التمثيل السياسي للشباب الفلسطيني: السمك الكبير يأكل الصغير!

التصنيفات : |
أكتوبر 12, 2022 7:16 ص

*بسّام جميل

عرف تاريخ فلسطين الحديث، محاولات عديدة لمواكبة تحركات وهبّات شعبية تعتمد على القوى الشبابية لتنتج أحزاباً سياسية، وكانت تتكئ على جهود الكتل الطلابية في الجامعات داخل الأراضي المحتلة وفي جامعات عربية كجامعة القاهرة وجامعة دمشق والجامعة الأمريكية في بيروت.

اعتمدت التحركات على الزخم الثوري الذي ازداد قوة بعد تأسيس حركة فتح والحركات السياسية الرديفة، إلا أنّ تتابع الأحداث والتحولات التي أنتجت انشقاقات داخل صفوف هذه الحركات والأحزاب، دفع الشباب، عمليا، خارج الحسابات الوازنة لهذه المحاولات.

كان تأثير االكفاح المسلح عالياً على مستوى المشاركة الشبابية، إلا أنّها و بسبب التنافس السياسي لم تأخذ أي بعد نهضوي تأسيسي لتعميق هذا الحضور، عدا عن كونه خزان مقاتلين في عدة ساحات نضالية، فبقيت سيطرة المؤسسين على الأحزاب، لتتمّ مصادرة أي مواقع قيادية هامة لحساب الجيل المؤسس.

حركة القوميين العرب

نستذكر تجربة هامة قبل الخوض في تفاصيل المراحل الزمنية المتقدمة ونعني بها “حركة القوميين العرب” كمثال على هذا الإشتباك الشبابي.

تأسست نواة الحركة على يد مجموعة من الطلاب العرب الخريجين أو على أهبة التخرج من الجامعة الأمريكية في بيروت بداية خمسينيات القرن الماضي، ومن بين الطلاب كان “الحكيم جورج حبش”. انطلقت الحركة على قاعدة الإلتزام بتأسيس البناء التنظيمي وعلاقاته الداخلية بما يمكننا تسميته بـ “أخوية” قومية سرية.

عندما طرح جمال عبد الناصر عام 1959 موضوع الكيان الفلسطيني، تشجعت قيادة الحركة لإحياء الوجود الفلسطيني، أو الهوية الفلسطينية، على القيام بعملية فرز الأعضاء الفلسطينيين فيها. ولم تجعل من هؤلاء “فرعاً فلسطينيا” للحركة آنذاك، وإنّما أنشأت لجنة أُطلق عليها اسم “لجنة فلسطين” ضمّت آنذاك كل من: جورج حبش، وديع حداد، أسامة النقيب من فلسطينيي سوريا، زاهر قمحاوي من فلسطينيي الأردن، وأحمد اليماني وعبد الكريم حمد من فلسطينيي لبنان، وشكّلت نواة “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ” في ما بعد.

بيّنت “الحركة” أنّ “المركزية المرنة” يحكمها نظاما السرية والطاعة. ولا تختلف “المركزية المرنة” هنا من الناحية الإجرائية عن التطبيق الإجرائي الفعلي لمبدأ “المركزية الديمقراطية” في الأحزاب الشيوعية

رأى بعض “القوميين” أنّ “حركتهم” كانت تعلّم “الأخلاق”، كدرس ثابت من دروسها، والواقع أنّ عضو الحركة بالنسبة للمجتمع، كان في فهم القيادة المؤسسة أقرب إلى “الكاهن” بالنسبة للمؤمنين الكثالكة، فما كان يصحّ له أن يكون فاسقاً أو منحرفا، فكادت المسلكية الشخصية وأخلاقياتها أن تكون درساً يُعلّم ويراقب وتُصحّح تمارينه وتُعطى له العلامات التي تتدخل في تحديد مستوى كفاءة العضو، وإذا كان “القوميون” قد وجدوا لاحقاً في “الجيفارية” تعبيراً يميّز مسلكيتهم فإنّهم في رقابتهم الأخلاقية الصارمة لسلوك العضو كانوا متأثّرين بتقليد “عصبة العمل القومي” في الثلاثينيات.

بهذا المعنى قامت “الحركة” على نظام الطاعة، وهو ما عبّرت عنه نظريتها التنظيمية التي حملت اسم “المركزية المرنة”، وبيّنت “الحركة” أنّ “المركزية المرنة” أقرب بطبيعة الحال إلى المركزية يحكمها نظاما السرية والطاعة. ولا تختلف “المركزية المرنة” هنا من الناحية الإجرائية عن التطبيق الإجرائي الفعلي لمبدأ “المركزية الديمقراطية” في الأحزاب الشيوعية، ويفسر ذلك أن “الحركة” لم تجد أي خلاف جوهري بين “مركزيتها المرنة” و”مركزية الشيوعيين الديمقراطية” فاستخدمت بدءاً من عام 1957 مصطلح “المركزية الديمقراطية” في أدبياتها”

يقول الحكيم: “أنا لا أتذكر تماماً ما إذا كانت المبادرة في اختيار اسم “حركة القوميين العرب” مني، لكنّني في أي حال كنت أرى أنّه من الأفضل استمرار العمل تحت هذه التسمية. وبدأنا تحركنا السياسي في الوطن العربي، وفي أكثر من ساحة، وكانت مفاهيمنا تتركز حول موضوع القومية العربية بمعنى أنّ العرب أمة واحدة ولا بد من توحيدهم في دولة واحدة، وكنّا في ذلك نرد على كل الحركات الإقليمية والشعوبية في الوطن العربي، وكان هذا منطلقنا الأساسي، كما كنّا نرى أنّ موضوع القومية هو الأساس في تنظيم المجتمعات في العالم. وبالإضافة إلى مسألة القومية، طرحنا مسألة التحرر والسيادة والاستقلال للأمة العربية. أما المنطلق الثالث من شعارنا وهو “الثأر” فكان القصد منه استرداد فلسطين”. (1)

بعد أوسلو

تمّ إطلاق عدة فعاليات شبابية مناهضة لهذا الاتفاق، وكانت الجامعات منطلقاً لمعظم هذه التحركات التي واجهت الضغوط والقمع المننهج، مما أدى إلى خفض تأثيرها في الخريطة السياسية الفلسطينية.

لعب المثقفون الشباب دوراً ريادياً في العديد من المحافل الهامة كالأدب والفنون والحضور الأكاديمي، مما أتاح لبعضهم فرصة الانضمام إلى الخريطة السياسية المحلية في فلسطين دون أن يستطيعوا الخروج من عباءة الأحزاب وعلى رأسها: حركة فتح وسيطرتها على السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير.

في الألفية الجديدة، خلال العقدين الماضيين، تمّ تأسيس مجموعة حركات منبثقة عن الحراكات الطلابية (جامعة بيرزيت، جامعة النجاح،…) في الضفة و غزة، دون أن تثمر بالمفهوم السياسي لتنتجَ مؤسسات، تراقب عمل الحكومة أو المؤسسات التابعة لها، فبقيت بمستوى تحركات احتجاجية تواكب أحداثاً معينة ثم تعود لخمولها (أو إعادة إنتاجها) بضغوط فاعلة من السلطة والأحزاب التقليدية.

لا يزال استهداف أي حراك معارض، مستمراً وبأساليب مختلفة، ليس أقلها، شخصنة الخصومة والدفع باتهامات متنوعة لقادة الحراك (جنائية، أمنية،…) لضرب أي شخصيات فاعلة ومؤثرة للطعن بمصداقيتها في الشارع الفلسطيني

لا يزال استهداف أي حراك معارض، مستمراً وبأساليب مختلفة، ليس أقلها، شخصنة الخصومة والدفع باتهامات متنوعة لقادة الحراك (جنائية، أمنية،…) لضرب أي شخصيات فاعلة ومؤثرة للطعن بمصداقيتها في الشارع الفلسطيني، وهنا من الجدير التذكير بقضية (نزار بنات) حيث استخدمت السلطة حججاً واهية لتفعيل أوامر الاغتيال المباشر، من قِبل رئيس السلطة محمود عباس “أبو مازن”.

أدّت هذه القضية إلى إثارة الرأي العام الفلسطيني مما أعاد للواجهة التساؤل عن جدوى الحراك في ظل وجود منظومة سياسية فاسدة، تجتهد لتعميق الشرخ في المجتمع وتعمل لصالح أجندة الاحتلال والمصالح الخاصة لرجالات السلطة.

قراءة الإنتخابات المحلية الأخيرة في الضفة، تشير بشكل واضح إلى وجود محاولات شبابية لإثبات الحضور والتأثير بنجاح على بعض المرشحين عن الكتل المستقلة، لكنّهم جميعاً اختاروا العمل من داخل المنظومة التي يتهمونها بالفساد والتواطؤ، وعليه فإنّ أي أثر إيجابي متوقع، لا يمكن أخذه بعين الإعتبار كمحاولة لتغيير الأمر الواقع على نطاق واسع، لكنّ هذا لا يعني رفض هذه المحاولات، بل على القائمين عليها، تعزيزها على مستوى التأثير المجتمعي وخلق قاعدة جماهيرية أوسع تنافس القاعدة التي أنتجتها الأموال الأوروبية الداعمة للسلطة ومؤسساتها الأمنية.

في لبنان

منذ النزوح الفلسطيني من سوريا، بدأت المنافسة على تقاسم حصص التمثيل، وبين أخذ ورد، بلغ الأمر بالصدام المباشر مع اللاجئين لمحاولة إخضاعهم ووضعهم تحت جناح السياسة القائمة، كاجتهاد السفارة الفلسطينية في بيروت لإفشال أي عمل جدي، طالما أنّه ليس منطلقاً من إرداتها وخاضعاً لتوجهاتها، وبالمثل فإنّ باقي فصائل التحالف، واجهت وراكمت العمل لتصل إلى ذات النتيجة.

إنّ واقع هذه الحركات اليوم، مشتتا، منقسماً على نفسه أحيانا، ليدلَّ على نجاح المنظومة السياسية بإخضاع هذه الحركات وتقليل تأثيرها

 بعد عدة محاولات لتأسيس كيانات حراكية مطلبية، نجد أنّ واقع هذه الحركات اليوم، مشتتا، منقسماً على نفسه أحيانا، ليدلَّ على نجاح المنظومة السياسية بإخضاع هذه الحركات وتقليل تأثيرها، مع تضخم الحاجة إليها على أثر الأزمات الاقتصادية  والمتغيرات السياسية وتأُثير جائحة كرونا.

بالمحصّلة

خلال عقود طويلة من العمل السياسي نجد أنّ الفصائل الفلسطينية لا تزال تمارس التقييد التام على أي جهد يهدف لتجديد الدم السياسي، كي يحافظ الحرس القديم على سطوته ومكاسبه، مما يجعل المشهد دراماتيكياً أكثر، ويبقى عنصر الشباب أداة تحقيق مكاسب وخزان وقود يتمّ استخدامه لإثارة الانقسام وتعزيزه، من خلال التعصب الحزبي ومنع وجود أي تمثيل حقيقي خارج هذه المنظومة.

*كاتب فلسطيني

(1) الموقع الرسمي  للجبهة الشعبية. فرع لبنان.


وسوم :
, , , , , , , , , , , ,