هنا “شاتيلا”.. أرض المجزرة والهاربين من الذاكرة

التصنيفات : |
يوليو 25, 2022 7:18 ص

*وسام سباعنة

لا أرغب إلا بمزيد من المساحة لأوزّعها على اللاجئين وقطط الأزقة المتهاوية، لعلها تكون رحمة لهم من هذا الإزدحام الشرس الذي يتفقون على تسميته بـ”المخيّم”.

تزاحم الكلّ على القليل في هذه الجغرافيا الرثة، فتشاركوا رائحة القمامة المتخمّرة بفعل التكديس والإهمال. تعفّنت الروح قبل المهملات وتماهت رائحتها برائحة الصرف الصحي.. مزيج الإثنين معاً تآمر معه غياب الضوء عن المكان.

من بعيد، تبدو الحركة فوضى اللاجدوى. لكن، ما إن تدخل إليها حتى تجدها متناسقة إلى حدود تنظيم عالي المستوى. يمكن للرائي أن يرصد أي غريب فيها من خلال خطواته الهجينة الخارجة عن الإيقاع العام.

كبار وصغار، دراجات آلية وتكاتك*، جامعو القمامة والكرتون والبلاستيك، موزّعو المياه.. خطوط المياه المتشابكة مع خطوط الكهرباء التي تسلّقت عليها كأنّها رقصة الموت الأخيرة للثعابين، أنابيب المياه وقنوات “المجارير”، القطط والجرذان، عربات بيع القهوة والمحلات التجارية والأفران.. كلهم تقاسموا الشارع نفسه أو الزاروب كما يصحّ تسمية شوراع المخيّم، وتشاركوا الهواء ورائحة البؤس وحتى الدماء.

نعم، الدماء، فربما هناك مقبرة جماعية من أيام مجزرة صبرا وشاتيلا، في هذا المكان أو ذاك، أو ربما دُفنت عائلة بأكملها تحت الركام، أو مرّ من هنا أبطال صمود حرب المخيّمات، أو استُشهد البطل علي أبو طوق في هذه الزاوية من الشارع.. هنا، حيث تتسلّق صورته الجدران باتجاه السماء، كأنّه لم يغادر بل ما زال يرابط في المخيّم ليحميَه ويحصّنه ويحوّله الى قلعة شقيف عصيّة على من يتجرّأ عليها.

يعتقد الرائي أنّ البناء بهذه الطريقة المتلاصقة سببه ضمور المساحة وازدياد السكان، الذين تجاهلوا قواعد التنظيم المدني أو اعتدوا على الأرصفة، فاستعاضوا بـ”الزواريب” (وهي عبارة عن ممرات مشاة بين البيوت) عن الشوارع التي تسمح للسيارات والآليات بالوصول إليها. وقد يكون هذا هو السبب الأساسي الذي جعل اقتحام المخيّم بالآليات العسكرية مستحيلا. بالإضافة إلى أنّ دخول المشاة سيراً على الأقدام إلى هذه الزواريب سيجعلهم صيداً رخيصاً لخبراء المتاهات من أولاد المخيّم وأزقته، ولهذا ارتبطت تاريخياً قاعدة السيطرة على المخيّم عبر تدميره.  

بيت بمنازل كثيرة

لا يكفي كل هذا التداخل في “شاتيلا”، فلقد اقتسم أبناؤه خباياه وأسراره أيضا، فشاتيلا مخيّم اللاأسرار حيث الجميع يعرف كل شيء عن الجميع، “شاتيلا” مخيّم مغلق مفتوح.. مغلق على نفسه لا يسمح لأسراره أن تخرج من بين جدرانه، لكنّه مشرّع على أبنائه وكأنّه بيت بمنازل كثيرة.

