جبلُ النّار

التصنيفات : |
أكتوبر 26, 2022 7:50 ص

*بسّام جميل

اعتدنا في الصحافة أن نبدأ مقالاتنا بمقدمة تُكمل العنوان وتشي بالمضمون، وها أنا أعيد صياغة التمهيد لألغيَه أو ربما لا أفعل، فهل يكفي عنوان المقال، لأختزل به مقام النساء؟!

الجواب، نعم. جبل النار، لا يحتاج تمهيداً ولا شرحاً ليصلَ إلى القارئ، ومع الأخبار اليومية التي تردنا لحظة بلحظة من الداخل المحتل، نعلم يقيناً أنّ هذا الجبل هو مدينة نابلس الشهيرة بثوراتها على الغزاة والمستعمرين، لا في عصرنا فحسب، بل منذ تاريخ نشأتها ووطأة أول قدم بشرية فيها.

حسناً فعلت، أن أزيح الستار عن المتوقّع وأنتهز فرصة عرض لمحة تشد القارئ غير المطلع على تاريخ مدن فلسطين. لكنّ موضوع المقال هو جبل نار آخر، فالشعلة، مفردة لا تكفي لتفيَ حقّ المعنى، وليصبحَ التمهيد للقداسة بفهمومها اللغوي الذي ارتبط بفلسطين، مهد الديانات الإبراهيمية، لا يتسع لشرح هذه المفردة بل التساؤل عن قدرة اللغة على احتمال إرباكات الفهم البشري لما هو مقدّس.. قدّيس.. قدس، فهل لا تزال اللغة قادرة على منح معانٍ جديدة لهذه المفردة، لاحتمال أن تكون مدينة، خلقا، فعلا، شخصاً بعينه، أو هالةً ترشح زيت ضيائها من وجه امرأة؟!.

تقول الأسطورة، أنّ ظلاً ظهر على جبل منذ آلاف السنين، كان يبحث عن سكينته في امتداد فقْده، لحظة الطرد من فردوس مقدّس. وأخذ هذا الظل يرقب ويبحث، ثم بعد أن نجا بفوز وصوله لامتداده، عاهد نفسه على أن يرعى هذه الأرض التي جمعتهما معا، فكانت البشرية.

لا لُبس في أنّ آدم افتتح البشرية، ولا التباس في أنّه دون حواء، ما كان له هذا الفوز والوصول.

خلال قرن كامل، حملت المرأة الفلسطينية على عاتقها، نصف البلاد وأكثر.. قاتلت، حمت، دافعت، وأسندت بل وأنجبت الرجال الرجال.

خلال قرن كامل، حملت المرأة الفلسطينية على عاتقها، نصف البلاد وأكثر.. قاتلت، حمت، دافعت، وأسندت بل وأنجبت الرجال الرجال.

لكنّها لم تكتفِ بأدوارها الطبيعة، أصبحت الاستثناء في شرقنا بجدارة، لا لأسباب الاحتلال والحروب المتوالية، بل لغنى التجربة التي تفرّدت بها.

مهندسة الحياة

يذهب بنا تاريخ المرأة الفلسطينية إلى أول مظاهرة نسائية احتجاجية في العفولة ضد بناء مستوطنة صهيونية في العام 1893، من هنا بزغ فجر نضالها في وجه المحتل وعاهدت نفسها على مساندة الرجال في رحلة استرجاع الأرض وطرد الغزاة.

ثم تأسّس الاتحاد النسائي العربي في القدس، إثر ثورة البراق في العام 1929، بهدف مناهضة الانتداب البريطاني، والوقوف في وجه الإستيطان الصهيوني، عبر مواكبة مراحل النضال المختلفة للشعب الفلسطيني، سواء بنشر القضية الفلسطينية، أو مساعدة الثوار، أو الدعوة إلى تحرير المرأة من خلال تمكينها، علمياً ومهنيا، لتساهمَ في تكوين المجتمع الفريد بكل ما تعنيه الفرادة.

لم ينحصر دور المرأة في دوائر الاتحادات المحلية، بل شمل كل مناحي الحياة الإجتماعية والسياسية والثقافية، حالها حال البلاد، فنجد الأسيرات والشهيدات، والمرابطات في الأقصى، عدا عن دورها الثقافي، في الصحافة المحلية والدولية، وفي الكتابة الأدبية والشعر. نافست على أدوار ريادية عديدة، في تمثيل فلسطين كسياسية ورثت التجربة النضالية وشاركت بها في كل المعارك من خلال حضورها القوي في تشكيلات المقاومة التابعة للفصائل الفلسطينية ومنظمة التحرير وما تبعها من كيانات سياسية تمثّل فلسطين في الداخل المحتل كما في الشتات. تحضرني في معرض الأسماء اللاجئة في لبنان “دلال المغربي”، صاحبة أشهر عملية فدائية شاركت بها امرأة.

