فلسطين وهذا “الجنون” العالمي: إنعكاسات ومآلات

التصنيفات : |
يونيو 23, 2022 7:01 ص

*أحمد حسن

يتّفق الخبراء، شرقاً وغربا، على أنّ حرب أوكرانيا ستستمر لوقت طويل. الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ حدّده بـ”سنوات أخرى”، لكنّ ما يختلفون عليه هو المرحلة أو النقطة الحرجة التي ستحدّد شكل الصراع ونتيجته. الإستخبارات الغربية، والأمريكية منها تحديدا، حدّدت مؤخراً مدينة “سيفيرودونيتسك” الأوكرانية كنقطة مفصلية في هذا الصراع، وذلك قد يكون توقعاً صائباً لكنّه قد يكون أيضاً “لعبة” من ألعاب التضليل والإستفزاز والتوريط الحربية المعتادة.

لكن، وبعيداً عن جدل التوقيت أو موقع الفصل، لأنّه جدل بيزنطي في أحد أوجهه، فإنّ الثابت الوحيد هذه الأيام هو دقة المرحلة الحالية وحراجتها. الدلائل المرافقة لها تؤكد ذلك. الحدّة البادية في مواقف الأطراف كافة دليل أول. سعيهم لاستخدام أحدث ما لديهم من أسلحة دليل ثان. محاولتهم الدؤوبة لاستقطاب حلفاء جدد والسعي لاستعادة، واسترضاء، بعض السابقين، بغض النظر عن الكلفة السياسية والمادية والأخلاقية!!، دليل ثالث.

إجتماع هذه الدلائل -وغيرها الكثير- في هذا التوقيت الحرج بالذات يفسّر ما يمكن وصفه بحالة “سيولة” في السياسة الدولية التي نعيشها، والتي تتمثّل بعض جوانبها في مشهد انفراط تحالفات كانت تبدو -لوقت قريب ماض- ثابتة وراسخة، وانعقاد تحالفات -ظرفية بالطبع- كانت مستبعدة سابقا، وأيضا، في صدور مواقف ملتبسة عن البعض الآخر (ومثالها التذبذب “الماكروني” بين ضرورة عدم إذلال روسيا و”حتمية” الإنتصار عليها كدليل على “حيرة” أوروبية بين ضرورة توقّف الحرب لحصر أضرارها المتزايدة والتبعية الإجبارية لواشنطن وتوجهاتها في آن واحد)، وبالطبع، وكما في كل الحالات التاريخية السابقة، بدء موسم الاستثمار في السقوف العالية التي استظلّ بها البعض خلال الفترة الماضية، وهو “استثمار” لا يعني، للأسف، إلا فتح “بازار” للمواقف الثابتة والقضايا المقدسة، مزايدة وبيعا، في سوق العرض والطلب الدولي الراهن.

إنّ “تعرقل” خط الغاز العربي الذي “طبّلت” له واشنطن، كما بعضنا، وكان سيزوّد لبنان بالغاز من مصر مروراً بسوريا، مقابل الإسراع في توقيع مصر ذاتها عقد تسييل الغاز “الإسرائيلي” إلى أوروبا للمساهمة في كسر الإرتهان الغربي لروسيا

ومن المؤكد أنّ هذا السياق الدولي الحرج، وهذه السيولة السياسية، والملتبسة، التي ترافقه، سيكون لها، بالضرورة، إنعكاسات عدة على قضايا العالم المختلفة، وعلى رأسها، في ما يتعلق بمنطقتنا، فلسطين وقضيتها باعتبارها “السلعة” التي اعتاد العرب، وبقية دول المنطقة، عرضها، وبيعها، في كل لحظة رغبوا فيها رفع سعرهم في سوق “النخاسة” العالمي هذا، أو بحثوا عن دعم لـ”قضاياهم” الخاصة على حسابها، وربما كان أحدث مثال لذلك هو الإعلان عن مشاركة رسمية لمصارعين “مغاربة” في مباريات ستُجرى في كيان العدو، في 25 و26 آب/أغسطس المقبل “بمناسبة إحياء ذكرى 11 رياضياً قُتلوا في عملية ميونيخ، في أيلول/سبتمبر عام 1972!.

وعلى ذات المنوال، نفهم قضايا عدة مثل “تعرقل” خط الغاز العربي الذي “طبّلت” له واشنطن، كما بعضنا، وكان سيزوّد لبنان بالغاز من مصر مروراً بسوريا، مقابل الإسراع في توقيع مصر ذاتها عقد تسييل الغاز “الإسرائيلي” إلى أوروبا للمساهمة في كسر الإرتهان الغربي لروسيا، كما نفهم التصلّب الأمريكي في “النووي الإيراني” مقابل التراجع العلني عن “نبذ” السعودية، كحاجة أمريكية -تؤكدها ملابسات زيارة جو بايدن المقبلة للمنطقة- لأولوية إعادة شد رباط الحلفاء في سياق التنافس مع روسيا على بعض المترددين والناقمين منهم.

فإذا كان ذلك يبدو، للوهلة الأولى، شأناً خاصاً بتحالفات دولية تاريخية، إلا أنّ فلسطين موجودة، ولو بصورة سلبية، في قلبه، فهذه الزيارة التي ستحصل، كما هو مقرر حتى الآن، منتصف الشهر المقبل، ستشهد واقعة غريبة، ومؤسسة لأكبر منها، وهي تلك المتمثّلة بوصول طائرة بايدن إلى مطار سعودي قادمة من مطار “إسرائيلي” حيث سيلتقي بولي العهد، بعد أن قال فيه ما لم يقله مالك في الخمر، وسيشارك في قمة خليجية يحضرها زعماء عرب.

إزدياد الضغط العربي والدولي على الفلسطينيين للقبول بفُتات ما يُعرض عليهم وزعزعة وشراء تلك الروح المقاومة، التي أعادت تطورات الأشهر الماضية إظهارها ونشرها، وزرع اليأس في نفوسهم لفترة زمنية قد تطول لأمدٍ غير منظور.

وجه الخطورة هنا أنّ بايدن الذي سيجدّد في تل أبيب التزام إدارته الحازم بأمن “إسرائيل”، وهو أمر طبيعي، سيجدّد في بيت لحم بيعه وهم “التزامه الدائم بحلٍّ يقوم على دولتين”، لكنّ جائزته الكبرى ستكون في الرياض، فإضافة إلى طلب زيادة ضخ النفط من آبارها، سيجدّد هنا حلم “إتفاقات أبراهام” بضمّ المملكة إليها، ولو بصورة مستترة حاليا، مقابل قبوله منح لقب صاحب الجلالة لولي العهد الحالي، وهذا يعني لو حدث -والقبول بمسار الطائرة الرئاسية الأمريكية يرجّح ذلك- إزدياد الضغط العربي والدولي على الفلسطينيين للقبول بفُتات ما يُعرض عليهم وزعزعة وشراء تلك الروح المقاومة، التي أعادت تطورات الأشهر الماضية إظهارها ونشرها، وزرع اليأس في نفوسهم لفترة زمنية قد تطول لأمدٍ غير منظور.

وإذا كان هذا هو الموقف الأمريكي التقليدي والتاريخي من فلسطين، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو طبيعة الموقف الروسي –باعتباره الطرف الآخر في هذا الصراع العالمي- الملتبس من فلسطين وقضيتها -خاصة وأنّ الروس جعلوا من حرية “الدونباس” ومن تغيير النظام العالمي شعاراً أعلى لحرب أوكرانيا- ففي حين يرتفع الدعم اللفظي أحيانا، وخاصة في بعض تصريحات وزير الخارجية سيرغي لافروف، إلا أنّ أي حراك عملي لا يرافقه على أرض الواقع، وهذا أمر لا يمكن تفسيره، كما أسلفنا، إلا بحاجة الجميع إلى حلفاء أقوياء في صراعهم الحدّي والمصيري هذا، وهنا، ودون أي لبس، ترجّح كفة “إسرائيل” على كفة فلسطين والعرب بأسرهم، وبالتالي فليست هذه التصريحات العالية إلا تعبيراً آنياً عن ضيق روسي من تذبذب مواقف “إسرائيل” تجاهها، وما يؤكد ذلك أنّنا لا نسمع “النبرة” العالية، إلا حين تميل تل أبيب باتجاه الغرب في المسألة الأوكرانية ثم تعود للإنخفاض في الحالة العكسية.

تلك هي بعض الوقائع والإنعكاسات السلبية لهذا “الجنون” العالمي الحالي، وإذا كان تغييرها غير ممكن، نظراً لواقع توزّع ميزان القوى الحالي، فإنّ التخفيف منها هو أمر في أيدينا، وهذا يحتاج لرجال سياسة وميدان.. فما نحن فاعلون؟!.

*كاتب سوري


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , ,