الثقة بالمقاومة ثابتة، والنقد حاضر

التصنيفات : |
يونيو 1, 2022 8:44 ص

*أحمد الطناني – غزة:

مرّت مسيرة الأعلام يوم الأحد الماضي، لكنّها لم تمرّ في شوارع القدس فقط، بل في عقول وقلوب ونفوس الملايين من الشعب الفلسطيني والعرب والأحرار في العالم، الذين انشدّت أعصابهم وانتفضت حواسهم منذ ساعات الصباح الأولى، متابعين وسائل الإعلام التي كانت تنقل أحداث هذا اليوم الجلل من المدينة الأجلّ: قدس الأقداس، متشوقين لحدث صارخ يوقف المسيرة، يعطلها، يبعثر شتات المستوطنين المحتشدين بالآلاف أمام باب العامود، حيث مرّت الساعات كالسنوات والجميع ينتظر، العيون شاخصة، وغالب الأمل انحصر في غزة التي وقرت قلب الترقب.

كان مرور يوم الأحد بدون فعل مقاوم مسلّح وصارخ يوقف المسيرة الصهيونية أو يغيّر مسارها، بمثابة خيبة أمل كبيرة لجموع الجماهير العريضة التي رأت في المسيرة اعتداءً إجرامياً على المدينة المقدسة، على الحقّ الفلسطيني الثابت فيها، على ما تمّ إنجازه في “سيف القدس”، وانعكست هذه الخيبة على ما ظهر من نقاشات وكتابات عمّت وسائل الإعلام التقليدية والحديثة، وسادت في الأوساط الشعبية والنخبوية، فهل أصابت المقاومة؟ أم أخطأت؟ هل تراجعت أو تخاذلت؟ وهل خسر الشعب الفلسطيني ومقاومته ومحور القدس ما تمّ تحقيقه في معركة سيف القدس؟

لا جواب واحد لكل التساؤلات، لكنّ الثابت أنّه لا وصفة جاهزة للجوء إليها كلما تمادى الاحتلال، وليست كل الحسابات مُعلنة، ولا المقاومة وقيادتها وليدة اللحظة، أو قليلة الخبرة، أو عهدنا بها نقص في الإقدام والتضحية، فما الذي حدث؟؟

لا جواب واحد لكل التساؤلات، لكنّ الثابت أنّه لا وصفة جاهزة للجوء إليها كلما تمادى الاحتلال، وليست كل الحسابات مُعلنة، ولا المقاومة وقيادتها وليدة اللحظة، أو قليلة الخبرة، أو عهدنا بها نقص في الإقدام والتضحية، فما الذي حدث؟؟

من المهم التأكيد أنّ معركة “سيف القدس” لم تكن معركة المقاومة في غزة فقط، ولم تبدأها غزة، وإن كان فعلها هو الأكثر زخماً إرتباطاً بعسكريته، إلا أنّها كانت معركة الشعب الفلسطيني، المعركة التي تكامل فيها الفعل الشعبي مع المقاومة المسلحة، والتي فجّرت القدرة الكامنة لدى الشعب الفلسطيني الذي عانى عقوداً من محاولات التفتيت والتجزيء والتدجين.

إنّ أهم إنجاز حقّقته المعركة كان الربط ما بين الساحات، الربط بين غزة والقدس واللد وجنين والنقب ونابلس وكل بقعة فلسطينية، مسنودة بمخيّمات الشتات وملايين الأفئدة والحناجر في العالم، هذا الربط لم يكن حدثاً عابراً بل تحولاً استراتيجياً يستحقّ التمسّك به والإستثمار فيه، والتضحية من أجل الحفاظ عليه وتطوير ديمومته.

بعد عام على “سيف القدس” أصرّ الاحتلال على تنفيذ مسيرة الأعلام التي فجّرت المواجهة في العام المنصرم، إلا أنّ هذا الإصرار الاحتلالي ترافق مع إجراءات واستعدادات غير مسبوقة، أمنياً وعسكريا، بدأت بحملات واسعة من الاعتقالات وأوامر الإبعاد والغرامات على المقدسيين والفلسطينيين في الداخل المحتل لإجهاض أي تحرك جماهيري مواجه لمسيرة الأعلام.

