لن تنتهي “الحكاية” ولن يملَّ “الحكواتي”

التصنيفات : |
يونيو 8, 2022 11:34 ص

*وسام عبد الله

كتب المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد في كتابه المثقّف والسلطة: “الإنسان الذي لم يعد له وطن، يتخذ من الكتابة وطناً يقيم فيه”، عبارة تصف أهمية القصة والكتابة، في المحافظة على السردية الإنسانية للقضية، وعلى قوة وتأثير الكلمة على المدى الطويل، فهل نحن بحاجة إلى مثقّف “حكواتي” ليثبّت لنا قصتنا في اللاوعي ويحفظها للأجيال القادمة؟.

السردية لسان القضية  

تُشكّل القصة وسيلة نتعرّف من خلالها على العالم، ونأخذ صورة عامة عنه، تساعدنا على فهم تعقيدات الحياة، وتعطينا مساحة لسكب المعنى على الأشياء من حولنا، فنسعى مع الوقت للحصول على قصة متماسكة، ونصوغ لها التبريرات، لتكون بمثابة حقيقة ثابتة.

في داخل كل لاجئ راوٍ وقاص، الجدّات في مخيّمات اللاجئين، هنّ الأمينات على الرواية، “حكواتيّات” القصص، الغير مكتوبة وإنّما عاشتها بتفاصيلها. “الإسرائيلي” يدرك أهمية القصة، وهو الذي بنى كيانه على الرواية التوراتية

فلسطين، ليست قصة واحدة. في داخل كل لاجئ راوٍ وقاص، الجدّات في مخيّمات اللاجئين، هنّ الأمينات على الرواية، “حكواتيات” القصص، غير مكتوبة وإنّما عاشتها بتفاصيلها. “الإسرائيلي” يدرك أهمية القصة، وهو الذي بنى كيانه على الرواية التوراتية، لم يعتمد على الحقائق والأرقام في تقديم قصته، إنّما قام بصياغة رواية، ضمّنها كل الحبكات الأساسية، من السبي البابلي وصولاً إلى الهولوكوست، فكان يستعيد القصص التاريخية، ويعطيها بعداً في الحاضر، أساسه، انتزاع قصة شعب وفرض قصة أخرى، واستخدام كل الأدوات لتحل محلها، من الكتابة إلى القتل والتهجير.

فأين القصة الفلسطينية؟

والمقصود هنا ليس المنشورات والإصدارات، لأنّ المكتبة الفلسطينية والعربية غنية بالروايات والقصص القصيرة، لكنّ ما نحتاج إليه هو القصة السياسية. نحن بحاجة إلى قصة جديدة، لأنّنا عالقون بالروايات القديمة، وهي أحد أسباب اليأس والتراجع لدى بعض الشباب في مجتمعنا، وحالة الإحباط كونه لم يعد هناك ثقة بمن يرسم لنا المستقبل، عن طريق القصة وليس الأرقام والمعلومات، هذا جزء من الفشل السياسي في عدم القدرة على التخيّل. نحن بحاجة إلى قصة تجذب الناس، مترافقة مع رغباتهم واحتياجاتهم العميقة، بسلاسة ووضوح، ومستندة إلى الواقع. تكمن الفجوة بأنّ من يملك المنبر لتقديم القصة السياسية، لا يملك القدرة ولا الرغبة بالتغيير.

الحكواتي” السياسي

لا تحتاج المرويات الشعبية إلى دراسة أكاديمية، تتناقلها الأجيال وترويها، البعض يضفي عليها أسلوبه وأدواته الخاصة، مثل “الحكواتي” في المقاهي القديمة، وطريقة سرده لقصة الحب بين “عنتر وعبلة” وفروسية الزير السالم، مع تضخيم بعض المواقف والأعداد لإعطائها بعداً جمالياً وأسطوريا، ويولّد الحماسة لدى الحاضرين. للحكواتي طرق عديدة، هناك من يخلق طقساً خاصاً  من السيناريو إلى الديكور، وهناك من يحافظ على أدواته البسيطة، أما المحتوى فهو يعتمد بشكل عام على القصص القديمة وبعضها من بطون الخيال، ولكنّها تضجّ بالمعنى، وتنطق بالحكمة.

أول مصدر للروايات الفلسطينية، يكون الأجداد بالعادة، من عايش المراحل المختلفة التي مرّ بها الإنسان الفلسطيني، فنستمع إلى قصص، تشبه حكايا الجدّات ما قبل النوم، لنا، نصدّقها ببداهة الطفل، ونأخذها كما هي بحسب رأيهم الشخصي. ومع تسابق السنوات نبدأ بطرح الأسئلة، ويبدأ فعل الشك بالقصة، ما سببها وكيف بدأت، ليغدوَ أسلوب قراءتنا للقصة ومحتواها خارطة الطريق، التي تبني إلى حدّ بعيد، موقفنا من القضية.

يتميّز “الحكواتي” بكاريزما الخطيب وقوة الإقناع، والجمع بين الإثنين يُشكّل خاصية مهمة لتقديم وتسويق القصة الفلسطينية كقضية إنسانية، فيها الألم والفرح والصمود، ولها القدرة على تعزيز القيم واستدراج الخيال.

تُعتبر الدراما التلفزيونية والأفلام والمسرحيات، أحد المنابر التي تقدّم حكايا فلسطينية، وعن طريق منصّات حديثة تصل إلى الجميع ممن يرغب بمعرفة أصل الحكاية، ولندرك أهمية الفن يكفي النظر إلى المسلسلات التي تحكي قصصاً تهدف إلى التبرير والترويج للتطبيع بدون الحاجة إلى الأرقام لإقناع الناس، مجرد تقديم العلاقة بين “الإسرائيلي” والعربي تحت مظلة التطبيع، حتى يصبح الوعي الجمعي في حالة تقبّل للمسألة، ويتسرّب القبول إلى أّذهان الناس ويصبح المشهد السياسي طبيعياً بين الاحتلال والدول العربية التي كانت بالأمس معادية واليوم تصافح عدوّها وتتهادن مع الفكرة.

تملك الفنون البصرية أدوات الإبهار، أما “الحكواتي” فيتميّز بكاريزما الخطيب وقوة الإقناع، والجمع بين الإثنين يُشكّل خاصية مهمة لتقديم وتسويق القصة الفلسطينية كقضية إنسانية، فيها الألم والفرح والصمود، ولها القدرة على تعزيز القيم واستدراج الخيال.

داخل المتاحف، يوجد الكثير من الوثائق الخاصة بفلسطين، و”الحكواتي” هو من يُخرِج الأرشيف التاريخي والحضاري ويقدّمه بشكل رواية تخاطب المجتمع بلغته وتقاليده وعاداته، فيحاول أن يجمع بين أصالة القصص الشعبية والطارئ عليها بفعل عامل الزمن والمتغيّرات لتقديم محتوى يدخل في خانة الأدب الشعبي للجيل الجديد. وفي عصرنا، تتنوع مسارح الحكواتيين، بين العمل على الأرض مع الأطفال وفي المهرجانات الشعبية والتجوّل بين الأحياء والمقاهي، إلى النشر على منصّات التواصل الإجتماعي التي منحت الجميع فرصة الوصول إلى أوسع جمهور، وسرد قصة فلسطين للعالم أجمع، ليس فقط عبر نشرات الأخبار، وإنما بلسان أهلها.

*كاتب لبناني


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , , ,