عائدٌ إلى دمشق

التصنيفات : |
يوليو 28, 2022 8:16 ص

*بسّام جميل

بلغنا عامنا العاشر، منذ لحظة عبور الهزيمة الدامية فينا، مخلّفين وراءنا، ما كنّا عليه.

ثلاثة أجيال ورابع لم يبلغ الحلم بعد. ما بعد الحدود الشقيقة، ثم لا شيء. لم يكن بمقدورنا أن نخدع أنفسنا ونحن على دراية بتاريخ النكبات.. إذا، هي نكبة مستمرة لم تنتهِ بعد.

علمنا أنّ لا خيام لنا هنا في لبنان، رغم حضورها الرمزي في كل وجه نقابله، في كل زقاق وجدار داخل أي من مخيّمات هذا البلد الشقيق.

لا نخشى أن تنقطع أنفاسنا، بقدر ما نخشى أن نسرد ذاكرة طرية عن دمشق، فنجاوز أجيال النكبة الأولى بشوق مركّب، لمدن التيه وظلالها فينا.

صعّدنا الأمل في حضور إخوتنا وامتدادنا الثوري، فتجلّى ثم ما كاد أن يبلغ مقام السعي، حتى تخلّى. هذا الأمل/ الوهم، الخديعة التي ساقتنا لهذا العبث الزمني. عشر سنوات، واللاجئ الفلسطيني الذي ترك دمشق خلفه، مودعاً فيها آماله وأحلامه بعودة يسير فيها من الياسمين إلى أسوار القدس، باغته الحلم، لينالَ من خطواته القاصرة، لتصبح العودة إلى عاصمة الشتات هي المشتهى، فيجد نفسه مرغماً على أن يؤجّل حلم الرجوع إلى عاصمة السماء ومنتهاها.

لا نخشى أن تنقطع أنفاسنا، بقدر ما نخشى أن نسرد ذاكرة طرية عن دمشق، فنجاوز أجيال النكبة الأولى بشوق مركّب، لمدن التيه وظلالها فينا.

بين “قدس” أسيرة و”دمشق” مقطوعة الأنفاس والألوان، لا نكاد نعي ما نحن فيه ها هنا، حيث الجزع بلغ حدود الفيء القلق من انهزام الضوء.

لعلّها لغة أسيرة هذه الأنفاس، تصعد بتثاقل فاقد الأمل، ليعدم ذاكرته ويسرد وهماً لغوياً ثم ينام على جرحه، فالغد، إن أتى، سيحمل ضياء هذا الصبر، ربما!.

يتّسع المخيّم أم يضيق، لا يهم، تتّسع العبارة أم تُنسف الرواية، لا يعنينا من الأمر الكثير، طالما أنّ ذاكرة بحجم التغريبة، ومخيّماً بحجم اليرموك من الوطن، قد زال وجوداً واستحال وطناً بكليته في ذاكرة اللاجئين، ها نحن، نعدّ أيامنا على وقع نزاع سينتهي على مفردات شتات أعمق، ونرى أحداث العالم من حولنا وخراب لبنان العظيم، ليفقدَ كل شيء دهشته، حتى نكاد نخسر أسماءنا، فمن ذا الذي يعيد أسماء شوارعنا إلينا؟!

أستعيد دمشق تماماً كأقراني الذين تمّ إبعادهم في صفقات هزيلة، لتكون لهم نجاة مؤقتة، وليستمرَّ نضالهم من المنافي. لا أريد أن أسرد وقائع تلك المنافي، ولا يمكنني أن أزايد على أحد، ربما لأنّ مقام الكلمة لا يساوي صدراً عارياً يواجه الاحتلال.

أطلّ بحسرة على وجوه عابري الحدود اللبنانية ومقصدهم دمشق، فأرى الوجوه الجافلة تستعيد ذاكرة الخراب الذي أحالنا لهذا التيه منذ عقد من الآن، وكأنّ دمشق لم تنجُ بعد، فأحوال أبنائها ولاجئيها، عتمة بلا قيد، ولا يحقّ إلا لمثل هذا العتم أن ينجوَ من القيد.

أقله، لا نستطيع العبور، لنرَ الخراب حاضرا، لندّعي أنّنا نجونا قبل هذه اللحظات المريرة، وتلك الخيمة المستعارة في بلاد الأرز، تليق حقاً بمسار ثورة ما.

لكنّنا كسوانا من إخوة الدم والخيمة، نليق بشهدائنا في غزة والضفة، في النقب ويافا، في كل شبر من أرضنا الطاهرة.

أستعيد دمشق تماماً كأقراني الذين تمّ إبعادهم في صفقات هزيلة، لتكون لهم نجاة مؤقتة، وليستمرَّ نضالهم من المنافي. لا أريد أن أسرد وقائع تلك المنافي، ولا يمكنني أن أزايد على أحد، ربما لأنّ مقام الكلمة لا يساوي صدراً عارياً يواجه الاحتلال.

في الياسمين المُدمّى، بقية من عطر البلاد الأسيرة. في أرضها، آلاف من العائدين تحت ترابها، وفي دمنا يسري ماء ينابيعها. أما ونحن نلتقط أنفاسنا الثقيلة في ضيم الخراب الذي نتشاركه مع إخوتنا اللبنانيين، نخشى هنا أن تطال ألسنة العدو الزرقاء أرزة العلم، وما دونها من رايات، فهل لنا أن نستقيم في عهد خذلان قادم ولا نقاوم؟!

دونكِ أيتها البلاد، لا معنى لقوافل ولا مباكي أو حنين.

عائد إلى حيفا، لا بل عائد إلى دمشق!

أحمل معي رواية غسّان وفكرة ناجي، وألقي كل ما سرده نثر محمود من خطابات السلام المبتور مع اليسار، وغربة إدوارد، لأُبقي على الحجر بيدي، حتى في عبوري إلى دمشق، نحو جولانها المحتل، قبل أن تغتالني يدٌ صديقة!

*كاتب فلسطيني


وسوم :
, , , , , , , , , ,