاد إلى سوريا وانشقّ عن فتح مع أبو موسى، لكنّ عمله اقتصر على الحضور إلى المكتب يوميا، يومها، فكّر في القيام بعملية عسكرية في الجولان، لكنّ المجموعة اعتُقلت وحُوّلت إلى المحكمة العسكرية بتهمة مخالفة القوانين، ثم عملت فتح – الإنتفاضة على إطلاق سراحه.

عام ٢٠٠٣، توجّه إلى العراق لمقاتلة الأمريكيين، شأنه شأن العديد من الفلسطينيين، لكنّه وقع ضحية المجموعات الإسلامية المتطرفة، وأقام علاقة مع أبو مصعب الزرقاوي. واقترن رجل مقرّب من الزرقاوي يُدعى “أبو ليل” بإبنة شاكر العبسي وصار ملازماً له”.

يضيف الناشط الفلسطيني: “بعد تجربة العراق، ورفض المجتمع العراقي لهذه المجموعة، لجأ العبسي ومجموعته إلى الحدود السورية، وناشدوا أبو خالد العملة العمل على إدخالهم إلى سوريا أو لبنان، وأرسل العبسي رسالة إلى القاعدة لاعتمادهم في لبنان، لكن القاعدة رفضت ذلك لاعتبارها أنّ لبنان بلد نُصرة وليس بلد جهاد.

إستطاعت المجموعة كسب الوقت لإنشاء قاعدة عمل مُحصّنة وقوية، وصرف أموال بسرعة قياسية واستقطاب إسلاميين فلسطينيين ولبنانيين من داخل المخيّم وخارجه

في النهاية، تمكّن التنظيم من الدخول إلى منطقة حلوة اللبنانية. وهناك، حصلت حادثة اشتباك مع الجيش اللبناني أدّت الى مقتل أحد عناصر العبسي، وتمّ نعيه بصفته فلسطيني من تلّ الزعتر، لكنّه في الحقيقة كان سورياً من حمص.

بعد هذا الحادث، إنتشرت المجموعة التي لم تكن تزيد عن ٦٠ شخصاً بالإضافة إلى عائلاتهم، في مخيّمي برج البراجنة والبداوي، وفجأة تركوا برج البراجنة. وفي البداوي حصل اشتباك بينهم وبين الفصائل سقط فيه عنصر من جبهة النضال، وبعد مداهمة مراكزهم تبيّن أنّ هناك مركز في البداوي للتواصل مع الخارج.

وبعد اعترافات العملة، أعلنت المجموعة عن وجودها تحت إسم “فتح الإسلام” في مخيّم نهر البارد”.

كيف كانت ردة فعل أهالي المخيّم والفصائل؟

يقول الإعلامي الفلسطيني: “في بداية وجودهم، لم تتشكّل حولهم بيئة حاضنة، ولكن مع تأخُّر قوى الشرعية اللبنانية والفلسطينية في مهاجمتهم واعتقالهم، استطاعت المجموعة كسب الوقت لإنشاء قاعدة عمل مُحصّنة وقوية، وصرف أموال بسرعة قياسية واستقطاب إسلاميين فلسطينيين ولبنانيين من داخل المخيّم وخارجه، وأسفر ذلك عن انحياز واسع ومؤثّر لمصلحتهم وخصوصاً أنّ علاقتهم مع حركة حماس كانت جيدة من مختلف النواحي، كذلك قدرتهم على بناء علاقات مع الشيوخ ومسؤولي الجوامع”.

ويوضح الإعلامي الفلسطيني رؤيته لموقف الفصائل بالقول: “كان موقف الفصائل إنتهازياً بشكل عام، الفصائل التي على علاقة مع النظام السوري، تفهّمت الموضوع وصمتت.

وأعلنت الفصائل اليسارية موقفها بأنّها لا يمكن أن تضع نفسها في مواجهة مع الإسلاميين.

أما حركة فتح، فكان لديها أكثر من موقف، موقف متشدد يريد العمل مع الدولة اللبنانية لإنهاء الظاهرة، وموقف مرن تبنّته القيادة المحلية تفادياً للاشتباك، وقد نجح الموقف الأخير لأسباب مجهولة، وتحوّلت قيادة فتح إلى ما يشبه الوسيط، ثم وقفت خلف الحكومة اللبنانية والجيش اللبناني وقدّمت الدعم السياسي والإسلامي”.

ويشير الإعلامي الفلسطيني إلى الإتصالات والإجتماعات التي كان يجريها السفير الفلسطيني عباس زكي آنذاك، ومحاولاته الوصول إلى موقف حاسم من أهالي المخيّم ضد “فتح الإسلام”، لأنّه طلب منهم إعلان موقف يتبرّأون فيه من التنظيم ويطالبون بخروجهم من المخيّم، ويوضح ذلك بالقول: “حسب المعلومات التي توفّرت آنذاك، فإنّ وجهاء المخيّم غضبوا من السفير الفلسطيني واتّهموه بالعمل لمصلحة الدولة اللبنانية وحكومة السنيورة وقيادة الجيش، وكان كلامهم قاسياً ضد قيادة السلطة في رام الله”.

في البداية كان موقف أهالي المخيّم رافضاً لوجود “فتح الإسلام”، وكان البعض يطالب بطردهم، ولكن بعد سيطرتهم على مكاتب فتح – الإنتفاضة ومركز صامد، بادروا بزيارة الوجهاء ورؤوس العائلات وعدد من المشايخ، وقدّموا مساعدات مختلفة بحيث صار المجتمع أكثر تقبّلاً لهم.

ويتحدّث الإعلامي اللبناني إلى ناحية أخرى ويقول: “في متابعة قضية “فتح الإسلام” آنذاك، حاولت التواصل مع المسؤول الإعلامي الخاص بالتنظيم، وأذكر أنّ اسمه كان “أبو عاطف”، لكنّه رفض إجراء مقابلة شخصية، كذلك رفض إجراء مقابلات مع صحافيات لبنانيات، ومع صحافي هولندي، واكتفى بالقول إنّه يمكن إجراء المقابلة عبر الهاتف، لكنّ ذلك لم يمنعنا من المتابعة، وقد تبيّن وجود زيارات دورية كان يقوم بها وجهاء وشخصيات لبنانية إلى مركز فتح الإسلام حيث يتمّ عقد اجتماعات مطولة، وذات مرة شوهد أحد الأشخاص المعروفين في المنطقة يصل إلى مركزهم في سيارة مرسيدس سوداء اللون، وهذا يؤشر إلى احتضان قوى لبنانية للتنظيم”.

لكن، ثمة رواية خاصة بالناشط الفلسطيني تقول: “في البداية كان موقف أهالي المخيّم رافضاً لوجود “فتح الإسلام”، وكان البعض يطالب بطردهم، ولكن بعد سيطرتهم على مكاتب فتح – الإنتفاضة ومركز صامد، بادروا بزيارة الوجهاء ورؤوس العائلات وعدد من المشايخ، وقدّموا مساعدات مختلفة بحيث صار المجتمع أكثر تقبّلاً لهم.

وعندما حصل اشتباك معهم وسقط أحد عناصرهم قتيلاً (عبد الرحمن المصري) وهو فلسطيني من غزة، أقاموا مجلس عزاءٍ واستقبلوا الكثير من المعزّين وخصوصاً اللبنانيين منهم.

رفض أحد الأطراف الفلسطينية الدخول في مفاوضات مع “فتح الإسلام” بحجة عدم إعطائهم الشرعية، لكنّه في الواقع لم يكن يريد اتّخاذ موقف حاسم ضدهم.

وكان خوفهم من تدهور وضع المخيّم إقتصادياً بسبب موقفهم الرافض. وكان الجيش قد بدأ بمحاصرة المخيّم.

ثم طلبت القيادة الفلسطينية منهم إخلاء المراكز المسلحة والخروج من “نهر البارد” خلال ٧ أيام، على أن يتمّ الإهتمام بالعائلات، يومها علّق العبسي بالقول: “إنّهم يستخفون بقدرة الشعب الفلسطيني على العطاء، ونحن هدفنا تحرير فلسطين، وأطلق ضحكة عالية”.

في ما رفض أحد الأطراف الفلسطينية الدخول في مفاوضات مع “فتح الإسلام” بحجة عدم إعطائهم الشرعية، لكنّه في الواقع لم يكن يريد اتّخاذ موقف حاسم ضدهم”.


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , ,