هل أتاكَ حديثُ النكسة؟!

التصنيفات : |
يونيو 5, 2022 9:05 ص

*أحمد حسن

ربما كان أحد أهم أسباب تتالي خيباتنا وهزائمنا، وتوالدها المستمر، هو عدم قيامنا بالخطوة الأولى المطلوبة وهي الإعتراف بالحقائق كما هي، واستبدال ذلك بمحاولة طمسها وتمويهها عبر اجتراح مصطلحات “فخمة” لتغطيتها، أو للتقليل من شأنها على الأقل، علّنا بذلك نخفف من وطأتها سيراً على إيمان قديم بقدرة سحرية للكلمات على تغيير الواقع، وكذلك الماضي والمستقبل في الآن ذاته، لكن ذلك وإن كان يوفّر لنا بلسماً ما، يبدو ضرورياً في مرحلة محددة، إلا أنّه يفقدنا على المدى الطويل، وكما أثبتت التجربة، أدوات المواجهة الصحيحة والناجعة.

والحق، فإنّ ذلك ينطبق أكثر ما ينطبق على مصطلح “النكسة” الذي أطلقناه على نتائج حرب عام (1967) بما أوحى للمتلقي، وهو هنا الجماهير العربية، أنّنا، كشعب وأنظمة، كنّا نسير في طريق صاعد مزدهر لكنّنا واجهنا “كبوة عادية” سوف نتجاوزها قريبا، هكذا دون أن نطرح الأسئلة الطبيعية عن السبب والمسبّب والذي سيتبعهما حكماً حساب وعقاب، والأهم تقديم حلول صحيحة للإنطلاق والتجاوز.

استيقظنا جميعاً صباح اليوم التالي على حقيقة أنّ “إسرائيل” قد هزمت ثلاثة جيوش عربية وتمدّدت على أراضيها لتضيف قضايا جديدة، بعضها في الجغرافيا وبعضها في الوعي، إلى القضية الأم، فلسطين.

بيد أنّ الواقع قال لنا –وبالفصحى- إنّ ما انجلى عنه غبار الحرب بعد ستة أيام، والبعض يقول ستة ساعات فعليا، لم يكن أقل من “نكبة” كاملة تبدو أخطر بمفاعيلها وارتداداتها من “النكبة” الأصلية، أو توازيها على الأقل، فقد استكنّا، جميعا، مساء ذلك اليوم على قناعتنا التامة بتحرير الأرض والإنتقام لفلسطين، واستيقظنا جميعاً صباح اليوم التالي على حقيقة أنّ “إسرائيل” قد هزمت ثلاثة جيوش عربية وتمدّدت على أراضيها لتضيف قضايا جديدة، بعضها في الجغرافيا وبعضها في الوعي، إلى القضية الأم، فلسطين.

وكان أخطر تلك المفاعيل خروج مصر -كموقع جغرافي وقوة بشرية طبعا، ولكن كرمزية وعي هائلة أولا- من الصراع تحت أوهام السلام ومصر أولا، ثم كرّت “السبحة” لتشمل دولاً أخرى، وليصبح الجميع أولاً وفلسطين آخرا،

وإذا كانت قضية الجغرافيا، على خطورتها، من القضايا التي يمكن حلّها، ولو بأثمان كثيرة، فإنّ الصعوبة تكمن في معالجة قضايا الوعي –تُكسب الحروب في الوعي أولا- لذلك كان الاحتلال العسكري لأراضٍ عربية، على خطورته، أقل المفاعيل النهائية ضرراً لتلك الأيام الستة، وكان أخطر تلك المفاعيل خروج مصر -كموقع جغرافي وقوة بشرية طبعا، ولكن كرمزية وعي هائلة أولا- من الصراع تحت أوهام السلام ومصر أولا، ويكفينا تضحيات للقضية التي عرقلت تطورنا وتقدُّمنا!، ثم كرّت “السبحة” لتشمل دولاً أخرى، وليصبح الجميع أولاً وفلسطين آخرا، وتلك مغالطة تاريخية كبرى حصد الجميع نتائجها بدءاً من “أيلول الأسود” والذي لم يكن ممكناً لولا ذلك اليوم، والحرب الأهلية اللبنانية، وحرب (1982) واجتياح لبنان وعاصمته بيروت، وطبعاً “كامب ديفيد”، ثم ما حصل في سوريا وغيرها، وقبل ذلك وبعده سيطرة الحقبة النفطية بإعلامها وثقافتها وتوجهاتها وارتباطاتها العضوية مع المحتلّ ورعاته، وما تبعها من انزياح مجتمعي ثقافي وسياسي وديني نحو اليمين باركه “دعاة المرحلة” -أحدهم سجد ركعتين شكراً لله على الهزيمة- وكتّابها الذين استبدلوا حبر الثورة بنفط الثروة، فروّجوا، خدمة للسياسي، لكل الحروب البينيّة العربية باعتبارها “داحسهم وغبرائهم” ولقضايا وأعداء مزيفين حتى وصلنا إلى “إتفاقيات أبراهام” ومسارعة البعض للإنضمام إليها بحثاً عن تشبيك آخر لشرق جديد! لكنه، للمصادفة، لا يتسع لفلسطين!!.

بهذا المعنى، كان 5 حزيران/يونيو 1967 فاتحة لعصر جديد وإعلان هزيمة كاملة لبنية إجتماعية وسياسية وإقتصادية و”نفسية”، وبالتالي لوعي أجيال كاملة، ويكفي أن نلاحظ هنا أنّ أحداً لم يتوقف طويلاً عند لحظة سقوط “لاءات الخرطوم” الشهيرة في الخرطوم ذاتها.

لا مستقبل طبيعي لنا وللمنطقة في ظل الوجود “الإسرائيلي”، ولا وجود لـ”إسرائيل” في مستقبل طبيعي لنا وللمنطقة، وما قانون المواطنة ويهودية الدولة في “إسرائيل”، إلا تعبير دقيق عن فهمهم لهذه المعادلة،

لهذا علينا، كي نغيّر الواقع، أن نعترف به أولا، وهذا يعني إعادة النظر في مصطلح “النكسة” وتبعاته التخديرية، ويعني أيضاً إعادة التذكير بحقيقة الصراع فهو ليس صراعاً حدودياً على أمتار هنا، وخطاً أخضر أو أحمر هناك، وحتى على مقدّس هنا ومدّنس هناك -ذلك يُستخدم للتعبئة أحياناً ولحرف بوصلة الصراع أحياناً أخرى- ولا يخصّ فلسطين وحدها بل هو صراع وجود للمنطقة بأكملها -واسألوا صلاح الدين فلديه الجواب الفصل- والمعادلة بسيطة للغاية، وسواء آمنّا بها أو كفرنا فهي تقول بكل بساطة ووضوح: لا مستقبل طبيعي لنا وللمنطقة في ظل الوجود “الإسرائيلي”، ولا وجود لـ”إسرائيل” في مستقبل طبيعي لنا وللمنطقة، وما قانون المواطنة ويهودية الدولة في “إسرائيل”، إلا تعبير دقيق عن فهمهم لهذه المعادلة، وما تعامي البعض منّا عن ذلك سوى جهل تام بأسّ الصراع لو أخذنا حسن النية بالحسبان.

ولأنّ هذه هي الحقائق، ولأنّ ميزان القوى لا يميل لصالحنا في هذه المرحلة نتيجة الوضع الدولي الراهن، فلتكن معركتنا اليوم، معركة إبقاء جذوة القضية مشتعلة، وإشعار الجميع، الأصدقاء قبل الأعداء، أنّها لم تمت ولن تموت، وأنّ الأجيال الجديدة ترثها، كابراً عن كابر، مثلما ترث لون العيون وسمرة الجلد، وأن نبقى نردّد مع توفيق زياد قوله الشهير عقب “67”:

“يا بلادي! أمس لم نطفُ فوق حفنة ماء

فلذا لن نغرق الساعة في حفنة ماء”

*كاتب سوري


وسوم :
, , , , , , , , , , , , ,