لم تكن المقاومة في غزة بعيدة عن أعين الاحتلال الصهيوني، الذي كثّف من تهديداته بحقّ قادتها، وأطلق مناورة (عربات النار) التي تُحاكي هجوماً واسعاً على عدة جبهات، مع استنفار عسكري وأمني واسع جداً يرافقه مئات الطائرات الحربية والإستطلاعية التي لم تغادر أجواء قطاع غزة، والحدود الشمالية لفلسطين المحتلة، في استعداد ضخم وكبير للتعامل مع أي حدث فارق.

رئيس وزراء الكيان ووزير جيشه كانا بحاجة لمواجهة عسكرية مع المقاومة استعدّ لها جيش الاحتلال جيداً وأعدّ لها الخطط والسيناريوهات، لتحصيل إنجازات إنتخابية على أنقاض البيوت المدمرة في قطاع غزة

لا يمكن قراءة السلوك الصهيوني بدون الأخذ بعين الإعتبار الأزمة الحكومية والأبعاد السياسية والإنتخابية لدى قادة الاحتلال، فمن المعروف أنّ الحكومة الحالية هي حكومة هشّة بدون أغلبية برلمانية يعي قادتها بوضوح أنّ الإنتخابات الجديدة هي قاب قوسين أو أدنى، وبالتالي فإنّ الفرصة القائمة هي فرصة لإرضاء اليمين الصهيوني المتطرف وجمع الأصوات والمزايدات الداخلية وحشد الناخبين على حساب الدماء الفلسطينية، فرئيس وزراء الكيان ووزير جيشه كانا بحاجة لمواجهة عسكرية مع المقاومة استعدّ لها جيش الاحتلال جيداً وأعدّ لها الخطط والسيناريوهات، لتحصيل إنجازات إنتخابية على أنقاض البيوت المدمرة في قطاع غزة، وهذا انعكس في التصريحات الصهيونية التي أكدت على عقد المسيرة حتى لو كان الثمن: المواجهة.

من المنطقي أن تأخذ المقاومة في اعتباراتها كل المؤشرات الميدانية والسياسية في كيان الاحتلال، وأن تقرأ سلوكه وتحلّله وتبني تقديرها لموقفها وفق أسس مهنية وعلمية بناءً على خبرات إستخباراتية ومعلوماتية أثبتت الأيام قدرتها على تحليل سلوك الاحتلال واستشراف نواياه، وهذا التقدّم الإستخباراتي لدى المقاومة ليس محصوراً بفصيل بعينه أو ببقعة جغرافية بعينها، بل هو جزء من غرفة أمنية مشتركة للمقاومة الفلسطينية وحزب الله اللبناني والحرس الثوري الإيراني وغيرها من اللاعبين الأساسيين في محور المقاومة، أي أنّه تقدير مبني على جمع إستخباراتي متعدد الجهات والقدرات والخبرات.

ليس مطلوباً من المقاومة أن تخوض معاركها ارتباطاً بلحظات عاطفية، ومن غير المنطقي أن نتوقع منها أن تتقدّم إلى معركة مُجهّزة مُسبقاً من طرف العدو الذي استعدّ لها جيدا، ولا مقبولاً أن تغامر بجموع شعبها إلى معركة غير محسوبة

ليس مطلوباً من المقاومة أن تخوض معاركها ارتباطاً بلحظات عاطفية، ومن غير المنطقي أن نتوقع منها أن تتقدّم إلى معركة مُجهّزة مُسبقاً من طرف العدو الذي استعدّ لها جيدا، ولا مقبولاً أن تغامر بجموع شعبها إلى معركة غير محسوبة بعد سنوات من مراكمة القوة الممزوجة بدماء ولحم وعرق جموع المحاصرين في قطاع غزة الصامد ومئات المقاومين حول العالم الذي يشقّون الصخر لتأمين خطوط إمداد وشريان حياة يحافظ على ديمومة الفعل والتطوير.