في الثقافة، تربّعت الشاعرة فدوى طوقان على سطوة اللغة، وفي الصحافة، لا يزال صدى صوت شيرين أبو عاقلة يتردد في ضمير شعبنا ومناصري قضيتنا حول العالم. يمكنني تعداد عشرات بل مئات الأسماء في شتى الميادين لكنّ الذكر هنا لضرب المثال ليس إلا.

خلال سنوات الاحتلال، تمّ أسر واعتقال آلاف النساء، بعضهن أنجب الأطفال داخل الأسر، وأخريات شاركن في مسيرات العودة في غزة، وأجملهن استقبلت أبناءها شهداء

خلال سنوات الاحتلال، تمّ أسر واعتقال آلاف النساء، بعضهن أنجب الأطفال داخل الأسر، وأخريات شاركن في مسيرات العودة في غزة، وأجملهن استقبلت أبناءها شهداء، وفي هذا المقام، نشاهد يومياً على وسائل الإعلام، صوراً مباشرة لمثل هذه الاستقبالات، فنجد المرأة قوية تتحدّى الاحتلال، بعاطفة الأمومة وصلابة الشجرة المعمّرة، لينتصرَ الشهيد مرتين: مرة بفعل الشهادة ومرة بثبات عائلته ومحبّيه.

بطلة المتاهات

في فلسطين، الخنساء، ليست امرأة واحدة، بل كل نساء هذه البلاد، يتمثّلن بها، صحبة وجلدا، أخلاقاً ورفعة، صبراً وشموخا، فنشهد على تعزية أم الشهيد، لأم شهيد آخر، كأنّ في هذا الفعل وحده، يتسع ضوء جبل النار الأسطوري، ليصبحَ امرأة، كل امرأة في البلاد.

تنشغل البلاد وأهلها بمقاومة الاحتلال، وتنشغل المرأة الفلسطينية، بتعزيز كل أشكال الصمود ومعاني الاشتباك، لتصنعَ نصراً وتحرر الإرادة التي يحتاجها الجيل بعد الجيل. لكن، إذا ما التفتنا إلى مستوى آخر من هذا الحضور، وانعكاس التمسك بذهنية المجتمع الذكوري، وجدنا أنّ ظلماً عتيقاً يلفّها، والمسعى لإنصافها، كإمراة أولا، وأنثى ثانيا، هو شريك حاسم وأصيل في مسارات النضال الفلسطيني.

كل الاستبيانات والأرقام التي تصدرها دوائر الأحوال المدنية، والمؤسسات التي تعمل في قطاع رعاية المرأة، تُظهر هذا الشرخ المقلق، الذي يعكس حجم الانتهاكات، والظلم الواقع عليها، ليُعاد وضعها في نظام تفرقة جنسي، ويحدد دورها الإجتماعي، لا بما تستطيع وتفعل، بل بما يريده لها هذا المجتمع الذكوري، ليبقيَها خاضعة له، كهامش تابع، رغم أنّه في بديهيات العيش، نجدها متفوقة وتلعب أدواراً متنوعة لا يستطيع الرجل أن يمارسها أو يستغنيَ عن مشاركتها لدعم حضوره ونضاله.

تواجه المرأة الفلسطينية، صراعاً متشعبا، بين كفاحها في مقاومة الاحتلال، ودورها في تهيئة الأبطال، ومواجهة الذهنية الشرقية، وبين تمكين نفسها وإثبات أحقيتها بدورها وحقوقها العادلة والمنصفة.

سيبقى عليها أن تدير صراعاتها، فهذه المرأة “الاستثناء”، جبل النار الحقيقي والأسطورة الحية، قادرة على كل هذا وأكثر، وستعيد ترتيب البيت الفلسطيني وتتفانى في تنشئة أجيال متحررة من عقدنا الذكورية وتاريخنا النابض بالتخلّف.. بذات حماسها لتحرير البلاد من الاحتلال الصهيوني.

خلال قرن كامل، استطاعت المرأة الفلسطينية أن تثبت حضورها وضرورتها، في أي مجال عملت به، و في أي دور فُرض عليها. فهل عليها أن تنتظر تحرير فلسطين لتتحرر من قيود أبعد من واقع الاحتلال وتبعاته؟!.

سيبقى عليها أن تدير صراعاتها، فهذه المرأة “الاستثناء”، جبل النار الحقيقي والأسطورة الحية، قادرة على كل هذا وأكثر، وستعيد ترتيب البيت الفلسطيني وتتفانى في تنشئة أجيال متحررة من عقدنا الذكورية وتاريخنا النابض بالتخلّف.. بذات حماسها لتحرير البلاد من الاحتلال الصهيوني.

لكل نساء فلسطين، تحية إيمان صادق بكن، فلا عام ولا يوم لنا دون هذا الحضور المضيء في حياتنا، وكل يوم وكل لحظة وأنتنّ بهاء نصرنا.

*كاتب فلسطيني


وسوم :
, , , , , , , , , , , , ,