التاريخ ينسدل بثقله على هذه المساحة الآخذة في الإنحسار، فليس أسهل من تتبّع أسماء الحارات الرئيسية حتى تفهم جزءاً من تاريخها

التاريخ ينسدل بثقله على هذه المساحة الآخذة في الإنحسار، فليس أسهل من تتبّع أسماء الحارات الرئيسية حتى تفهم جزءاً من تاريخها. تغيّرت أسماء الشوارع مع الوقت، فمجد الكروم مثلاً أصبح شارع فتح ثم شارع الصدمة فشارع أحلام لاجئ.. وهكذا تتعدد الأسماء ودلالاتها لتشيَ بالبدايات وأين منها حال المخيّم الآن.

حي الصدمة في “شاتيلا” على سبيل المثال، يتمتّع بالوجاهة ولديه شعار وفريق رياضي ومتحدّث رسمي وأغنية وربما كتيبة مسلحة أيضا. كذلك شارع أخر بإسم منظمة غير حكومية، لديه الإمتيازات عينها.

لا يهدأ “شاتيلا”. مخيّم الضجيج يصدح بأصوات الدراجات الآلية والسيارت التي تتجمع عند مدخله وتنحشر كما الذباب في عنق زجاجة مرطبات مرمية على رصيف، ضوضاء مولدات الكهرباء يعلو عليها صياح الكبار والصغار ومشاكلهم العائلية والمالية والأخلاقية. أزيز الرصاص يتصاعد ليبعث الطمأنينة عند الناس ويشعرها بالأمان، فالرصاص علامة من علامات الوجود في المخيّم، لربما أراد شخص ما أن يجرّب بندقية جديدة اشتراها ليبيعها بسعر أفضل فأطلق مخزناً من طلقاتها ليسمع صوتها.. فلكل بندقية صوت مميز يوحي بتصميمها وعمرها وبالبلد المصنِّع، كما للذخائر المختلفة أصوات خاصة وأسعار مميزة.

في المخيّم، يُقام عرض عسكري في ذكرى وطنية يُفهم على أنّه استعراض قوة لهذا الفصيل أو ذاك. فيتمّ عرض الأسلحة المراد تسويقها وبيعها، عرض بضاعة بمعنى آخر. يتخاتل المقاتلون رافعين الأسلحة والمعدات العسكرية الحديثة أمام جمهور الراغبين بالشراء أو حتى المكتفين بمشاعر الإستقواء بالسلاح.

ما الفائدة من فهم “شاتيلا” وأصول عائلاته والتغيّرات الديموغرافية والسياسية والأمنية التي مرّ بها هذا المخيّم أو غيره من المخيّمات.. فلطالما كان ضيفاً عزيزاً على مراكز الأبحاث والدراسات الموجّهة والتي حاولت أن تحلّل المجزرة بما يزيد عن 1800 بحث ومقالة خلال أقل من 30 عاما، في ما تمّ إعداد 28 بحثاً ودراسة عن مخيّم برج البراجنة في نفس الفترة على سبيل المثال.

فيمكن أن يصحبك أحدهم إلى مخيّم شاتيلا في جولة بين الأزقة والزواريب وأنت تحمل كاميرتك وتصوّر كما تشاء، وكأنّك على أدراج المعبد الروماني في صور أو بين هياكل معبد جوبيتر في بعلبك.

ملّ أبناء “شاتيلا” هؤلاء السيّاح كما ملّ أهل البندقية سيّاحها الذين حولوا المدينة إلى متحف وليس مكاناً للحياة.

نفر أهالي شاتيلا من الصحافيين والمصوّرين ومعدّي الأبحاث ومنتجي الأفلام والوثائقيات، وطلاب الدراسات السياسية والإجتماعية والإنسانية، وإختصاصيي الدعم النفسي وحماية الأطفال وتأهيل المرأة والشباب ورعاية المسنين وذوي الإحتياجات الخاصة وجرحى الحرب والمدمنين والمطلوبين ..فالمخيّم ليس فرجة لأحد ولا أوجاعه مادة للإستثمار الإعلامي واستجداء أموال المنظمات الأممية.

خارج الزمان

هل للمكان ذاكرة؟ وهل للأرض ذاكرة؟ وهل للمخيّم ذاكرة بين الأرض وما فوقها من خيام ولاجئين ومجزرة؟.

هل يحفظ المكان ذاكرة من سكنوه وحفروا خنادقه وتمترسوا في كل زاوية منه، وكمنوا في زواريبه وفتحوا جدران منازله على بعضها ليحوّلوه إلى متاهة شيطانية تمكّن أبناءه من التجوّل في المخيّم كالأشباح تشعر بها ولا تراها؟

لطالما خطرت على بالي مئات الأسئلة عن أناس عاشوا هنا وماتوا هنا، عن بيوت هُدّمت فوق رؤوس أصحابها، عن ساحة للعب الأطفال تقبع فوق مقبرة جماعية لأطفال كانوا ذات يوم يلعبون في نفس المكان، عن الرقصة الأخيرة لنساء المخيّم لحظة وقوع المجزرة.. نعم، كانت النساء يرقصن رقصة هذيان أخيرة، رقصة المجزرة، ألم يرقص زوربا ألما، والنسوة في المآتم يتمايلن حزناً لا فرحا، هكذا تراءت لي نسوة “شاتيلا” تهتزّ أجسادهن من نشوة الحزن، والفقد يخنق أصواتهن فلا يعود يعلو صراخ أو يئن وجع أو تقفز الدموع من القلوب إلى المآقي.. حتى البكاء فقد مقامه وانطوى في الأفئدة وابتلعته الحناجر.

هل يحفظ المكان ذاكرة من سكنوه وحفروا خنادقه وتمترسوا في كل زاوية منه، وكمنوا في زواريبه وفتحوا جدران منازله على بعضها ليحوّلوه إلى متاهة شيطانية تمكّن أبناءه من التجوّل في المخيّم كالأشباح تشعر بها ولا تراها؟.

هي ذاكرة ممتدة من مجزرة تلّ الزعتر إلى مجزرة شاتيلا، ولكن هل من جدوى لكل هذه الأسئلة؟ فالمخيّم لن يكون يوماً بديلاً عن الوطن، المخيّم طارئ والوطن مستقرّ وفيه نصنع الذكريات أما المخيّم فهو الجغرافيا المؤقتة، وما هو مؤقت لا يصلح مكاناً آمناً للذاكرة.

توقّفت ساعة المخيّم عن الدوران لكنّ أصابع الفدائيين تدفعها بكل حذر، فعقاربها حادة كمشرط جراحي غير مستعمل على الرغم من كثرة الدماء التي سالت عليه.

سيكولوجية المجزرة

“شاتيلا”..إسم غريب لمخيّم، فمأساة الإسم أنّه التصق بالمجزرة وليس بصفات لاجئيه وخاصيّتهم: “فن الحياة” كمثال كل فلسطيني، لا خيار أمامه سوى الاستئناف. لكنّ الهجين أن يتقدّم أصحاب المجزرة (1982) المجلس النيابي في لبنان (2022)، فبعد أربعين عاماً تطالعنا الأسئلة المضنية: هل الضحية وحدها من يمكن أن يدلّنا على المجزرة أم قاتلها؟ أليس لعودة القاتل إلى صدارة المشهد السياسي نكئ للجرح آلاف المرات؟

كيف يمكن لمخيّم مثل “شاتيلا” ارتبط إسمه بالجريمة، والقاتل لا يزال حراً ومقبولاً في المجتمع المحلي ومفتوحة أمامه جميع المحافل الدولية والمنابر على مدى صوتها، أن تزوره كل سفارات العالم المتحضّر الديمقراطي المدافع عن حقوق الإنسان والحيوان والبحار والمحيطات؟.

ألا يمكن أن نقارن المجزرة بالتلوّث البيئي أو بحالات الإغتصاب والتحرش أو الإعتقال الإداري أو القمع والخطف والتعنيف الأسري؟ عاملونا بقليل من المساواة يا قوم.. أم أنّ هوية الضحية هي ما يهم؟ أو ربما هوية القاتل؟.

عود على بدء، إذا أردنا أن نفهم ما يجري في “شاتيلا” علينا أن نبحث خلف الأسباب التي حالت دون محاسبة القتلة، ولماذا تُركت تلك “المغتصبة” بدون أي إقرار بالجريمة أو أدنى مسعى لتحقيق العدالة.

ولنفهم مشهدية “شاتيلا” علينا أن نرتدّ إلى ذواتنا في نزواتها الأولى، إلى الخطو الأول للطفل الذي يشعر بالفرح الممتد من قدميه إلى عالمه المستدير، فرحاً بامتلاكه القدرة على الحركة على رجلين كما يفعل الآخرون.. ذلك الإحساس بالاكتمال الذي ما يلبث أن تتبعه اندفاعة خاطئة تعيده إلى الأرض مجدداً فاقداً الرغبة بالوقوف خوفاً من السقوط، ثم يتجرّأ بعدها شيئاً فشيئاً لإعادة المحاولة ومرة بعد مرة ينجح بالوقوف والسير هويداً هويداً حتى يتعلّم الخطو سريعاً ويكمل دورة الحياة.

حتى مخيّم اليرموك الذي كان يحتوي شتاتنا قد دُمّر على مرأى من عيون الناس والفضائيات، ونحن كما دائما، كنّا وحدنا نتنفّس متلازمة الحزن والدهشة من عدم تصديق نبوءات أمهاتنا بالمجازر المتكررة

أحيانا، يكون للمجزرة وقع الضربات التي تأتي بعد السقوط الجماعي. وتكون في سياق تثبيت الفاجعة من هول السقطة عبر زيادة خسائرها. فالمجزرة تحدث عند الشعور بالشلل الجماعي وعدم القدرة على الإستمرار والمقاومة. هنا تتجلّى المجزرة كفعل موجّه بقصد تثبيت الشعور بالشلل أو اللاوجود لأكبر مدة من الزمن. يقول البعض إنّ آثار المجزرة وخاصة الإجتماعية والنفسية، تتلاشى بعد موت من عاصرها لتتحوّل إلى مجرد ذكرى أو مجموعة صور تُحفظ في الأدراج أو على لسان الجدات وتذوب مع الزمن كما راهن بني صهيون مخطئين على النسيان.

أكاد أجزم أنّ هذا مجرّد هراء وتسطيح لمآلات المجزرة، وأنّنا ما زلنا نتلحّف نكبتنا كل مساء ونخلد لاجئين، وما زالت الأمهات حتى اللواتي لم يعشن النكبة يتملكهنّ إحساس دائم بالخوف من تغريبة جديدة أو مجزرة قادمة. فحتى مخيّم اليرموك الذي كان يحتوي شتاتنا قد دُمّر على مرأى من عيون الناس والفضائيات، ونحن كما دائما، كنّا وحدنا نتنفّس متلازمة الحزن والدهشة من عدم تصديق نبوءات أمهاتنا بالمجازر المتكررة.

نهض مخيّم شاتيلا مرة أخرى وصمد ضد في وجه مجازر أخرى، فكانت حرب المخيّمات وحصارها من الإخوة وجع يضاف إلى مسلسل أوجاعنا. درس قاسٍ للتاريخ أما البقاء فللصامدين.

إما أن تقتل أو تُقتل لا ثالث لهما. لا حياد في الدم ولا ثأر مؤجل.

*ناشط فلسطيني

*جمع توك توك: آلية صغيرة تسير بعجلات ثلاث تُستخدم لنقل البضائع لمحلات الخضار والسمانة.


وسوم :
, , , ,