على حجم الثقة المطلوبة باستطاعة المقاومة على تقدير موقفها جيداً والإيمان المطلق بإقدامها وفعلها ونضج تجربتها الإستخباراتية، إلا أنّه من غير المنطقي أيضاً أن لا يكون خطاب النقد حاضراً لاستخلاص العِبر من جولة من جولات متعددة، فالنقد هو نقد للبناء والتقويم، وليس نقداً بهدف تهشيم النموذج أو جرح الصورة الناصعة للمقاومة.

إنّ ما ساهم بشكل أساسي في تشكيل خيبة الأمل الكبيرة مرتبط بشكل أساسي في المغالاة بالتصريحات من المستويات السياسية وصُنّاع الرأي المحسوبين على الفصائل الفلسطينية الذين عززوا الشعور بأنّ الرد العسكري للمقاومة، وبشكل خاص في قطاع غزة، هو في قلب المعادلة لمواجهة المسيرة

في إطار النقد، لا يمكن أن نغفل أنّ ما ساهم بشكل أساسي في تشكيل خيبة الأمل الكبيرة، التي يشعر بها الجزء الواسع أبناء الشعب الفلسطيني وجمهور المقاومة في كل مكان، مرتبط بشكل أساسي في المغالاة بالتصريحات من المستويات السياسية وصُنّاع الرأي المحسوبين على الفصائل الفلسطينية الذين عززوا الشعور بأنّ الرد العسكري للمقاومة، وبشكل خاص في قطاع غزة، هو في قلب المعادلة لمواجهة المسيرة (بخلاف تقديرات المستويات العسكرية ومستويات صنع القرار في ذات الفصائل)، وهو ما يتطلب الوقفة الجادة أمام أهمية ضبط التصريحات وتحديد سقفها، وربط تصريحاته بما يمكن تنفيذه وتحقيقه حتى لا تفقد هذه الفصائل مصداقيتها لدى شعبها وجمهورها وحاضنتها الشعبية، مع أهمية التأكيد الدائم أنّ الأساس في الإشتباك والمواجهة مع الاحتلال هو معركة مستمرة في ساحات الفعل الفلسطيني، ليست غزة ساحتهما الوحيدة ولا يفترض أن تكون كذلك، كما لم تكن الوحيدة في معركة “سيف القدس” التي تكاملت فيها الساحات، بل ودخلت فيها ساحات جديدة  مثل الداخل والشتات، بعد غياب سنوات طويلة عن الفعل الواضح.

ختاما، لا يمكن أن نغفل أنّ شعور “الهزيمة الداخلية” قد تسلّل إلى قسم من أبناء الشعب الفلسطيني ارتباطاً بارتفاع الآمال والذروة الثورية المستمرة طوال عام بعد “سيف القدس” وهذا شعور طبيعي إلا أنّه لا يجب أن يتحول لمُثبط للعزائم، بل فرصة للنهوض والوقوف أمام المسؤولية الوطنية والثورية لكل ساحات الفعل الفلسطيني، وتطوير المبادرة الثورية في الضفة المحتلة والقدس والداخل، وحتماً ستكون غزة ظهيراً وسنداً لكل فعل، ترقب وتراقب وتتكامل مع باقي الساحات، فلم تنتهِ الجولات ولن يتوقف قطار المقاومة عند حدث، وهو حدث نجحت المقاومة بلا شك في تحويله من حدث إعتيادي إلى حدث جلل يحشد العدو جيشه وشرطته وجموع مستوطنيه ويحرّك كل الوسطاء الدوليين والإقليميين لتمرير مسيرة ترفع علمه في مدينة احتلّها منذ أكثر من 50 عام ولا زال يعلم أنّ رفع علم كيانه فيها يحتاج إلى كل هذه الحشود لتمريره في وجه شعب يأبى أن يُقتلع أو يستسلم أو يُدجّن.

*كاتب فلسطيني


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , ,