“اللاعنف” بوجه الاحتلال: مقاومة أم حياد؟!

التصنيفات : |
أغسطس 17, 2022 7:38 ص

*وسام عبد الله

استُشهدت الصحافية شيرين أبو عاقلة وهي ترتدي سترة الصحافة، تهجّم الجنود الصهاينة بالضرب على الشباب الحاملين تابوت جثمانها، فكانت الصورة مدوّية على الشاشات العالمية، لم ينسحب المشيّعون من الجنازة، بل كان مشهد المواجهة الذي سيُحفر في الذاكرة لسنين طويلة. فهل “اللاعنف” هو إحدى السبل لمواجهة الاحتلال أم أنّ الكفاح المسلّح هو الوسيلة الأنجع لاستئصال هذه الغدّة السرطانية الخبيثة؟.

“اللاعنف”.. المصطلح والأدوات

شكّل “اللاعنف” كمصطلح، إشكالية حول المعنى الذي يعبّر عنه، كون ردة الفعل الأولى بأنّه دعوة إلى الحياد والإنسحاب من المواجهة والتسليم بالأمر الواقع، وما اعتاد عليه الناس أن ترتبط كل مواجهة بالعنف، لإحداث أي تغيير وخاصة أنّها توحي بالتبّدل السريع للواقع. مؤيّدو نهج “اللاعنف” يرفضون هذا التوصيف، فهم لا ينسحبون من المواجهة إنّما يعبرون بها إلى مستوى مختلف تماما، وبنتائج أكثر فعالية من العنف. يُرجع البعض تاريخ “اللاعنف” إلى زمن بعيد، حتى لو كانت التعريفات مختلفة ولكنّها تحمل في جوهرها الخطوات والأهداف نفسها، ومنهم من يعتبر أنّ الحركة التي أسّسها غاندي في الهند هي المنطلق الأساس لتعريف المصطلح وارتباطه بنتائج واضحة. ويتّخذ دعاة “اللاعنف” من حركة القسّ الأمريكي مارتن لوثر كينغ نموذجا، حين أعلن سنة 1955 الدعوة إلى المساواة بين “السود والبيض” في وسائل النقل العام، فدعا إلى المقاطعة والتظاهرات اللاعنفية، كانت نهايتها اغتياله سنة 1968 في مرحلة دعم عمال التنظيفات “السود” في مدينة ممفس الأمريكية.

يرى أصحاب نظرية “اللاعنف” أنّ تأثيرها على الخصوم يتجسّد من خلال دفعهم للعودة إلى ضمائرهم

يرى أصحاب نظرية “اللاعنف” أنّ تأثيرها على الخصوم يتجسّد من خلال دفعهم للعودة إلى ضمائرهم، فهنا لا دعوة لإنهاء وجود الطرف الثاني “جسديا” من خلال عمليات القتل والإغتيالات، وإنّما هو إنسان أو مجموعة ابتعدت عن الصواب وسلكت الطريق الخطأ ويجب أن تعود لمساءلة ذاتها عن ما فعلته. ويعود السبب في اعتمادهم على وسائل بعيدة عن العنف إلى فكرة توجيه الخصم، هو خصم وليس عدوا، والإبتعاد عن أدواته، فالعنف يولّد العنف ويتغذّى عليه، أما حين يجد أمامه مجموعات تتّخذ من العصيان المدني والإضرابات وسيلة للمطالبة بالحقوق، فباعتقادهم أنّها تساهم في تجريده من سلاحه هو. لأنّ المعركة أولاً وأخيرا، هي ميدان الضمير الإنساني لدى الخصم وليس ساحات القتال.

سنة 1930، أعلن غاندي ما أسماه “مسيرة الملح” إحتجاجاً على فرض الاحتلال البريطاني لبلاده ضريبة على الملح، فاتّجه سيراً على الأقدام لمدة 12 يوماً بمرافقة أنصاره وصحافيين إلى شاطئ البحر، والتقط بعض الملح من على الشاطئ، معلناً بحركة رمزية دعوة أبناء شعبه للتوجّه إلى استخراج الملح بأنفسهم من بحرهم. أدوات “اللاعنف” لا تتلخّص، بحسب رأيهم، بالجلوس بعيداً عن المواجهة، إنّما بالنضال بطرق ذكية تتّسم بالحنكة للتأثير على القرارات.

هل كان الاحتلال سينسحب من جنوب لبنان لو أعلن أبناء الجنوب الإضراب العام، أو يصبح دخوله إلى قطاع غزة مجازفة، إن اكتفى الفلسطينيون بالأدوات اللاعنفية؟

هل ينجح “اللاعنف” في مواجهة “الإسرئيلي”؟

الموضوع جدلي، فالتاريخ يحمل الكثير من الأمثلة التي عاشتها شعوب المنطقة، ويحمل أجوبة عن ضرورة العنف وهو ما يحتجّ به الذين لا يؤيدون هذا السلوك من المقاومة وإن كان لأهداف سامية. ففي مثل هذه الأيام قبل أكثر من 30 عاما، إجتاح جيش العدو الإسرائيلي لبنان ووصل إلى العاصمة بيروت، وفي شهر أيلول/ سبتمبر نفّذ خالد علوان عملية قتل لجنود إسرائيليين في شارع الحمرا بالعاصمة، رافقتها عمليات مواجهة عسكرية مستمرة مع العدو، أجبرته على الإنسحاب من بيروت، فهل كان خيار “اللاعنف” سينجح في دحر العدو في تلك المرحلة؟. وهل كان الاحتلال سينسحب من جنوب لبنان لو أعلن أبناء الجنوب الإضراب العام، أو يصبح دخوله إلى قطاع غزة مجازفة، إن اكتفى الفلسطينيون بالأدوات اللاعنفية؟.

في المقابل، يُعتبر “اللاعنف” نموذجاً للمواجهة مع العدو الصهيوني، وخاصة حين يشارك به نشطاء أجانب من دول تُعرف بدعمها للحركة الصهيونية. وشكّلت مواجهات حي الشيخ جرّاح في القدس مشهداً مضيئاً للمقاومة اللاعنفية من سكان الحي وأبناء القدس، وكيف واجهوا بالكلمة وصوت الحقّ البندقية وكافة أسلحة الصهاينة، فكان التضامن العربي والدولي مع الحقّ الفلسطيني، خاصة من الفنانين والمؤثرين في المجتمعات الغربية.

إنّ حركة المقاطعة لـ”إسرائيل” هي مقاومة لاعنفية، من خلال مقاطعة الحفلات والمنتجات، هي عملية إيقاظ للوعي الإنساني تجاه القضية الفلسطينية

عندما لا يكون متاحاً لي إلا الخيار بين الجبن والعنف، فإنّي أنصح بالعنف”

(غاندي 1920)

المقصود من عبارة السياسي والفيلسوف الهندي، أنّ الخصم حين يتحوّل إلى وحش لا يريد غير القتل، فعليه أن يختار المواجهة المسلحة. أي أنّ خيارات المقاومة مفتوحة على كافة الإحتمالات وحصرها ضمن طريق واحد هو مقتل لها. فاستخدام الأدوات اللاعنفية قد يصل تأثيرها إلى المجتمعات الغربية فتتحوّل إلى جماعات ضغط على الحكومات الداعمة لـ”إسرائيل”، فليس المطلوب أن يتحلّى الجميع بالقدرة على حمل السلاح، إنّما المطلوب يقظة الضمير، وهذا الضمير له فعل حقيقي على الأرض وليس مجرد تضامن بالقول بعيداً عن الفعل، وحركة المقاطعة لـ”إسرائيل” هي مقاومة لاعنفية، من خلال مقاطعة الحفلات والمنتجات، هي عملية إيقاظ للوعي الإنساني تجاه القضية الفلسطينية. ولكن، هل العدو الصهيوني على استعداد لقبول مبدأ “اللاعنف”؟، هل نجد في كتبهم المدرسية أي دعوة للتعامل مع العرب كبشر يتمتّعون بالحقوق بما تحمل من استعادة للأرض والأبناء المشتتين في دول تنبذهم أكثر بكثير مما تحتضنهم؟.

السؤال الجيد يحمل نصف الجواب، والنصف الآخر يتكفّل به تاريخنا الممتد إلى أروقة الأمم وصدورنا العارية.

*كاتب لبناني


وسوم :
, , , , , , , , , , , , , , , ,